الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قالوا: فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابًا لهم على إيمانهم كما قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] وقال: {والذين اهتدوا زادهم هدى} [محمد: 17] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله: {ولا يهديهم طريقًا إلا طريق جهنم} [النساء: 168169] وقوله: {يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار} [يونس: 9] وقال أهل السنة: المراد بالهداية خلق المعرفة. وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه.؟ وقال أهل التحقيق: كيف يهدي الله إليه قومًا احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية. وقوله: {وشهدوا} عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى: {فأصدق وأكن} [المنافقون: 10] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار قد أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قومًا كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايرًا للمعطوف عليه.{والله لا يهدي القول الظالمين} الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث- أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات- توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمأن لا الكفر والعناد. وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلًا {أولئك جزاؤهم} إلى قوله: {ولا هم ينظرون} وقد مر مثله في البقرة. وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة.{إلا الذين تابوا من بعد ذلك} الكفر العظيم. ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال: {وأصلحوا} أي باطنهم مع الحق بالمراجعات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها.{فإن الله غفور} في الدنيا بالستر {رحيم} في الآخرة بالعفو. أو غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب. قوله سبحانه: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا} ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين. ثم اختلفوا فقيل: إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفرًا بسبب طعنهم فيه كل وقت، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم.وقيل: إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء، وقيل: نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون. وقيل: عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر ثم أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها، وهذا يوهم التناقض. وأيضا ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله: {لن تقبل توبتهم} قال الحسن وقتادة وعطاء: المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت، والتوبة حينئذٍ لا تقبل لقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18] وقيل: هي محمولة على ما إذا تابوا باللسأن لا عن الإخلاص. وقال القاضي والقفال وابن الأنباري: هي من تتمة قوله: {إلا الذين تابوا} يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة. وقيل: لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه. أقول: ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية الموت على الكفر كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر. وفائدة هذه الكناية تصير كونهم آيسين من الرحمة، هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين، أما على تقدير التعميم فنقول: إنما يجعل الموت على الكفر لازمًا لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذٍ لا تكون كلية، فكم من مرتد أو يهودي مزداد للكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية. ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وأنه لابد للعدول من فائدة، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف. والحاصل أنه كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمة والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منها بقدم الإنابة.واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام: أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله: {لن تقبل توبتهم} على وجه.وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة. وملْ الشيء قدر ما يملؤه و{ذهبًا} نصب على التمييز. وربما يقال على التفسير، ومعناه أن يكون الكلام تامًا إلا أنه يكون مبهمًا كقولك عندي عشرون فالعدد معلوم والمعدود مبهم. فإذا قلت درهمًا فسرت العدد. ومعنى الفاء في {فلن يقبل} أن يعلم أن الكلام مبني على لاشرط والجزاء، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع. هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف. وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم. والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيدًا للزوم وتغليظًا في الوعيد والله أعلم. أما الواو في قوله: {ولو افتدى به} فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري: إنها للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبًا لم يمنعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقيل: إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهبًا يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقيل: إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب. وقيل: أنه محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا. وقيل: يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعًا ومثله معه لافتدوا به} [الزمر: 47] والمثل يحذف كثيرًا في كلامهم مثل: ضربت ضرب زيد. أي مثل ضربه. وأبو يوسف وأبو حنيفة تريد مثله. كما أنه يراد به في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا أي أنت. وذلك أن المثلين يقول أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد، فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير، والذهب كناية عن أعز الأشياء. والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعًا للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه. ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال: {أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} قال أهل التحقيق: وماتوا أي ماتت قلوبهم {أولئك لهم عذاب أليم} بموت القلب وفقد المعرفة {وما لهم من ناصرين} على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل. اهـ.
|