الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)
.الشورى وعلماء الإسلام المعاصرون: في المقال السابق-الشورى وعلماء السلف- أوقفتك أخي القارئ على ما كتبه طائفة من خيار السلف في أمر الشورى وأنها لازمة للإمام وأن من لم يستنصح أهل الرأي والدين من أولي الأمر فعزله واجب وقد قرأت نص ابن عطية في ذلك وكذا الرازي وابن كثير وابن تيمية رحمهم الله ورضي عنهم جميعًا، وأن عامة السلف على ذلك إلا ما كان من رأي الإمام الشافعي رحمه الله وقد علمت رد الفخر الرازي عليه وأنه-أعني الشافعي- احتج بالقياس وقال الرازي لا قياس مع النص.وقد يظن بعض الناس أن أمر الشورى قد تبدل عند علماء الإسلام المعاصرين وأنه قد جد جديد في فهم الناس للشورى ولذلك أحببت أن أطلعك اليوم على بعض ما كتبه علماء العصر من علمائنا الأفاضل عن وجوب مشاورة الحكام لأهل الرأي وعن لزوم مبدأ الشورى.وقد توسعت قليلًا في مدلول العصر فنقلت لك نقولًا عن بعض من لقوا ربهم جل وعلا وعن بعض المعاصرين منهم.- نقل الأستاذ رشيد رضا رحمه الله عن الشيخ محمد عبد ه قوله في الشورى: {وشاورهم في الأمر} العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية أي دُم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة-غزوة أحد- وإن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل، دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابًا لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم-المشاورة- فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر. أ.هـ.وفي هذا النص فوائد عظيمة كثيرة: منها أن المشاورة وإن تحقق منها ضرر في غزوة أحد إلا أن هذا الضرر يسير إذا قورن بالفوائد من إقرار نظام الشورى والأخذ به لأن الاستبداد بالرأي مستقبلًا ضرره عظيم وبهذا ترى أن رأي الشيخ رشيد ومحمد عبد ه أن الشورى واجبة على الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله في أمور الحرب ونحوها ليكون هذا تشريعًا للأمة بعده.وبعد ذلك كتب الشيخ رشيد رضا كلامًا عظيمًا في الشورى وطرق تطبيقها في العصر النبوي والخلافة الراشدة وكذلك الدولة الأموية ثم العباسية وكيف انحرف فيهما تطبيق هذا النظام حيث كان من جرائها ما يقول عنه بالنص:(ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين لما كان للأعاجم من السلطان في ملكهم وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك، وجاراهم علماء الدين بعدما كان لعلماء السلف الصالح من الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية، وأوائل زمن العباسيين فظن البعيد عن المسلمين، وكذا الغريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية وأن الشورى محمدة اختيارية، فيالله العجب: أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك ثابتًا مقررًا، ويأمر نبيه-المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه- ويأمره بأن يستشير حتى بعد أن كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد،- ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها، وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة كما تقدم بيانه مرارًا كثيرة؟! هذا وقد بلغ ملوكهم من الظلم والاستبداد مبلغًا صاروا فيه عارًا على الإسلام إلا من يتبرأ منهم ويبذل جهده في راحة العالم من شرهم).. انتهى (المنار ج4 ص205).وهذا الكلام من الوضوح والقوة والبرهان بحيث لا يحتاج مني إلى تعليق إلا أن أتعجب من كلام الأخ محمد سلامة جبر الذي زعم أن آية الأمر بالشورى ليست للوجوب ولا مخالف لذلك من العلماء الأعلام!! وأقول إذا لم يكن رشيد رضا علم من أعلام علماء السلف في عصرنا فليس هناك من علم أبدًا!.الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله يقول في كتابه التشريع الجنائي ص37:(جاءت الشريعة الإسلامية مقررة لمبدأ الشورى في قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} و {شاورهم في الأمر} ولم يكن تقرير النظرية نتيجة لحال الجماعة فقد كان العرب في أدنى درجات الجهل وفي غاية التأخر والانحطاط وإنما قررت الشريعة النظرية لأنها قبل كل شيء من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التبديل والتعديل ولأن تقرير النظرية يؤدي بذاته إلى رفع مستوى الجماعة وحملهم على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها والنظر إلى مستقبل الأمة نظرة جدية والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر.. والسيطرة على الحكام ومراقبتهم) أ.هـ.فالأستاذ عبد القادر عودة يرحمه الله يرى كعامة علماء السلف أن الشورى مبدأ والمبدأ لا يكون جائزًا بل لا بد أن يكون واجبًا لازمًا. وأن الشريعة قررته بالآيات السالفة، وأن هذا المبدأ من مستلزمات الشريعة الدائمة.وقد جمع الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله بين قول الشيخ رشيد رضا وعبد القادر عودة وقول علماء السلف القدامى وجاء كلامه عن الشورى متضمنًا هذه المعاني جميعها وهذا يدل على سعة اطلاعه رحمه الله عند كتابة تفسيره وسأنقل لك-أخي القارئ- بعض الفقرات التي تدل على ذلك.قال: (وبهذا النص الجازم-وشاورهم في الأمر- يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكًا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه).. ثم يقول أيضًا بعد ذلك.. (لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة! فقد كان من جرائها ظاهريًّا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم).. ثم يستطرد مبينًا ما حدث من استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج أو البقاء واختلافهم وما رآه في النوم وأوله بأنه قتل في أصحابه واستشهاد أحد أفراد أهل بيته ثم يقول:- (وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى.. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة وتربية الأمة أكبر من الخسائر الوقتية).. ثم يستطرد قائلًا:(ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة. أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف.. ولكن الإسلام كان ينشئ أمة ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة وأن تخطئ مهما يكن الخطأ جسيمًا وذا نتائج مريرة- لتعرف كيف تصحح خطأها وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها..واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيه شيء من الكسب لها إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها وتخسر تربيتها وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية كالطفل الذين يمنع من مزاولة المشي-مثلًا- لتوفير العثرات والخبطات أو توفير الحذاء) ثم يستطرد رحمه الله مبينًا أن وجود القيادة الراشدة لا يمنع الشورى فيقول: (ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبًا عمليًّا واقعيًّا في أخطر الشؤون-كمعركة أحد-.. لكان وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى كافيًا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها.. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات:- {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله..) انتهى.وبعد فهذا كلام رشيد يجلي لنا روح الوحي ويوقفنا على أسرار التنزيل وما أرى معه حجة لمكابر وذلك أن الأمر في الآية بهذه الظروف والملابسات التي أحاطت به يعني أنه أمر جازم لا جائز- جاء ليرسي في الأمة قاعدة من أهم القواعد التي يقوم عليها بناؤها السياسي والاجتماعي ألا وهي قاعدة الشورى..وحتى لا أترك في نفس القارئ شيئًا من أن مبدأ الشورى مبدأ مقرر ثابت وليس شيئًا طارئًا جائزًا فإنني سأزيده بيانًا واستدلالًا.