فصل: الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفتاوى الهندية



.الْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِهِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَفِيهِمَا اخْتِلَافٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ: قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا صُوَرُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعُقُودِ كَثِيرَةٌ (مِنْ جُمْلَتِهَا) رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا شَاهِدَيْ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا وَحَلَّ لِلْمَرْأَةِ التَّمْكِينُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ لَا يَحِلُّ لَهُمَا ذَلِكَ عَنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ: إنَّمَا يَثْبُتُ نِكَاحٌ مُبْتَدَأٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَضْرَةُ الشُّهُودِ وَقْتَ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ وَمَنْكُوحَتِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَسْخِ كَثِيرَةٌ (مِنْ جُمْلَتِهَا) امْرَأَةٌ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شُهُودَ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَطْؤُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَحِلُّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي وَطْؤُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ لَمْ يُطَلِّقْهَا بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي أَجْنَبِيًّا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَحِلُّ لِلثَّانِي وَطْؤُهَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا.
هَكَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ وَهَلْ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ لَا يَحِلُّ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ بَاطِنًا، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا سِرًّا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي، فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي الْآنَ لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا سَوَاءٌ كَانَ الثَّانِي يَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى رَأْيِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي بِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ مَنْكُوحَةُ الْأَوَّلِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَكَانَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي.
فَاسِدًا عِنْدَهُ فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي فَلَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا.
وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةَ الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الثَّانِي مُشْكِلٌ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّانِي عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي بِهَذَا الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْأَوَّلِ فَوَقَعَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا وَكَانَ هَذَا الْوَطْءُ زِنًا وَمَنْكُوحَةُ الْإِنْسَانِ إذَا زَنَتْ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا.
(وَمِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْفَسْخِ) صَبِيٌّ وَصَبِيَّةٌ سُبِيَا وَهُمَا صَغِيرَانِ فَكَبِرَا وَأَعْتَقَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ثُمَّ جَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمٌ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ فَالْقَاضِي يَقْضِي بَيْنَهُمَا وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَهَادَتِهِمَا حَتَّى تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَا يَسَعُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ وَقَدْ نَفَذَ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَسَعُ الزَّوْجُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ كِذْبِ الشُّهُودِ.
(وَمِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْعَقْدِ) إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْبَيْعِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّك بِعْتَ مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودَ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْجَارِيَةِ لِلْمُشْتَرِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ الْبَيْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ الْمَذْكُورُ مِثْلَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَوْ أَقَلَّ مِقْدَارَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا.
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِقْدَارَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ تَصْحِيحِ الْقَضَاءِ بَاطِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ أَنَّ الْقَاضِيَ بِقَضَائِهِ يَصِيرُ مُنْشِئًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْقَاضِي مُنْشِئًا فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ لِلْبَيْعِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ مِقْدَارَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمِقْدَارِ الْغَبْنِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ إنْشَاءِ التَّبَرُّعِ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا بَلْ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ بِغَبْنٍ فَهُوَ مُبَادَلَةٌ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ، وَصُورَتُهُ رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّك اشْتَرَيْت مُنِيس هَذِهِ الْجَارِيَةَ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودَ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ؛ حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ الْجَارِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ عَزَمَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا هَذَا إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شُهُودَ زُورٍ وَلَوْ لَمْ يُقِمْ الْمُدَّعِي شُهُودًا وَحَلَفَ الْمُشْتَرِي وَرَدَّ الْجَارِيَةَ عَلَى الْبَائِعِ، إنْ عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسِيرُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ وَلَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بِالْقَلْبِ.
(وَمِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْعَقْدِ) رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ هِبَةً مَقْبُوضَةً فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودَ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ لِلْمُدَّعِي فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُذُ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا حَتَّى لَا يَحِلَّ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَنْفُذُ إذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ إنْشَاءِ التَّبَرُّعِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَنْفُذُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ إنْشَاءِ التَّبَرُّعِ فِي الْجُمْلَةِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَفِي الصَّدَقَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَذَا فِي الْكَافِي.
(وَأَمَّا الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ) فَالْقَضَاءُ فِيهَا بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَأَجْمَعُوا أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ ظَهَرُوا عَبِيدًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ أَوْ كُفَّارًا يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ ثُمَّ أَنْكَرَ وَحَلَفَ وَقَضَى لَهُ بِهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، الْكُلُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ قَاضِي خَانْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
(وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ) فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِلَا خِلَافٍ.
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَمَةٌ ادَّعَتْ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا ابْنَتُهُ وَأَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شُهُودَ زُورٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ حُرِّمَ عَلَى الْمَوْلَى وَطْؤُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ مِيرَاثًا هَلْ يَحِلُّ لَهَا أَكْلُهُ؟ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهَا أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَعْضُهُمْ قَالُوا: هَذَا عَلَى الْخِلَافِ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يَحِلُّ لَهَا أَكْلُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: يَحِلُّ لَهَا أَكْلُ مِيرَاثِهِ بِلَا خِلَافٍ.
وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ مِيرَاثِهَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ أَمَتُهُ أَوْ ابْنَتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَتُهُ فَهَذَا كَسْبُ أَمَتِهِ فَيَحِلُّ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَتُهُ كَانَ مِيرَاثُهَا حَلَالًا لَهُ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَامِعِ: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ فِي شَوَّالٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي رَمَضَانَ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ يَوْمَ الشَّهَادَةِ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ فِي رَمَضَانَ أَلْفًا فَلَمْ يَعْدِلَا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ عَدَلَا فَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْعَتَّابِيَّةِ وَإِذَا قَضَى بِعِتْقِ أَمَةٍ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ فَالْعِتْقُ ثَابِتٌ وَلِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَفِي الْمُنْتَقَى شَرَطَ عَلَى قَوْلِهِمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ أَبَانَهَا بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ فَجَحَدَ الزَّوْجُ فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَإِنْ عَلِمْت أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَتْ لَا تَسَعُهَا الْإِقَامَةُ مَعَهُ وَلَا أَنْ يَأْخُذَ مِيرَاثَهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

.الْبَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَحْكُومُ لَهُ أَوْ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَفِيهِ بَعْضُ مَسَائِلِ الْفَتْوَى:

رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ يَرَاهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَرَاجَعَهَا وَرَافَعَتْهُ إلَى قَاضٍ يَرَاهَا ثَلَاثًا فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ يَرَاهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَزَوَّجَهَا وَرَافَعَتْهُ إلَى قَاضٍ يَرَاهَا ثَلَاثًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَذَ هَذَا الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ الْمُقَامُ مَعَهَا وَلَا يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَرَاهَا ثَلَاثًا فَرَافَعَتْهُ إلَى قَاضٍ يَرَاهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً نَفَذَ هَذَا الْقَضَاءُ بَاطِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- حَتَّى يَسَعَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ هَذَا الْقَضَاءُ بَاطِنًا ذَكَرَ الْخِلَافَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي آخِرِ اسْتِحْسَانِ الْأَصْلِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ إنْ كَانَ عَامِّيًّا لَا رَأْيَ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ حُكْمَ الْقَاضِي فِيمَا يَقْضِي فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ أَوْ حَصَلَ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ أَوْ حَصَلَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنْ حَصَلَ الْحُكْمُ بِالْحُرْمَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ فَقِيهًا لَهُ رَأْيٌ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِخِلَافِ رَأْيِهِ إنْ حَصَلَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْحُرْمَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَيَتْرُكَ رَأْيَ نَفْسِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ حَصَلَ الْحُكْمُ لَهُ بِأَنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْحِلِّ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ يَتْبَعُ حُكْمَ الْقَاضِي وَيَتْرُكُ رَأْيَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ.
وَذَكَرَ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ.
اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَتْرُكُ رَأْيَ نَفْسِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى إبَاحَةِ الْقَاضِي فِيمَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ إذَا كَانَ عَامِّيًّا وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَكَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مُلْزِمٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَمَا يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ فَلَا يُتْرَكُ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ كَمَا لَا يُتْرَكُ النَّصُّ بِالِاجْتِهَادِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْإِلْزَامُ فِي جَانِبِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ فَلَا إلْزَامَ، وَلِهَذَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِدُونِ طَلَبِهِ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الْقَضَاءِ فَلَا يَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ جُنَّ جُنُونًا مُطْبَقًا وَلَهُ وَالِدٌ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا ثَلَاثًا قَالَ: نَصَبَ الْقَاضِي وَالِدَهُ خَصْمًا فَإِنْ نَصَبَهُ وَرَأَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَأَبْطَلَهُ وَأَمْضَى النِّكَاحَ ثُمَّ يَبْرَأُ الزَّوْجُ وَهُوَ يَرَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَعَلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ لَهُ وَفِي الْحَاوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَالِمًا وَنَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي وَفِي الْخَانِيَّةِ ثُمَّ شَرَطَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكَوْنِ الْوَالِدِ خَصْمًا أَنْ يَكُونَ جُنُونُ الزَّوْجِ مُطْبَقًا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الْمُطْبَقِ وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ الْجُنُونَ إذَا كَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَا يَصِيرُ غَيْرُهُ خَصْمًا عَنْهُ وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِي حَالَةِ الْإِفَاقَةِ كَمَا فِي الْإِغْمَاءِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْجُنُونَ الْمُطْبَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَلَوْ أَنَّ فَقِيهًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ يَرَاهَا ثَلَاثًا فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَعَزَمَ عَلَى أَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ أَمْضَى رَأْيَهُ الَّذِي كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ وَلَا يَرُدُّهَا إلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بِرَأْيٍ حَدَثَ مِنْ بَعْدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِ رَأْيِهِ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَرَى تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَعَزَمَ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ ثُمَّ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَعْزِمْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْضِ رَأْيَهُ حَتَّى رَآهَا ثَلَاثًا لَمْ يَسَعْهُ الْمُقَامُ مَعَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَرَى أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْضِ رَأْيَهُ حَتَّى رَآهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيهَا وَجَعَلَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَسِعَهُ ذَلِكَ وَلَا يُحَرِّمُهَا رَأْيٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي أَوَّلِ الْمُنْتَقَى لَوْ أَنَّ فَقِيهًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَيَرَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعِيَّةَ وَعَزَمَ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَرَاجَعَهَا ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى لَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ يَرَى يَوْمَ قَالَ ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثٌ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ الْأُخْرَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَكُونُ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ قَدْ قَالَ لَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا تَحِلُّ إحْدَاهُمَا لَهُ وَتُحَرَّمُ الْأُخْرَى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُبْتَلَى فَقِيهًا لَهُ رَأْيٌ فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا آخَرَ فَأَفْتَاهُ بِخِلَافِ رَأْيِهِ يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُبْتَلَى جَاهِلًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِفَتْوَى أَفْضَلِ الرِّجَالِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاجْتِهَادِ لَهُ فَإِنْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ وَقَضَى قَاضٍ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِخِلَافِ الْفَتْوَى، وَالْحَادِثَةُ مُجْتَهِدٌ فِيهَا إنْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى فَتْوَى الْمُفْتِي، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي أَعْلَمَ مِنْ الْقَاضِي فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ لَهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي فِي حَقِّ الْجَاهِلِ بِمَنْزِلَةِ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
