الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النشر في القراءات العشر ***
وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ هُوَ الْجَهْرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا نَذْكُرُهُ وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْقِرَاءَةِ كَمَا نَذْكُرُهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو فِي جَامِعِهِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْجَهْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ قَارِئٍ بِعَرْضٍ، أَوْ دَرْسٍ، أَوْ تَلْقِينٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ نَافِعٍ وَحَمْزَةَ، ثُمَّ رَوَى عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ اسْتِعَاذَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيَجْهَرُونَ بِهَا أَمْ يُخْفُونَهَا؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَجْهَرُ، وَلَا نُخْفِي، مَا كُنَّا نَسْتَعِيذُ أَلْبَتَّةَ. وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي الِاسْتِعَاذَةَ وَيَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ السُّوَرِ وَرُءُوسِ الْآيَاتِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحُلْوَانِيِّ، قَالَ خَلَفٌ: كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى سُلَيْمٍ فَنُخْفِي التَّعَوُّذَ، وَنَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْحَمْدُ خَاصَّةً، وَنُخْفِي التَّعَوُّذَ وَالْبَسْمَلَةَ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ نَجْهَرُ بِرُءُوسِ أَثْمِنَتِهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَ عَلَى حَمْزَةَ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ، قَالَ الْحُلْوَانِيُّ: وَقَرَأْتُ عَلَى خَلَّادٍ؛ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ. قُلْتُ: صَحَّ إِخْفَاءُ التَّعَوُّذِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسَيَّبِيِّ عَنْ نَافِعٍ، وَانْفَرَدَ بِهِ الْوَلِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نَافِعٍ، وَكَذَلِكَ الْأَهْوَازِيُّ عَنْ يُونُسَ، عَنْ وَرْشٍ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقِ كِتَابِنَا عَنْ حَمْزَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِخْفَاؤُهُ، وَحَيْثُ قَرَأَ الْقَارِئُ مُطْلَقًا- أَيْ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا- وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ حَمْزَةَ مِنْ رِوَايَتَيْ خَلَفٍ وَخَلَّادٍ سَوَاءً. وَكَذَا رَوَى الْخُزَاعِيُّ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْ خَلَفٍ وَخَلَّادٍ. وَكَذَا ذَكَرَ الْهُذَلِيُّ فِي كَامِلِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَرْبِيٍّ، عَنْ سُلَيْمٍ، عَنْ حَمْزَةَ. الثَّانِي: الْجَهْرُ بِالتَّعَوُّذِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ، وَإِخْفَاؤُهُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُبْهِجِ عَنْ خَلَفٍ، عَنْ سُلَيْمٍ، وَفِي اخْتِيَارِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ لَاحِقٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ سُلَيْمٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنَادِي، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ خَلَفٍ، عَنْ سُلَيْمٍ، عَنْ حَمْزَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُخْفِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأْتُ عَلَى خَلَّادٍ فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيَّ، وَقَالَ لِي: كَانَ سُلَيْمٌ يَجْهَرُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَلَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ جَهَرَ وَلَا عَلَى مَنْ أَخْفَى، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفْرَاوِيُّ فِي الْإِعْلَانِ : وَاخْتُلِفَ عَنْهُ- يَعْنِي عَنْ حَمْزَةَ- أَنَّهُ كَانَ يُخْفِيهَا عِنْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَكَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ يَسْتَثْنِي فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَيَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ عِنْدَهَا، فَرُوِيَ عَنْهُ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَقَدِ انْفَرَدَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ قَالُونَ بِإِخْفَائِهَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
الثَّانِيَةُ أَطْلَقُوا اخْتِيَارَ الْجَهْرِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مُطْلَقًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ، وَقَدْ قَيَّدَهُ الْإِمَامُ أَبُو شَامَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بِحَضْرَةِ مَنْ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ إِظْهَارٌ لِشَعَائِرِ الْقِرَاءَةِ، كَالْجَهْرِ بِالتَّلْبِيَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّ السَّامِعَ يُنْصِتُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْ أَوَّلِهَا لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِذَا أَخْفَى التَّعَوُّذَ لَمْ يَعْلَمِ السَّامِعُ بِالْقِرَاءَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ فَاتَهُ مِنَ الْمَقْرُوءِ شَيْءٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَفِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُخْتَارَ فِي الصَّلَاةِ الْإِخْفَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ مُنْصِتٌ مِنْ أَوَّلِ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إِذَا تَعَوَّذَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ أَسَرَّ بِالتَّعَوُّذِ، فَإِنْ تَعَوَّذَ فِي الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَهَلْ يَجْهَرُ؟ فِيهِ خِلَافٌ؛ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُسِرُّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَسْتَوِي الْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ، وَالثَّانِي يُسَنُّ الْجَهْرُ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَجْهَرُ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِمَامُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَصَاحِبُهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يُسِرُّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. قُلْتُ: حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ وَلَا تَرْجِيحَ، وَالثَّانِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْجَهْرُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْإِسْرَارُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ. وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْإِخْفَاءُ بِالِاسْتِعَاذَةِ إِذَا قَرَأَ خَالِيًا، سَوَاءٌ قَرَأَ جَهْرًا أَوْ سِرًّا، وَمِنْهَا إِذَا قَرَأَ سِرًّا فَإِنَّهُ يُسِرُّ أَيْضًا، وَمِنْهَا إِذَا قَرَأَ فِي الدَّوْرِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قِرَاءَتِهِ مُبْتَدِئًا يُسِرُّ بِالتَّعَوُّذِ؛ لِتَتَّصِلَ الْقِرَاءَةُ وَلَا يَتَخَلَّلَهَا أَجْنَبِيٌّ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ اسْتُحِبَّ الْجَهْرُ هُوَ الْإِنْصَاتُ فَقَطْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْإِخْفَاءِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ هُوَ الْكِتْمَانُ وَعَلَيْهِ حَمَلَ كَلَامَ الشَّاطِبِيِّ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، فَعَلَى هَذَا يَكْفِي فِيهِ الذِّكْرُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْرَارُ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْجَعْبَرِيُّ كَلَامَ الشَّاطِبِيِّ، فَلَا يَكْفِي فِيهِ التَّلَفُّظُ وَإِسْمَاعُ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ الْمُتَقَدِّمِينَ كُلَّهَا عَلَى جَعْلِهِ ضِدًّا لِلْجَهْرِ وَكَوْنُهُ ضِدًّا لِلْجَهْرِ يَقْتَضِي الْإِسْرَارَ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِيِّ مَا كُنَّا نَجْهَرُ، وَلَا نُخْفِي، مَا كُنَّا نَسْتَعِيذُ أَلْبَتَّةَ- فَمُرَادُهُ التَّرْكُ رَأْسًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كَمَا سَيَأْتِي.
وَهُوَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ إِجْمَاعًا، وَلَا يَصِحُّ قَوْلٌ بِخِلَافِهِ، عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا آفَةُ الْعِلْمِ التَّقْلِيدُ، قَدْ نُسِبَ إِلَى حَمْزَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَابْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَذُكِرَ أَنَّهُ مَذْهَبُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ وَجَمَاعَتِهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَهُوَ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مَحَلُّهَا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ. وَحُكِيَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلُ وَبَعْدُ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ فِي هَذَا عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ، وَلَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ لَهُمْ، أَمَّا حَمْزَةُ وَأَبُو حَاتِمٍ فَالَّذِي ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ، فَقَالَ فِي كَامِلِهِ: قَالَ حَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ قَلُوقَا: إِنَّمَا يُتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ. قُلْتُ: أَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ قَلُوقَا، عَنْ حَمْزَةَ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ فِي الْكَامِلِ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهَا، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ حَمْزَةَ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالْحَافِظِينَ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ وَأَبِي الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيِّ وَأَبِي طَاهِرِ بْنِ سَوَّارٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ سِبْطِ الْخَيَّاطِ، وَغَيْرِهِمْ- لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَا عَرَّجُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَبُو حَاتِمٍ فَإِنَّ الَّذِينَ ذَكَرُوا رِوَايَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ كَابْنِ سَوَّارٍ وَابْنِ مِهْرَانَ وَأَبِي مَعْشَرٍ الطَّبَرِيِّ وَالْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيِّ، وَغَيْرِهِمْ- لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا، وَلَا حَكَوْهُ، وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَالَّذِي نُقِلَ عَنْهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ رَافِعًا صَوْتَهُ رَبَّنَا إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي الْمَكْتُوبَةِ إِذَا فَرَغَ مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ هُوَ الْأَسْلَمِيُّ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ النَّقْلِ وَالْحَدِيثِ عَلَى ضَعْفِهِ وَلَمْ يُوَثِّقْهُ سِوَى الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ قَدَرِيًّا رَافِضِيًّا مَأْبُونًا كُلُّ بَلَاءٍ فِيهِ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الْكُوفِيُّ ضَعِيفٌ وَاهٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، بَلْ يَدُلُّ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ إِذَا فَرَغَ مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ، أَيْ لِلسُّورَةِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ وَاضِحٌ. فَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ مِمَّنْ عُرِفَ بِالْجَهْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَأَمَّا ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ فَلَا يَصِحُّ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَجْمُوعَةِ، وَكَفَى فِي الرَّدِّ وَالشَّنَاعَةِ عَلَى قَائِلِهِ، وَأَمَّا دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ، فَهَذِهِ كُتُبُهُمْ مَوْجُودَةٌ لَا تُعَدُّ كَثْرَةً، لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَنَصَّ ابْنُ حَزْمٍ إِمَامُ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى التَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَعُرْفِهِ، وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي تَقْدِيرِهَا: إِذَا ابْتَدَأْتَ وَشَرَعْتَ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ. أَيْ: أَخَذَ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ صَلَّاهَا بِالْغَدِ بَعْدَ أَنْ أَسْفَرَ. فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الِابْتِدَاءُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ الِانْتِهَاءُ. ثُمَّ إِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتِ الِاسْتِعَاذَةُ لَهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةُ الْفَمِ مِمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَتَطْيِيبٌ لَهُ، وَتَهَيُّؤٌ لِتِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتِصَامٌ بِجَنَابِهِ مِنْ خَلَلٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ، أَوْ خَطَأٍ يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا وَإِقْرَارٌ لَهُ بِالْقُدْرَةِ، وَاعْتِرَافٌ لِلْعَبْدِ بِالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَنْ هَذَا الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ وَمَنْعِهِ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ، فَهُوَ لَا يَقْبَلُ مُصَانَعَةً، وَلَا يُدَارَى بِإِحْسَانٍ، وَلَا يَقْبَلُ رِشْوَةً، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ جَمِيلٌ، بِخِلَافِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيُ الثَّلَاثُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي أَرْشَدَ فِيهَا إِلَى رَدِّ الْعَدُوِّ الْإِنْسَانِيِّ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَدُوِّ الْإِنْسَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنُونَ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} ثُمَّ قَالَ: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} الْآيَةَ، وَقَالَ فِي فُصِّلَتِ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} الْآيَاتِ، وَقُلْتُ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ أَحْسَنُ الِاكْتِفَاءِ وَأَمْلَحُ الِاقْتِفَاءِ: شَيْطَانُنَا الْمُغْوِي عَدُوٌّ فَاعْتَصِمْ *** بِاللَّهِ مِنْهُ وَالْتَجِي وَتَعَوَّذِ وَعَدُوُّكَ الْإِنْسِيُّ دَارِ وِدَادَهُ *** تَمْلِكْهُ وَادْفَعْ بِالَّتِي فَإِذَا الَّذِي
وَقَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ، وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهَا بَسْمَلَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا، وَيَجُوزُ وَصْلُهُ بِمَا بَعْدَهَا، وَالْوَجْهَانِ صَحِيحَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الدَّانِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْأَوْلَى وَصْلُهَا بِالْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الِاكْتِفَاءُ : الْوَقْفُ عَلَى آخِرِ التَّعَوُّذِ تَامٌّ، وَعَلَى آخِرِ الْبَسْمَلَةِ أَتَمُّ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَاذِشِ، وَرَجَّحَ الْوَقْفَ لِمَنْ مَذْهَبُهُ التَّرْتِيلُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْإِقْنَاعُ : لَكَ أَنْ تَصِلَهَا- أَيِ: الِاسْتِعَاذَةَ- بِالتَّسْمِيَةِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَتَمُّ وَلَكَ أَنْ تَسْكُتَ عَلَيْهَا، وَلَا تَصِلَهَا بِالتَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّرْتِيلِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسَمِّ- يَعْنِي مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ- فَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنْ يَسْكُتَ عَلَيْهَا، وَلَا يَصِلَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ وَصْلُهَا. قُلْتُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمُرَادُهُ بِالسَّكْتِ الْوَقْفُ؛ لِإِطْلَاقِهِ وَلِقَوْلِهِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ نَظَمَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو حَيَّانَ فِي قَصِيدَتِهِ حَيْثُ قَالَ: وَقِفْ بَعْدُ أَوْ صِلَا *** وَعَلَى الْوَصْلِ لَوِ الْتَقَى مَعَ الْمِيمِ مِثْلُهَا نَحْوُ: الرَّحِيمِ مَا نَنْسَخْ- أَدْغَمَ لِمَنْ مَذْهَبُهُ الْإِدْغَامُ، كَمَا يَجِبُ حَذْفُ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي نَحْوِ: الرَّحِيمِ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَنَحْوِ: الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقَصَبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ، عَنْ شُجَاعٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي الْمِيمَ مِنَ الرَّحِيمِ عِنْدَ بَاءِ بِسْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ شَيْطَا، وَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ سِوَى وَصْلِ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْبَسْمَلَةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْبَسْمَلَةِ.