كتب الدكتور محمود بابللي كتابًا جيدًا بعنوان-الشورى في الإسلام- وهذه فقرات منه (إن مبدأ الشورى لم يسبق أن اتخذته أمة إلزامًا لولي أمرها والتزامًا للجماعة كما اتخذته الأمة الإسلامية بنص القرآن)..وأما الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة فقد كتب في هذا الموضوع يقول:(يجب على ولاة الأمر أن يشجعوا القول المخالف، كما يريدون القول الموافق إذا لم يكن عماد الأمر الهوى المتبع فإنه لا يقتل الشورى والآراء القويمة إلا الرغبة في الموافقة والتململ من المخالفة فإن المخالف يأتي الحاكم بجديد من الفكر ويكون مرشدًا، والموافق يأتيه بما عنده وما ليس بجديد عليه فهو يسمع منه صوتًا ويرجع إليه صداه).هذا كلام عظيم في الشورى إذ يوجب الأستاذ هنا على الحاكم تشجيع الرأي المخالف فكيف بإخراج الرأي الجديد والفكرة السديدة الغائبة التي هي غاية من غايات الشورى. لا شك أنها تكون أشد وجوبًا ولزومًا ويقول أيضًا:(عندما تكون الشورى مبدأ للأمة. حكامها وأفرادها فإن هذه الأمة تكون متوجهة للخير في جميع أمورها وتنعكس هذه النتيجة على أوضاعها تقدمًا ورقيًّا)..ومن الكلام الجيد في هذا الصدد أيضًا قول محمود بابللي أن عرض كل أمور الأمة على الشورى من واجبات الحاكم وليست حقًا له لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} فالنص يوجب على الحاكم أن يستشير في كل أمر للأمة صغر هذا الأمر أو كبر..ومعنى أنه واجب على الحاكم أن للأمة أن تطالبه بتنفيذه إذا قصر فيه، أما إذا كانت الشورى حقًا له فعند ذلك يجوز أن يتنازل عن هذا الحق ولا يكون للأمة المطالبة به لأنه من حقه هو، وهذا كلام جيد موفق في هذا الصدد..وقد وقفت أيضًا على كلام حسن ما يشبه ما نقلته لك سابقًا من قول عند الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه التفسير الحديث للقرآن الكريم يقول:(وروح الآية ومضمونها يوجبان على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة) (ص173 ج8)، وقال أيضًا: (أكد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب والتنفيذ) (المصدر السابق).وقد وقفت على عبارة جليلة للأخ عبد الله العقيل - وهو رجل له مكانته وعلمه- يقول فيها:(الشورى حق للرعية، واجبة على ولي الأمر وهذا لا يختلف فيه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان..) -المجتمع العدد 43- ولكن ها نحن نجد من يخالف في الأمور الثابتة المقررة!!.وبعد-أخي القارئ- لقد أتعبت نفسي أن أجد موافقًا للأخ محمد سلامة من كتاب الإسلام المعاصرين في أن الشورى أمر جائز وأنها حق للإمام إن شاء فعلها وإن شاء تركها فلم أجد وأما بين السلف القدامى فليس إلا رأي الإمام الشافعي وقد قرأت رد الفخر الرازي عليه وكان في منتهى القوة والوضوح وكذلك رد الإمام ابن كثير رحمه الله وكان في منتهى الأدب واللطف ومرة ثانية أيجوز أن يقول كاتب في الإسلام بعد ذلك أن الشورى أمر جائز وهي من حقوق الإمام ثم يقول – (حكيت ما لم أعلم له مخالفًا من سلفنا الكرام وعلمائنا الأعلام!!).وأقول لقد ابتلينا في عصرنا بالاستبداد والتسلط وإبرام الأمور في غيبة الأمة فهل يكون من الإنصاف والعدل أن نحطم قاعدة الشورى في هذا الوقت ونحن أحوج ما نكون إليها وآسف إن قلت-نحطم- فلن يستطيع أحد تبديل كلام الله تبارك وتعالى ولكن يستطيع إلقاء الشبه عليه.. ولكن يبقى دين الله تبارك وتعالى بعد ذلك نقيًّا صافيًا لأن الزبد مهما علا لا بد أن يذهب وتبقى صفحة الماء نقية صافية..وسامح الله الأخ الكريم ورده إلى الحق والصواب ويبدو أنه لا بد لي معك-أخي القارئ- من جولة في هذا الموضوع تعطيك صورة واضحة جلية عن ميدانه وتطبيقاته وثمرته وأسأل الله في هذا العون والسداد والتوفيق وإلى مقال آخر إن شاء الله تعالى.
|