وَفِي نَوَادِرِ دَاوُد بْنِ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَجُلٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ اُبْتُلِيَ بِنَازِلَةٍ فِي امْرَأَةٍ فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِأَمْرٍ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ فَعَزَمَ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ ثُمَّ أَفْتَاهُ ذَلِكَ الْفَقِيهُ بِعَيْنِهِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي امْرَأَةٍ أُخْرَى لَهُ فِي عَيْنِ تِلْكَ النَّازِلَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَأَخَذَ بِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَسِعَهُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَأَلَ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ عَنْ نَازِلَةٍ فَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ بِحَرَامٍ فَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ فِي زَوْجَتِهِ حَتَّى سَأَلَ فَقِيهًا آخَرَ فَأَفْتَى بِخِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ الْأَوَّلُ فَأَمْضَاهُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَتَرَكَ فَتْوَى الْأَوَّلِ وَسِعَهُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ أَمْضَى قَوْلَ الْأَوَّلِ فِي زَوْجَتِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَفْتَاهُ فَقِيهٌ آخَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَدَعَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ بِفَتْوَى الْآخَرِ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَوْلُنَا وَفِي الْقُدُورِيِّ: إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ فَقِيهًا وَاسْتَفْتَى إنْسَانًا وَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ بِحَرَامٍ فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ بِقَوْلِ الثَّانِي وَأَمْضَاهُ فِي مَنْكُوحَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَمْضَاهُ فِيهِ وَيَرْجِعَ إلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ وَيَسْتَفْتِي فَقِيهًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ وَسِعَ اتِّبَاعَ فَتْوَاهُ وَإِمْسَاكَ الْمَرْأَةِ وَفِي النَّوَازِلِ إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى ثُمَّ اسْتَفْتَى فَقِيهًا آخَرَ فَأَفْتَى بِصِحَّةِ الْيَمِينِ يُفَارِقُ الْأُخْرَى وَيُمْسِكُ الْأُولَى عَامِلًا بِقَوْلِهِمَا، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.

.الْبَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ فِي الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ:

قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْ إجْمَاعٌ وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتَرِ أَوْ إجْمَاعٌ فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ نَفَّذَهُ الثَّانِي وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّقْضُ وَإِنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَرُدَّهُ الثَّانِي بَلْ يُنْفِذُهُ، فَإِنْ رَدَّهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ وَأَبْطَلَ قَضَاءَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمْ لَا كَمَا لَوْ قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ أَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ الْأَوَّلَ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحَلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ أَنَّهُ هَلْ يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمَا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى.
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَخَرَجَ عَنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ؛ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ بَلْ يَرُدُّهُ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.
إذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ بِأَنْ قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ لِلْغَائِبِ هَلْ يَنْفُذُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي رِوَايَةٍ لَا يَنْفُذُ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ وَهُوَ صَحِيحٌ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: كُلُّ أَمْرٍ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ.
وَجَاءَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ جَاءَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَجَاءَ عَنْ ذَلِكَ الْجُلِّ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ وَعَمِلَ النَّاسُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ أَوْ عُمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَمْ يُعْمَلْ بِالْآخَرِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ أَحَدٌ فَهُوَ مَتْرُوكٌ مَنْسُوخٌ فَإِنْ حَكَمَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا لَمْ يَجُزْ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ قَضَى بِالنَّصِّ لَكِنْ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ انْتِسَاخُهُ، حَيْثُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ بَاطِلٌ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُجِيزُ مِنْ ذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ مِنْ حُكَّامِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ وَبَعْضُهُمْ بِقَوْلِ الْآخَرِ.
يَعْنِي: بَعْضُ الْحُكَّامِ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ خِلَافِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يَعْتَبِرْ الْعُلَمَاءُ وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِيهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي رِبَا النَّقْدِ حَتَّى أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمْ يَعْتَبِرْ خِلَافَهُ حَتَّى لَوْ قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يُجِيز مِنْ ذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِحَقِيقَةِ الِاخْتِلَافِ فِي صَيْرُورَةِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ.
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ إلَّا.
أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا اُعْتُبِرَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ، وَالْقَاضِي الْإِمَامُ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ اعْتَبَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي آخِرِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَصُورَةُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَوْ أَنَّ إمَامًا رَأَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَسَبَاهُمْ وَقَسَمَهُمْ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَجَلُّ شَيْخُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ذَكَرَ فِي قَضَاءِ الْجَمْعِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةٍ وَخِلَافَهُ وَاعْتَبَرَهُ.
وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ نَظِيرُ حُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهِدَاتِ وَأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيمَا رَوَى الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَفِي الْمُنْتَقَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِاشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ لَا لِحَقِيقَةِ الِاخْتِلَافِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَامِعِ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْأَقْضِيَةِ صُورَةُ مَا ذَكَرَ فِي السَّيْرِ لَوْ رَأَى إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلَ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَبِلَ جَازَ وَإِنْ كَانَ هَذَا خَطَأً عِنْدَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَكَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدًا فِيهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ كَذَلِكَ تَصِيرُ مُجْتَهَدًا فِيهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي مِثْلِهَا، كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَيَتْرُكَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ وَيَقْضِي بِرَأْيِهِ حَتَّى يَصِحَّ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوَاضِعَ الِاجْتِهَادِ وَالِاخْتِلَافِ فَفِي نَفَاذِ قَضَائِهِ رِوَايَتَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ، كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَلَوْ ادَّعَى الْمُدَّعِي فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ عَنْ الْإِنْكَارِ بَدَلَ الصُّلْحِ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا يَلْزَمُنِي أَدَاؤُهُ بِسَبَبِ فَسَادِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِصِحَّةِ الصُّلْحِ وَأَبْطَلَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، كَذَا ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شُرُوطِهِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَجَامِعِ الْفَتَاوَى الْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا وَلَكِنَّهُ قَضَى بِتَقْلِيدِ فَقِيهٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِهِ يَنْفُذُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضَهُ لَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ وَالْقَاضِي إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَقَالَا: لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَإِذَا نَسِيَ رَأْيَهُ وَقَضَى بِرَأْيِ غَيْرِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ رَأْيَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَقَالَ: يُرَدُّ قَضَاؤُهُ، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْفَتْوَى، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّارِكَ لِمَذْهَبِهِ عَمْدًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا لِهَوًى بَاطِلٍ لَا لِقَصْدٍ جَمِيلٍ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ فَأَمَّا الْمُقَلَّدُ فَإِنَّمَا وَلَّاهُ لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، هَكَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.
وَإِنْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ هِيَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ بِرَأْيِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يُعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي وَلَا يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الثَّانِي، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.
قَالَ صَاحِبُ الْأَقْضِيَةِ: وَإِذَا زَنَى رَجُلٌ بِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَجَلَدَهُ الْقَاضِي وَرَأَى أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ فَأَقَرَّهَا مَعَهُ وَقَضَى بِذَلِكَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِهِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً زَنَى بِهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِنَفَاذِ هَذَا النِّكَاحِ فِي نَفَاذِ هَذَا الْقَضَاءِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
الْقَاضِي إذَا قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحِ الَّتِي زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا نَفَذَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَإِذَا قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَعُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَا لَا يُجَوِّزَانِ بَيْعَهَا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ آخِرًا: يَجُوزُ بَيْعُهَا ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَتَرَكُوا قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ آخِرًا بَعْدَ هَذَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ وَكَأَنَّهُ مَالٌ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ؟ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَرْفَعُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا ارْتَفَعَ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ قَضَاءُ هَذَا الْقَاضِي فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- إذَا لَمْ يَرْتَفِعْ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ كَانَ هَذَا قَضَاءً فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ يَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الْكُلِّ فَلَا يَنْفُذُ عِنْدَ الْكُلِّ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ قَوْلَ الْكُلِّ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ.
وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
مِنْ أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنْ أَمْضَاهُ قَاضٍ آخَرُ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إبْطَالُهُ، وَإِنْ أَبْطَلَهُ قَاضٍ آخَرُ بَطَلَ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إمْضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِمُخْتَلِفَةٍ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِيهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ إنْ أَمْضَاهُ قَاضٍ آخَرُ يُنْفِذُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إبْطَالُهُ وَإِنْ أَبْطَلَهُ قَاضٍ آخَرُ بَطَلَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إمْضَاؤُهُ، وَفِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا أَسَارَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يُحْرِزُوهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذُوهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ يُرَدُّونَ عَلَى الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ اقْتَسَمَ الْفَرِيقُ الثَّانِي أَوْ لَمْ يَقْتَسِمُوا، قَالَ فِي الْكِتَابِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي.
أَمَّا مَا يَرَى مَا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ تَمَلُّكًا وَإِحْرَازًا فَحِينَئِذٍ كَانَ الْفَرِيقُ الثَّانِي أَوْلَى، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَوْلَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهُ بِعَسْكَرِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ جَيْشٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حَتَّى قَسَمَ الْمَتَاعَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ وَالْمَتَاعُ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ الْحَالَ وَرَأَى إحْرَازَهُمْ بِالْعَسْكَرِ إحْرَازًا تَامًّا فَخَمَّسَهُ وَقَسَّمَهُ مَعَ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ يَرَى ذَلِكَ غَيْرَ إحْرَازٍ جَازَ مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُبْطِلْهُ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قُلْنَا فِيمَنْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ عَلَى الْغَائِبِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ يَقُولُ: لَيْسَ لَلنِّسْوَانِ شَهَادَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ أَصْلًا، وَلَكِنْ قِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ مِنْ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ فِيهِمَا.
وَمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْمِلْكِ لِلْكَافِرِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ نَافِذٌ، قِيلَ: وَقَدْ ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
قَالَ: وَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ وَفِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ مِنْ تَعْلِيقِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ، وَلَوْ قَضَى بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَنْفُذُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ.
وَلَوْ قُضِيَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَا يُبْطِلُهُ.
