الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن الثالث: ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه.وعن الرابع: بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم، ألا ترى أن قولك: «اقطع السَّارق» يفيد العِلَّة، أي: إنَّه جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب.الخامس: أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإِسْنَادية كالفاعل مع المفعول، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه.قال سيبَوَيْه: فإن قدَّمْت المَفْعُول، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في «الأوَّل»، يعني في «ضَرَب عَبْدُ الله زَيْدًا» قال: «وذلك: ضَرَبَ زيدًا عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّرًا ما أرَدْت به مُقَدَّمًا، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه، وإن كان مُؤخَّرًا في اللَّفْظ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّمًا، وهو عربي جيد كثير، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم، وهم ببيانهِ أعْنَى، وإن كانا جَمِيعًا يُهِمَّانِهم ويعنيانهم».والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك.قوله: {أيْدِيهمَا} جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية: لأمْن اللَّبْس، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل سَارِق يَمِينه، فهو من باب {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله: {فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمَا} واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطًا، من جملتها: أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَدًا من صاحِبِه نحو: {قُلُوبكما} و«رُوس الكَبْشَيْنِ» لأمْنِ الإلْبَاس، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن، لو قلت: «فَقَأت أعينهما»، وأنت تعني عينيهما، و«كتَّفْت أيديهمَا»، وأنت تعني «يديهما» لم يَجْزْ للَّبْسِ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم- أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه- قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ولنذكر المسْألة، فنقول: كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظًا أو تقديرًا، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه:الأحسن: الجمع، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم، ويليه التَّثْنِية، وقال بعضهم: الأحْسَنُ الجَمْع، ثم التَّثْنِية، ثم الإفْرَاد، نحو: «قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين».وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ: [السريع أو الرجز]
فقولنا: «جزآن» تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن، لو قلت: «قَبَضت دَرَاهِمكُمَا» تعني: دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ، فلو أمِنَ جَازَ، كقوله: «اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا» «إلى مَضَاجِعِكُمَا»، وقولنا: «أُضِيفَا» تحرُّز من تفرُّقِهِمَا، كقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} [المائدة: 78]، وقولنا: «لَفْظًا»، تقدَّم مِثَاله، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة.وقولُنا: «أو تَقْدِيرًا» نحو قوله: [الطويل] فإن تقديره: كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا.وقولنا: «مُفَرَدَيْن» تحرُّز من العَيْنَين ونحوهما، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيَةِ في الضَّمِّ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال: لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً، كقوله- رحمةُ الله عليه- [الطويل] بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام، ومنه: «مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا».وقال بعضهم: الأحسنُ الجَمْعُ، ثم التَّثْنِيَة، ثُمَّ الإفراد كقوله: [الطويل] وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْدِيَهُمَا: يَدَيْهُمَا، ونحوُهُ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله: {والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ} وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك: «قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن»: «أربعة الآذان» وهذا الردّ ليس بشيء؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان.قوله تعالى: {جَزَاءً} فيه أرْبعةُ أوجُهٍ:أحدُها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ، أيْ: جازُوهما جزاء.الثاني: أنَّهُ مصدرٌ أيضًا لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ؛ لأنَّ قوله: {فاقْطَعُوا} في قُوَّةِ: جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً.الثالث: أنَّه منصوبٌ على الحالِ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل، أي: مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما، وأنْ تكون من المضافِ إليه في {أيْدِيَهُمَا}، أي: في حال كونهما مُجَازَيْن، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ، كقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47].الرابع: أنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجْلِهِ، أيْ: لأجْلِ الجزاءِ، وشروطُ النصب موجودة.و{نَكَالًا} منصوبٌ كما نُصِب {جَزَاءً} ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ.قال أبُو حيان: «تبع في ذلك الزَّجَّاج»، ثم قال: «وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ».قال شهابُ الدِّين: النّكالُ: نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ {جَزَاءً} مفعول من أجله، العامل فيه {فاقْطَعُوا}، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع، و{نَكَالًا} مفعولٌ مِن أجْله أيضًا العامل فيه {جَزَاءً}، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ، كما تقول: «ضربتُه تَأدِيبًا له إحْسَانًا إلَيْه»، فالتأدِيبُ علَّة للضرب، والإحسانُ علة للتأديب، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما: {جزاءً} مفعولٌ مِنْ أجلْه، وكذلك {نَكَالًا} فتأمّله، فإنه وجه حسنٌ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله: «إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ»، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ الله بَغْيًا} [البقرة: 90] أن يكون {بَغْيًا} مفعولًا له، ثم ذكروا في قوله: {أَن يُنَزِّلُ الله} [البقرة: 90] أنه مفعولٌ له ناصبُه {بَغْيًا}، فهو علةٌ له، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد.و{بما} متعلق بـ {جَزَاءً}، و«ما» يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية، أي: بكسبهما، وأنْ تكونَ بمعنى «الذي»، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: بالذي كسباه، والباءُ سَبَبِيَّةٌ. اهـ. باختصار.
|