الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
قال الله تعالى: وقال تعالى: وكان هذا في الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة. (ج/ص: 3 /32). فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه. ولهذا قال: وقال: أي: في صدرك {وَقُرْآنَهُ}أي: وأن تقرأه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}أي: تلاه عليك الملك. {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}أي: فاستمع له وتدبره. وفي (الصحيحين) من حديث موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة؛ فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله: قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه: قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم - وللنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة، والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف، والأذى. قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها. قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نضب)). وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) من حديث هشام. قال ابن هشام: القصب هاهنا: اللؤلؤ المجوف. (ج/ص: 3/ 33). قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة؛ سراً إلى من يطمئن إليه من أهله. وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة. قلت: يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء. فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه. وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به. ثم أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة حين افترضت عليه الصلاة. فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقرَّ الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله. فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً. قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان. (ج/ص: 3/ 34). قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان. فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال: ((دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته)). ((وأن تكفر باللات والعزى)). فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمراً حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: ((يا علي إذا لم تسلم فاكتم)). فمكث علي تلك الليلة، ثم أن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غادياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد)). ففعل علي وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره. وأسلم ابن حارثة - يعني: زيداً - فمكثا قريباً من شهر يختلف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام. قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: وكان مما أنعم الله به على علي ومما صنع الله له، وأراده به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - ((يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه حتى نخفف عنه من عياله)).... فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فاتَّبعه علي وآمن به وصدقه. (ج/ص: 3/35) وقال يونس بن بكير، عن محمد ابن إسحاق، حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي - من أهل الكوفة - حدثني إسماعيل بن أبي إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف - وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه - أنه قال: كنت امرءاً تاجراً، فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءاً تاجراً، فأتيته أبتاع منه وأبيعه. قال: فبينا نحن عنده إذ خرج رجل من خباء، فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه. فقلت يا عباس ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ، فكنت أكون ثانياً. وتابعه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وقال: في الحديث: إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي. ثم ذكر قيام خديجة وراءه. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجداً، فسجدا معه. فقلت: يا عباس أمر عظيم ! فقال: أمر عظيم. فقال: أتدري من هذا؟ فقلت: لا فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. أتدري من الغلام؟ قلت: لا قال: هذا علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -. أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي. وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. وقال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد، حدثنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم، والكلبي. قالوا: علي أول من أسلم. قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين. وحدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. قال: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه وصدقه علي بن أبي طالب، وهو ابن عشر سنين، وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام. (ج/ص: 3/ 36). قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال: أسلم علي وهو ابن عشر سنين. قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن علياً أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة. وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الأمة: خديجة وأول رجلين أسلما: أبو بكر، وعلي. وأسلم علي قبل أبي بكر، وكان علي يكتم إيمانه خوفاً من أبيه، حتى لقيه أبوه قال: أسلمت؟ قال: نعم. قال: وازر ابن عمك وانصره. قال: وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام. وروى ابن جرير في (تاريخه): من حديث شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى علي. وحدثنا عبد الحميد بن يحيى، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء وروى من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة - رجل من الأنصار -سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، قال: فذكرته للنخعي فأنكره. وقال: أبو بكر أول من أسلم. ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله سمعت علياً يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين. وهكذا رواه ابن ماجه، عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عبيد الله بن موسى الفهمي - وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الأزدي الكوفي - وثقوه، ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال علي بن المديني: روى أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة. وأما شيخه عباد بن عبد الله - وهو الأسدي الكوفي -فقد قال فيه علي بن المديني: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حبان في الثقات، وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي رضي الله عنه، وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين؟ هذا لا يتصور أصلاً والله أعلم. وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق، والجمع بين الأقوال كلها أن: خديجة أول من أسلم من النساء وظاهر السباقات - وقيل: الرجال أيضاً - وأول من أسلم من الموالي: زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان: علي بن أبي طالب. فإنه كان صغيراً دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت. وأول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم، إذ كان صدراً معظماً، ورئيساً في قريش مكرماً، وصاحب مال، وداعية إلى الإسلام. (ج/ص: 3/ 37) وكان محبباً متألفاً يبذل المال في طاعة الله ورسوله كما سيأتي تفصيله. قال يونس عن ابن إسحاق: ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بلى إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته)). وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر. فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق. قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه)) عكم - أي: تلبث - وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله فلم يقر ولم ينكر، منكر فإن ابن إسحاق، وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته، وحسن سجيته، وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق. فكيف يكذب على الله؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له إن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم، وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناه في سيرته، وأوردنا فضائله وشمائله، وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضاً وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث. وما روي عنه من الآثار والأحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات والله الحمد والمنة. وقد ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي)) مرتين. فما أوذي بعدها، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وقد روى الترمذي، وابن حبان من حديث شعبة، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد. قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا؟ وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد، حدثنا أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث سمعت علياً يقول: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال: علي ابن أبي طالب. وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق. (ج/ص: 3/ 38) رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث شعبة وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم علي بن أبي طالب. قال عمرو بن مرة فذكرته لإبراهيم النخعي فأنكره وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وروى الواقدي بأسانيده عن أبي أروى الدوسي، وأبي مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف: أول من أسلم أبو بكر الصديق. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، عن رجل قال: سئل ابن عباس من أول من آمن؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعت قول حسان: إذا تذكَّرتَ شجْواً من أخي ثقةٍ * فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا خيرَ البريةِ أوفاها وأعدلها * بعد النبيّ وأولاها بما حملا والتاليُ الثانيُ المحمودُ مشهدُه * وأول الناس منهم صدَّق الرسلا عاشَ حميداً لأمرِ الله متبعاً * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا شيخ لنا، عن مجالد، عن عامر قال: سألت ابن عباس - أو سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاماً؟ قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره. وقال أبو القاسم البغوي: حدثني سريج بن يونس، حدثنا يوسف بن الماجشون قال: أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكُّون أن أول القوم إسلاماً أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة. وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاماً، ولكن كان أفضلهم إسلاماً. قال سعد: وقد آمن قبله خمسة. وثبت في (صحيح البخاري) من حديث همام بن الحارث، عن عمار بن ياسر. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة: أعبد وامرأتان، وأبو بكر. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. (ج/ص: 3/ 39) فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد. وهكذا رواه الثوري، عن منصور، عن مجاهد مرسلاً. فأما ما رواه ابن جرير قائلاً: أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص. قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً؟ قال: لا ! ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ولكن كان أفضلنا إسلاماً. فإنه حديث منكر إسناداً ومتناً. قال ابن جرير وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد ابن حارثة، ثم روى من طريق الواقدي، عن ابن أبي ذئب، سألت الزهري من أول من أسلم من النساء ؟ قال: خديجة. قلت: فمن الرجال؟ قال: زيد بن حارثة. وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة. وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر، ومن النساء: خديجة، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن الغلمان: علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عز وجل، وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر. وكان رجلاً تاجراً ذا خلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم على يديه - فيما بلغني - الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر. فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس في الإسلام صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله. (ج/ص: 3/40). وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم، ومهاجراً إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تُسْبَق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعاً حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حديث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر بن أبي قحافة. قال: فخرجت حتى قدمت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم فانطلق إليه فادْخُل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب. فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية - وكان يدعى أسد قريش - فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اكفنا شر ابن العدوية)). وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي حدثنا عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة، حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عبيد الله، حدثني عبد الله بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: حدثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له صديقاً في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني رسول الله أدعوك إلى الله)) فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما بين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص فأسلموا. ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم. قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبي، محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة؛ قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألحَّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: ((يا أبا بكر إنا قليل)). فلم يزل أبو بكر يلحُّ حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه. (ج/ص: 3/ 41). وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم، فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب. فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا: لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاماً، ولا أشرب شراباً، أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأكبَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برَّة بوالدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون رجلاً، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - أو لأبي جهل بن هشام - فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكـَّبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلا مكة. (ج/ص: 3/42). وخرج أبو الأرقم - وهو أعمى كافر - وهو يقول: اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر. فقام عمر فقال: يا رسول الله على ما نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل؟ قال: ((يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا)). فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مرَّ بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس. واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم. قال: ما عليك بأبي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر مؤمناً، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله. وقد استقصينا كيفية إسلام أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد. وثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذٍ مستخفٍ، فقلت: ما أنت؟ قال: ((أنا نبي)). فقلت: وما النبي؟ قال: ((رسول الله)). قلت: الله أرسلك؟ قال: ((نعم)). قلت: بما أرسلك؟ قال: ((بأن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام)). قال: قلت: نِعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا؟ قال: ((حر وعبد - يعني: أبا بكر وبلالاً - قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام)). قال: فأسلمت، قلت: فأتبعك يا رسول الله؟ قال: ((لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني)). ويقال: إن معنى قوله عليه السلام ((حر وعبد)) اسم جنس، وتفسير ذلك: بأبي بكر، وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضاً، فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم، دع الأجانب، دع أهل البادية من الأعراب والله أعلم. (ج/ص: 3/ 43). وفي (صحيح البخاري) من طريق أبي أسامة، عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام. أما قوله: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل، ويروى إلا في اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام. وقد علم أن الصدّيق، وعلياً، وخديجة، وزيد بن حارثة، أسلموا قبله، كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الأثير. ونص أبو حنيفة رضي الله عنه: على أن كلاً من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه والله أعلم. وأما قوله: ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام فمشكل، وما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط بمكة. فأتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال أو فقالا -: عندك يا غلام لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما. فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم ! فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع، ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -. فقال: ((إنك غلام معلم)). فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد. وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة به. ورواه الحسن بن عرفة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود به. (ج/ص: 3/44). وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله بن بطة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن الجهم، قال: حدثنا الحسين بن الفرج، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير، عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان -. قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديماً، وكان أول إخوته أسلم. وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به. ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بحقويه لا يقع، ففزع من نومه، فقال: أحلف بالله أن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أُريد بك خيراً هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها. فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجيادٍ، فقال: يا رسول الله يا محمد إلى ما تدعو؟ قال: ((أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده)). قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وتغيب خالد، وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به، فأنَّبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه. وقال: والله لأمنعنك القوت. فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكرمه ويكون معه. قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق حدثني رجل ممن أسلم - وكان واعية - أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجَّه منها شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، وقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت؟ قال حمزة: ومن يمنعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه. وقال حمزة في ذلك شعراً. (ج/ص: 3/45) قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت. فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشداً فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجاً، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد؟ فحدثني حديثاً فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّره ووعظه، وخوَّفه وبشَّره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وأني على ديني الأول. فكان حمزة ممن أعزَّ الله به الدين. وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به. قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن زياد قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا سياق مختصر. (ج/ص: 3/ 46). وقال البخاري: إسلام أبي ذر: حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى عن أبي حمزة، عن ابن عباس. قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء. فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدمه، وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، اضطجع فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح. ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمرَّ به علي، فقال: أما آن للرجل يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل فأخبره. قال: فإنه حق وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)). فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلا صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام. فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه هذا لفظ البخاري. وقد جاء إسلامه مبسوطاً في (صحيح مسلم) وغيره، فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار - وكان يحلون الشهر الحرام - أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مالٍ وهيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس. فجاء خالنا فثنى ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد. قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتيا الكاهن فخير أنيساً. (ج/ص: 3/47). فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قال: قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: حيث وجهني الله. قال: وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني فقلت ما حسبك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له؟ قال: يقولوا إنه شاعر وساحر، وكان أنيس شاعراً. قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: فقلت له: هل أنت كافيِّ حتى انطلق؟ قال: نعم ! وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنَّعوا له وتجهموا له. قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلاً منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلى الصابئ فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً عليّ، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة، مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان: إساف ونائلة. فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك، فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن. قال: فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال ما لكما؟ فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت ثم صلى. (ج/ص: 3/ 48) قال: فأتيته فكنت أول من حيَّاه بتحية أهل الإسلام. فقال: ((عليك السلام ورحمة الله من أنت؟)) قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار. قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني. قال: متى كنت ههنا؟ قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنها مباركة، إنها طعام طعم)). قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، قال: ففعل. قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد وجِّهت إليَّ أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟)). قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً، قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: صنعت إني أسلمت وصدقت. قال: فما بي رغبة عن دينك. فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما. فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذٍ. وقال: بقيتهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم. قال: وجاءت أسلم. فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله)). ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة به نحوه. وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة فالله أعلم. وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب (البشارات) بمبعثه عليه الصلاة والسلام. روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون: إن محمداً مجنون. (ج/ص: 3/ 49) فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟ قال: فلقيت محمداً؛ فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم. فقال محمد: ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات)). فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: وعلى قومك؟ فقال: وعلى قومي، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً، فمروا بقوم ضماد. فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردها عليهم فإنهم قوم ضماد. وفي رواية فقال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر. وقد ذكر أبو نعيم في (دلائل النبوة) إسلام من أسلم من الأعيان فصلاً طويلاً، واستقصى ذلك استقصاءً حسناً رحمه الله وأثابه. وقد سرد ابن إسحاق أسماء من أسلم قديماً من الصحابة رضي الله عنهم. قال: ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر - وهي صغيرة -، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وخباب بن الأرت، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود. ومسعود بن القاري، وسليط بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلمة بن مخرمة التيمي، وخنيس بن حذافة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فكيهة ابنة يسار، وحطاب بن الحارث، و امرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد مناف، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم. (ج/ص: 3/ 50). والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن سعيد، وأمينة ابنة خلف بن سعد بن عامر بن بياضة بن خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن عرين بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي، وخالد ابن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث. وكان اسم عاقل غافلاً فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقلاً، وهم حلفاء بني عدي بن كعب، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان. ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء، حتى فشا أمر الإسلام بمكة، وتحدث به. قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين. قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلاً من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام. وروى الأموي في (مغازيه) من طريق الوقاصي، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه. فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله. إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم، وذكر ما لقي من الأذية منهم، هو وأصحابه رضي الله عنهم. قال الله تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: أي: أن الذي فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن: لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك. كما قال تعالى: وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء: وأوردنا أحاديث جمَّة في ذلك، فمن ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله قالوا: نعم ! قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فقال أبو لهب - لعنه الله -: تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله عز وجل: وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه. وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، وحدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة. قال: لما نزلت هذه الآية ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وله طرق أخر عن أبي هريرة في مسند أحمد وغيره. (ج/ص: 3/ 52). وقال أحمد أيضاً: حدثنا وكيع بن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم)) ورواه مسلم أيضاً. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي (في الدلائل): أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب. قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال لي: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار)). قال علي: فدعاني فقال: ((يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمتّ عن ذلك ثم جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدَّ لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب)) ففعلت. فاجتمعوا له يومئذٍ وهم أربعون رجلاً يزيدون رجلاً، أو ينقصون فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث. فقدَّمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: ((كلوا بسم الله)). فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسقهم يا علي))، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعاً وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب - لعنه الله - فقال: لهدَّ ما سحركم صاحبكم؟ فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا علي عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم)) ففعلت ثم جمعتهم له. (ج/ص: 3/ 53) فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا، وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة)). هكذا رواه البيهقي، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه، عن عبد الله بن الحارث به. وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الأبرش، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي فذكر مثله. وزاد بعد قوله: ((وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي)) وكذا وكذا. قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: ولأني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأخمشهم ساقاً، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: ((إن هذا أخي، وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا)). قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعَّفه الباقون. ولكن روى ابن أبي حاتم في (تفسيره) عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث. قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إصنع لي رِجل شاة بصاع من طعام، وإناء لبناً، وأدع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام. فقال: ((أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟)). قال: فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُ أنا لسن العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال: أنت؟ قال: وإني يومئذٍ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن؛ خمش الساقين. وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم. (ج/ص: 3/ 54). وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الأسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم - أو كالشاهد له - والله أعلم. ومعنى قوله في هذا الحديث: ((من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي)) يعني: إذا مت، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه؛ وقد أمَّنه الله من ذلك في قوله تعالى: والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عنه ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج. يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء. وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية. وكان من أشدِّ الناس عليه: عمه أبو لهب - واسمه عبد العزى بن عبد المطلب - وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعاً، وكان يحنو عليه ويحسن إليه ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حباً طبعياً لا شرعياً. وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه. ولاجترؤا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه وربك يخلق ما يشاء ويختار. وقد قسَّم خلقه أنواعاً وأجناساً، فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب. ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب. قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. قال: أخبر رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهلياً فأسلم - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، يمشي بين ظهراني الناس وهو يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ، كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب، ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه. (ج/ص: 3/ 55). وقال البيهقي أيضاً: حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان، حدثنا أبو الأزهر: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الديلي. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب. ثم رواه من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول: ((يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. كذا قال أبو جهل، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى. وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه، وسجاياه، واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. قال يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبي طالب. قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا. فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنس - أو قال خنس - يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم فحلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء. فقال: ((ترون هذه الشمس؟)). قالوا: نعم ! قال: ((فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة)). فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا. رواه البخاري في (التاريخ)، عن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير. ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار عنه به - وهذا لفظه -. (ج/ص: 3/ 56). ثم روى البيهقي من طريق يونس، عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث. أن قريشاً حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا: كذا وكذا فابقِ علي، وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلِّمه، وضعف عن القيام معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه)). ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، فلما ولىّ قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً. قال ابن إسحاق ثم قال أبو طالب في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسَّد في التراب دفينا فامضي لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي * فلقد صدقت، وكنت قِدمُ أمينا وعرضت ديناً قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سُبّة * لوجدتني سمحاً بذاك مبينا ثم قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك أشعاراً؛ وفي كل ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه. وقال يونس بن بكير: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مصر قديماً منذ بضعاً وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلس له غداً بحجرٍ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل - لعنه الله - أخذ حجراً ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان قبلته الشام. (ج/ص: 3/ 57). فكان إذا صلّى صلّى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منبهتاً ممتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال من قريش. فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قطّ فهمَّ أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه)). وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب. قال: كنت يوماً في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله عليَّ إن رأيت محمداً ساجداً أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضباناً، حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب، فاقتحم الحائط. فقلت: هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: فقال إنسان لأبي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد؟ فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى؟ والله لقد سدَّ أفق السماء عليّ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لو فعل لأخذته الملائكة عياناً)). (ج/ص: 3/ 58). ورواه البخاري عن يحيى، عن عبد الرزاق به. قال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي. فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر نادياً مني. فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم. فقال جبريل: ( رواه أحمد، والترمذي، وصححه النسائي من طريق داود به. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً عند الكعبة يصلي لأتيته حتى أطأ عنقه، قال: فقال: ((لو فعل لأخذته الزبانية عياناً)). وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس. قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله تعالى: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقيل ما يمنعك؟ قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم ! قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته. قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له مالك؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأجنحة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)). قال: وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - وقد رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به. وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود. قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه. فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة ابن أبي معيط: أنا. (ج/ص: 3/ 59) فأخذه، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة، فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف - أو أمية بن خلف)) شعبة الشاك. قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية بن خلف - فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع. وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من (صحيحه) ومسلم من طرق عن أبي إسحاق به. والصواب أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه - والسلا: هو الذي يخرج مع ولد الناقة، كالمشيمة لولد المرأة. وفي بعض ألفاظ (الصحيح): أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا، حتى جعل بعضهم يميل على بعض، أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله. وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه، أقبلت عليهم، فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملأ منهم جملة وعين في دعائه سبعة. وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم وهم: عتبة، وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف. قال أبو إسحاق: ونسيت السابع. قلت: هو عمارة بن الوليد وقع تسميته في (صحيح البخاري).
|