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ اشْتَرَى رَجُلٌ دَابَّةً وَغَزَا عَلَيْهَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَعَهُ فِي الْعَسْكَرِ خَاصَمَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَرْكَبَهَا وَلَكِنْ يَسُوقَهَا مَعَهُ حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ حَمْلِ أَمْتِعَتِهِ عَلَيْهَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ، وَجَدَ دَابَّةً أُخْرَى أَوْ لَمْ يَجِدْ، فَإِنْ أَتَى الْإِمَامَ وَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَهُ بِالرُّكُوبِ فَرَكِبَ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الرُّكُوبِ لِمَا أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ فَرَكِبَ وَلَمْ يُنْقِصْهَا رُكُوبُهُ فَلَهُ الرَّدُّ وَإِنْ لَمْ يُكْرِهْهُ الْإِمَامُ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَكِنْ قَالَ: ارْكَبْهَا وَأَنْتَ عَلَى رَدِّك فَرَكِبَهَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ فَإِنْ ارْتَفَعَا إلَى قَاضٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَدَّهَا بِالْعَيْبِ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لِمَا قَالَ لَهُ الْأَمِيرُ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ رُفِعَتْ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى مَا صَنَعَ الْأَوَّلُ خَطَأً فَإِنَّهُ يُمْضِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَضَى بِإِبْطَالِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ.
وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ بَعْضُهُمْ قَالُوا: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَامَّتُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي أَبْوَابِ الْفِدَاءِ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ رَقِيقًا وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فَبَاعَ الْقَاضِي رَقِيقَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ دَبَّرَهُ كَانَ بَيْعُ الْقَاضِي فِيهِ بَاطِلًا.
وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِتَدْبِيرِهِ فَاجْتَهَدَ وَأَبْطَلَ تَدْبِيرَهُ، ثُمَّ وَلِيَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى ذَلِكَ خَطَأً يَنْفُذُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ.
الشَّهَادَاتِ وَالْمَذْكُورُ ثَمَّةَ وَإِذَا شَهِدَ مَحْدُودَانِ فِي قَذْفٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ عَلِمَ فَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حُجَّةٌ أَمْضَى قَضَاءَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ ذَلِكَ نَقَضَ قَضَاءَهُ، وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِكَوْنِ الشَّاهِدِ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ فِي حَالِ ابْتِدَاءِ الشَّهَادَةِ إنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَقْضِي بِهَا وَمَا لَا فَلَا فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدِ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا عَلِمَ بِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ أَيْضًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
إذَا قَضَى الْقَاضِي فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ وَإِنَّمَا يَنْفُذُ إذَا عَلِمَ بِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ وَفِي الْخُلَاصَةِ.
أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعْنِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِالِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ لَكِنْ يُفْتَى بِخِلَافِهِ، كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَهُنَا شَرْطٌ آخَرُ لِنَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَصِيرَ الْحُكْمُ حَادِثَةً فَتَجْرِي فِيهَا خُصُومَةٌ صَحِيحَةٌ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي مِنْ خَصْمٍ عَلَى خَصْمٍ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
إذَا قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ شَهَادَتَهُ حُجَّةٌ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَفِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ مِنْ تَعْلِيقِي عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَيْزَاخَزِيِّ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ إنَّمَا لَا يُبْطِلُ الثَّانِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الْأَوَّلُ يَرَاهُ حَقًّا وَعَلِمَ الثَّانِي أَنَّ الْأَوَّلَ يَرَاهُ حَقًّا بِأَنْ أَظْهَرَ الْأَوَّلُ ذَلِكَ لِلثَّانِي أَوْ لَمْ يَعْرِفْ الثَّانِي أَنَّ الْأَوَّلَ هَلْ يَرَاهُ حَقًّا أَمْ لَا، أَمَّا إذَا عَلِمَ الثَّانِي أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَرَ ذَلِكَ حَقًّا بِأَنْ قَالَ الْأَوَّلُ: الصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ تَابَ كَانَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَهُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إذَا قَضَى قَبْلَ التَّوْبَةِ فَالْقَاضِي الثَّانِي يُبْطِلُ قَضَاءَهُ لَا مَحَالَةَ حَتَّى لَوْ نَفَذَ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ فَلَهُ أَنْ يَنْقُصَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ الْقَضَاءُ مِنْ الثَّانِي مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا لَكِنْ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُنْفِذَهُ حَتَّى لَوْ نَفَّذَهُ قَاضٍ آخَرُ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ لَيْسَ لِلثَّالِثِ أَنْ يُبْطِلَهُ، كَذَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ.
وَالْفَاسِقُ إذَا قَضَى فَرَفَعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَهُ لَيْسَ لِقَاضٍ ثَالِثٍ أَنْ يُنْفِذَهُ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ.
لَوْ كَانَ الْقَاضِي أَعْمَى فَقَضَى يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ، وَإِذَا أَمْضَى لَا يُبْطِلُهُ الثَّالِثُ وَإِنْ لَمْ يُمْضِهِ الثَّانِي لَكِنَّهُ أَبْطَلَهُ وَهُوَ يَرَى بُطْلَانَهُ بَطَلَ إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَعَ آخَرَ لِصَاحِبِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ أَوْ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ نَفَذَ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي إبْطَالُهُ، وَإِنْ رَأَى بُطْلَانَهُ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
وَلَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِرَضَاعٍ يُرَدُّ قَضَاؤُهُ، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَالْقَاضِي الْمُطْلَقُ إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَهُوَ يَرَى جَوَازَهُ نَفَذَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي حُجَّةِ الْقَضَاءِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَهُوَ شُرَيْحٌ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة فِي فَتَاوَى الْقَاضِي ظَهِيرِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ إذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُمَا كَافِرَانِ يُرَدُّ قَضَاؤُهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمَا أَعْمَيَانِ فَقَدْ ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ كِتَابِ الرُّجُوعِ أَنَّ الْجَوَابَ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجَوَابَ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي الْعَبْدَيْنِ، وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ اُسْتُقْضِيَ وَقَضَى بِقَضِيَّةٍ ثُمَّ رُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَمْضَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إمْضَاؤُهُ وَهَذَا الْجَوَابُ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مُشْكِلٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِشَهَادَتِهِ وَالصَّبِيُّ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا أَصْلًا وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَصْلُحُ قَاضِيًا، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَيَصْلُحُ شَاهِدًا عِنْدَ مَالِكٍ وَشُرَيْحٍ فَيَصْلُحُ قَاضِيًا فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ إمْضَاءُ قَاضٍ آخَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ، كَمَا فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُقْضِيَتْ جَازَ قَضَاؤُهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ فَإِنْ قَضَتْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ثُمَّ رُفِعَ قَضَاؤُهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَمْضَاهُ نَفَذَ إمْضَاؤُهُ وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ قَضَاءِ الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي وَقْفِ فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
إذَا قَضَى الْقَاضِي بِقَتْلٍ فِي قَسَامَةٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَصُورَتُهُ قَتِيلٌ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ وَادَّعَى أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّك قَتَلْته قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَدَاوَةٌ مَعَ غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَيْنَ دُخُولِهِ فِي الْمَحَلَّةِ وَوُجُودِهِ قَتِيلًا مُدَّةً قَرِيبَةً، فَالْقَاضِي يُحَلِّفُ وَلِيَّ الْقَتِيلِ عَلَى دَعْوَاهُ فَإِذَا حَلَفَ قَضَى لَهُ بِالْقِصَاصِ وَعِنْدَنَا فِيهِ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
وَإِذَا قَضَى بِالْقَوَدِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَنْقُضُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا، كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ.
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يَخْلُفْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ نَفَقَةً فَرَفَعَتْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، فَكَتَبَ الْقَاضِي إلَى عَالِمٍ يَرَى التَّفْرِيقَ بِالْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ النَّفَقَةِ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ هُنَا عَقَارٌ وَأَمْلَاكٌ هَلْ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِلنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ رُفِعَ هَذَا الْقَضَاءُ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَجَازَ قَضَاءَهُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ.
ذُكِرَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَطَاءُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الصَّغِيرَةِ زَوَّجَهَا مِنْ صَغِيرٍ وَقَبِلَ أَبُوهُ وَكَبِرَ الصَّغِيرَانِ وَبَيْنَهُمَا غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ وَقَدْ كَانَ التَّزْوِيجُ بِشَهَادَةِ الْفَسَقَةِ هَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَبْعَثَ إلَى شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ لِيُبْطِلَ هَذَا النِّكَاحَ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ بِشَهَادَةِ الْفَسَقَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلِلْقَاضِي الْحَنَفِيِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِهَذَا الْمَذْهَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ إذَا قَضَى بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، وَأَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ أَخْذًا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ نَجْمُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَ أُسْتَاذِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرَى ذَلِكَ وَلَكِنْ لَوْ بَعَثَ إلَى شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ لِيَعْقِدَ بَيْنَهُمَا وَيَقْضِيَ بِالصِّحَّةِ يَجُوزُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْكَاتِبُ وَالْمَكْتُوبُ إلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا وَبِهَذَا الْقَضَاءِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ النِّكَاحَ الْأَوَّلَ حَرَامٌ أَوْ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى.
ذُكِرَ فِي نِكَاحِ الْمُلْتَقِطِ لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ فِي مَحْفِلٍ (أَيْنَ شوي مِنْ است) وَقَالَ الرَّجُلُ: (أَيْنَ زَنِّ مِنْ است) اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ هَذَا النِّكَاحِ وَلَوْ قَضَى بِالنِّكَاحِ صَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَأَجَازَهُ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ جَازَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى شَهْرٍ يَصِحُّ وَيَبْطُلُ ذِكْرُ الْوَقْتِ فَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ هَذَا النِّكَاحِ يَنْفُذُ، وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ، وَصُورَتُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَتَمَتَّعُ بِكِ كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِلَفْظَةِ التَّزَوُّجِ بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك إلَى شَهْرٍ أَوْ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّهُ لَوْ قَضَى بِذَلِكَ قَاضٍ يَجُوزُ وَلَوْ قَضَى بِرَدِّ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ بِعَيْبِ عَمًى أَوْ جُنُونٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: يَرُدُّ الْمَرْأَةَ الزَّوْجُ بِعُيُوبٍ خَمْسَةٍ وَلَوْ قَضَى بِرَدِّ الْمَرْأَةِ الزَّوْجُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ نَفَذَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِالرَّدِّ، وَلَوْ قَضَى بِإِبْطَالِ الْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ أَخْذًا بِقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إنْ قَدَّمَ النِّكَاحَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سُقُوطُهُ إمَّا بِالْإِبْقَاءِ أَوْ بِالْإِبْرَاءِ، فَهَذَا الْقَضَاءُ بَاطِلٌ وَلَوْ قَضَى بِأَنَّ الْعِنِّينَ لَا يُؤَجَّلُ يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ وَيُؤَجَّلُ وَفِي الصُّغْرَى، وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ فَسْخٌ كَالْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّ خُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَإِذَا قَضَى بِكَوْنِهِ فَسْخًا نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَلَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ أَوْ بِالسَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ يَجُوزُ، كَذَا فِي.
الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
إذَا رَاجَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَرُفِعَ الْأَمْرُ إلَى قَاضٍ يَرَى رِضَا الْمَرْأَةِ شَرْطًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَبْطَلَ الرَّجْعَةَ هَلْ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْفَصْلُ مُجْتَهَدًا فِيهِ؟ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ رِضَا الْمَرْأَةِ لَيْسَ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِهِمْ ذَلِكَ، وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ رِضَا الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ لِلنِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُؤَالَاتِهِمْ يَمْنَعُونَ هَذَا الْفَصْلَ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ مُجْتَهَدًا فِيهِ فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حُبْلَى أَوْ حَائِضٌ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى قَاضٍ بِبُطْلَانِ طَلَاقِ الْحَامِلِ أَوْ الْحَائِضِ، وَبِبُطْلَانِ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَا لَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ طَلَاقِ مَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ وَلَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَلَوْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَمْضِي قَضَاءُ الْأَوَّلِ ذُكِرَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَضَى بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَذُكِرَ فِي بَابِ دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَسَاغًا فَهُوَ مَذْهَبُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ خُلْعِ الْأَبِ عَلَى صَغِيرَتِهِ نَفَذَ، وَلَوْ قَضَى بِمُضِيِّ عِدَّةِ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ بِالْأَشْهُرِ حُكِيَ فِي حَيْضِ مِنْهَاجِ الشَّرِيعَةِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ تَرَ فِيهَا الدَّمَ: يُحْكَمُ بِإِيَاسِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا مُمْتَدَّةُ الطُّهْرِ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ وَهُوَ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى الْخَمْسِينَ أَوْ انْقَطَعَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ أَوْ بِسَنَتَيْنِ فِيمَا اخْتَارَهُ جَدِّي شَيْخُ الْإِسْلَامِ بُرْهَانُ الدِّينِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَقَضَى بِذَلِكَ.
قَاضٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ حِفْظُهُ فَإِنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ وَلَوْ قَضَى بِنِصْفِ الْجِهَازِ لِمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ الْمَرْأَةُ الْمَهْرَ مِنْهُ وَتَجَهَّزَتْ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ قَضَى بِالْقُرْعَةِ فِي رَقِيقٍ أَعْتَقَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ نَفَذَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولَانِ بِالْقُرْعَةِ، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
رَجُلٌ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ أَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَقَضَى الْقَاضِي لِلْآخَرِ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ فَبَاعَ ثُمَّ اخْتَصَمَا إلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يَرَى ذَلِكَ ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَالْقَضَاءَ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ حَاكِيًا عَنْ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ قَوْلُ الْخَصَّافِ وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَلَوْلَا قَوْلُ الْخَصَّافِ لَقُلْنَا: إنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ.
الْقَاضِي إذَا قَضَى فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَمَّسَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَفِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ رَهْنِ الْمُشَاعِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي شُرُوطِ أَبِي نَصْرٍ الدَّبُوسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِذَا وَقَعَ الرَّهْنُ مُشَاعًا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ حَتَّى يَصِحَّ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمَاءِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ، وَإِنْ أَبْطَلَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ الْإِجَازَةَ فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعٍ فَسَدَ بِسَبَبِ أَجَلٍ مَجْهُولٍ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ إذَا خُوصِمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَحَلَّ لِلْمُشْتَرِي إمْسَاكُهُ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَأَمَّا بَيْعُ الْمُكَاتَبِ بِرِضَاهُ فَيَصِحُّ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَوْ قَضَى فِي الْمَأْذُونِ فِي النَّوْعِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا يَنْفُذُ، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ وَمَا يَفْعَلُ الْقُضَاةُ مِنْ التَّفْوِيضِ إلَى شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ فِي فَسْخِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَبَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمُفَوِّضُ يَرَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَاحَ لِي اجْتِهَادٌ فِي ذَلِكَ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَفْوِيضُهُ وَقِيلَ: يَصِحُّ التَّفْوِيضُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ وَإِنْ فَوَّضَ إلَى شَافِعِيٍّ لِيَقْضِيَ بِرَأْيِهِ أَوْ لِيَقْضِيَ بِمَا هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّفْوِيضُ عِنْدَ الْكُلِّ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا قَضَى بِخَلَاصٍ فِي دَارٍ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ الضَّامِنَ بِدَارٍ مِثْلِهَا ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَبْطَلَهُ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ بَاعَ دَارًا لَهُ وَضَمِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الْخَلَاصَ أَوْ ضَمِنَ أَجْنَبِيٌّ لَهُ الْخَلَاصَ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الضَّامِنُ لِلْمُشْتَرِي: إنْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُشْتَرَاةُ مِنْ يَدِك فَأَنَا ضَامِنٌ لَك اسْتِخْلَاصَ الدَّارِ أَحْتَالُ حَتَّى أَسْتَخْلِصَ لَك الدَّارَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ وَأُسَلِّمُهَا إلَيْك، وَإِنْ عَجَزْت عَنْ تَسْلِيمِهِ وَاسْتِخْلَاصِهَا اشْتَرَيْت دَارًا مِثْلَهَا وَأُسَلِّمُهَا إلَيْك فَهَذَا الضَّمَانُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ ضَمَانِ الْخَلَاصِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْأَقْضِيَةِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَتَفْسِيرُ ضَمَانِ الْخَلَاصِ وَالْعُهْدَةِ وَالدَّرْكِ وَاحِدٌ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَفْسِيرُ ضَمَانِ الْخَلَاصِ مَا ذَكَرْنَا وَتَفْسِيرُ ضَمَانِ الدَّرْكِ مَا قَالَا وَتَفْسِيرُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ الصَّكِّ الْقَدِيمِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا كَانَ وَاحِدًا وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ هَذَا الضَّمَانُ صَحِيحًا، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الضَّامِنِ فَمَتَى قَضَى قَاضٍ بِصِحَّةِ هَذَا الضَّمَانِ وَأَثْبَتَ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الْخُصُومَةِ مَعَ الْكَفِيلِ يَنْفُذُ هَذَا الْقَضَاءُ فَإِذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يُبْطِلُهُ فَأَمَّا إذَا ضَمِنَ تَسْلِيمَ الدَّارِ إلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ فَلَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةَ رَجُلٍ أَوْ ابْنَتَهُ عَفَتْ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ قَاضٍ لِمَا أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا عَفْوَ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقِصَاصِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَقَضَى بِالْقَوَدِ لِلرَّجُلِ، فَقَبْلَ أَنْ يُقَادَ الرَّجُلُ رُفِعَ إلَى قَاضٍ يَرَى عَفْوَ النِّسَاءِ صَحِيحًا فَالْقَاضِي يُنْفِذُ ذَلِكَ الْعَفْوَ وَيُبْطِلُ الْقَضَاءَ بِالْقَوَدِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَتَلَ نَفَذَ، فَالْقَاضِي الثَّانِي لَا يَتَعَرَّضُ بِشَيْءٍ، هَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ وَصَاحِبُ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِالْقِصَاصِ عَالِمًا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
وَفِي الْفَتَاوَى وَالْخُلَاصَةِ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ يَنْفُذُ.
وَفِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةُ زُورٍ أَنَّ أَمَتَهُ ابْنَتُهُ وَقُضِيَ بِذَلِكَ فَإِنَّهَا ابْنَتُهُ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مِيرَاثِهَا شَيْئًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا وَإِذَا قُضِيَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَإِذَا قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ عَلَى خَطِّ ابْنِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَإِذَا قُضِيَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى وَصِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ قُرِئَ عَلَيْهِمْ أَمْضَاهُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِمَا فِي دِيوَانِهِ وَقَدْ نَسِيَ أَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى صَكٍّ لَا يَذْكُرُونَ مَا فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ خُطُوطَهُمْ وَخَاتَمَهُمْ أَمْضَاهُ الْآخَرُ وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لِلْأَوَّلِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَنْ لَا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا، فَرَافَعَتْ الْمَرْأَةُ إلَى الْقَاضِي فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يَرَى السَّمَكَ لَحْمًا فَإِنَّ الثَّانِيَ يُمْضِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
فَإِذَا قَالَ الْغَرِيمُ لِلطَّالِبِ: إنْ لَمْ أَقْضِكَ مَالَكَ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَوَارَى الطَّالِبُ وَخَشِيَ الْغَرِيمُ أَنْ لَا يَظْهَرَ الْيَوْمَ فَيَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَأَخْبَرَ الْقَاضِيَ بِالْقِصَّةِ فَنَصَبَ الْقَاضِي عَنْ الْغَائِبِ وَكِيلًا وَأَمَرَ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْمَالِ مِنْ الْمَطْلُوبِ حَتَّى يَبْرَأَ بِقَبْضِ الْمَالِ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ آخَرُ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَجُوزُ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَهَذَا قَوْلُهُمْ وَإِنْ خُصَّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْصِبُ عَنْ الْغَائِبِ وَكِيلًا وَيَقْبِضُ مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا يَحْنَثُ قَالَ النَّاطِفِيُّ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
وَإِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَرَادَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَضَعُ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ، وَلَا يُزَادُ عَلَى وَظِيفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْأَرَاضِيِ بِزِيَادَةِ الطَّاقَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ تِلْكَ الْوَظِيفَةِ بِنُقْصَانِ الطَّاقَةِ، وَبَعْدَمَا نَقَصَ عَنْ تِلْكَ الْوَظِيفَةِ إذَا صَارَتْ الْأَرَاضِي بِحَالٍ تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ يُعَادُ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وُظِّفَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ مِثْلَ وَظِيفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى تِلْكَ الْوَظِيفَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرَاضِي تُطِيقُ الزِّيَادَة بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى وَظِيفَةٍ أُخْرَى بِأَنْ كَانَتْ الْوَظِيفَةُ الْأُولَى دَرَاهِمَ فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى الْمُقَاسَمَةِ أَوْ كَانَتْ الْوَظِيفَةُ الْأُولَى مُقَاسَمَةً فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ أَوْ حَوَّلَهُمْ إلَى وَظِيفَةٍ أُخْرَى وَحَكَمَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِهِ ذَلِكَ ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ وَالٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَنَعَ مَا صَنَعَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ أَمْضَى الثَّانِي مَا فَعَلَهُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ صَنَعَ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ فُتِحَتْ الْأَرَاضِيُ عَنْوَةً ثُمَّ مَنَّ الْإِمَامُ بِهَا عَلَيْهِمْ أَمْضَى الثَّانِي مَا فَعَلَهُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ فُتِحَتْ الْأَرَاضِي بِالصُّلْحِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فَحَوَّلَهُمْ الْإِمَامُ إلَى وَظِيفَةٍ أُخْرَى أَوْ زَادَ عَلَى تِلْكَ الْوَظِيفَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَالثَّانِي يَنْقُضُ فِعْلَ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.