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِلْقِرَاءَاتِ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا ذَكَرَهَا شُرَّاحُ الشَّاطِبِيَّةِ لَمْ يَخْلُ كِتَابُنَا مِنْ ذِكْرِهَا؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ. وَقَدْ تَكَفَّلَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ وَالْفُقَهَاءِ بِالْكَلَامِ فِيهَا، وَنُشِيرُ إِلَى مُلَخَّصِ مَا ذُكِرَ فِي حُكْمِ الِاسْتَعَاذَةِ اسْتِحْبَابًا وَوُجُوبًا فِيهَا مِنْ مَسَائِلَ:
الْأُولَى ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ حَالٍ: فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ، وَذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى وُجُوبِهَا حَمْلًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ، حَتَّى أَبْطَلُوا صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَسْتَعِذْ. وَقَدْ جَنَحَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَحَكَاهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ وَالْأَمْرُ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، وَبِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَدْرَأُ شَرَّ الشَّيْطَانِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ أَحْوَطُ، وَهُوَ أَحَدُ مَسَالِكِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا تَعَوَّذَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ فَقَدْ كَفَى فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أُمَّتِهِ، حَكَى هَذَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ شَيْخُنَا الْإِمَامُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي تَفْسِيرِهِ.
الثَّانِيَةُ الِاسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلَاةِ لِلْقِرَاءَةِ لَا لِلصَّلَاةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ لِلصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَوَّذُ الْمَأْمُومُ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ، وَيَتَعَوَّذُ فِي الْعِيدَيْنِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لِلْقِرَاءَةِ فَقَطْ، فَهَلْ قِرَاءَةُ الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَكْفِي الِاسْتِعَاذَةُ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، أَوْ قِرَاءَةُ كُلِّ رَكْعَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَكْفِي؟ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يَسْكُتْ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلِ الْقِرَاءَتَيْنِ أَجْنَبِيٌّ، بَلْ تَخَلَّلَهَا ذِكْرٌ، فَهِيَ كَالْقِرَاءَةِ الْوَاحِدَةِ حَمْدٌ لِلَّهِ، أَوْ تَسْبِيحٌ، أَوْ تَهْلِيلٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَرَجَّحَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الثَّانِيَ، وَأَمَّا الْإِمَامُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلٌ يُعْرَفُ لِمَنْ قَبْلَهُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ التَّعَوُّذِ، فَأَمَّا قِيَامُ رَمَضَانَ فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَيْهِ جَانِبُ الْقِرَاءَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ إِذَا قَرَأَ جَمَاعَةٌ جُمْلَةً هَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ الِاسْتِعَاذَةُ، أَوْ تَكْفِي اسْتِعَاذَةُ بَعْضِهِمْ؟ لَمْ أَجِدْ فِيهَا نَصًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِعَاذَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اعْتِصَامُ الْقَارِئِ وَالْتِجَاؤُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى عَنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَكُونُ تَعَوُّذٌ وَاحِدٌ كَافِيًا عَنْ آخَرَ كَمَا اخْتَرْنَاهُ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الْأَكْلِ، وَذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَنِ الْكِفَايَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ إِذَا قَطَعَ الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ لِعَارِضٍ مِنْ سُؤَالٍ، أَوْ كَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ حُكْمُ الِاسْتِعَاذَةِ لَمْ يُعِدِ الِاسْتِعَاذَةَ، وَبِخِلَافِ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ أَجْنَبِيًّا، وَلَوْ رَدًّا لِلسَّلَامِ، فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الِاسْتِعَاذَةَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَطْعُ إِعْرَاضًا عَنِ الْقِرَاءَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: يَسْتَعِيذُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا.
وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي فُصُولٍ: الْأَوَّلُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْبَسْمَلَةِ وَبِغَيْرِهَا وَفِي الْوَصْلِ بَيْنَهُمَا، فَفَصَلَ بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ إِلَّا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةٌ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَقَالُونُ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ وَرْشٍ، وَوَصَلَ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ حَمْزَةُ، وَاخْتُلِفَ عَنْ خَلَفٍ فِي اخْتِيَارِهِ بَيْنَ الْوَصْلِ وَالسَّكْتِ، فَنَصَّ لَهُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْوَصْلِ، وَهُوَ الَّذِي فِي الْمُسْتَنِيرِ، وَالْمُبْهِجِ، وَكِفَايَةِ سِبْطِ الْخَيَّاطِ، وَغَايَةِ أَبِي الْعَلَاءِ، وَنَصَّ لَهُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ عَلَى السَّكْتِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْآخِذِينَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَابْنِ الْكَدِّيِّ، وَابْنِ الْكَالِّ، وَابْنِ زُرَيْقٍ الْحَدَّادِ،، وَأَبِي الْحَسَنِ الدِّيوَانِيِّ، وَابْنِ مُؤْمِنٍ صَاحِبِ الْكَنْزِ، وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا عَنِ الْبَاقِينَ، وَهُمْ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ، وَوَرْشٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَزْرَقِ بَيْنَ الْوَصْلِ وَالسَّكْتِ وَالْبَسْمَلَةِ. فَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَقَطَعَ لَهُ بِالْوَصْلِ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ وَصَاحِبُ الْوَجِيزِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي جَامِعِ الْبَيَانِ لِلدَّانِيِّ، وَبِهِ قَرَأَ شَيْخُهُ الْفَارِسِيُّ، عَنْ أَبِي طَاهِرٍ، وَهُوَ طَرِيقُ أَبِي إِسْحَاقَ الطَّبَرِيِّ فِي الْمُسْتَنِيرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْكَافِي، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الشَّاطِبِيَّةِ، وَبِهِ قَرَأَ صَاحِبُ التَّجْرِيدِ عَلَى عَبْدِ الْبَاقِي،، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْهِدَايَةِ، وَبِهِ قَطَعَ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ لِغَيْرِ السُّوسِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْحَضْرَمِيُّ فِي الْمُفِيدِ لِلدُّورِيِّ عَنْهُ، وَقَطَعَ لَهُ بِالسَّكْتِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالتَّبْصِرَةِ وَتَلْخِيصِ الْعِبَارَاتِ، وَتَلْخِيصِ أَبِي مَعْشَرٍ وَالْإِرْشَادِ لِابْنِ غَلْبُونَ وَالتَّذْكِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي فِي الْمُسْتَنِيرِ وَالرَّوْضَةِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ لِغَيْرِ ابْنِ حَبَشٍ عَنِ السُّوسِيِّ، وَفِي الْكَافِي أَيْضًا، وَقَالَ: إِنَّهُ أُخِذَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الدَّانِيُّ، وَقَرَأَ بِهِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْفَتْحِ وَابْنِ خَاقَانَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ التَّيْسِيرِ بِسِوَاهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَبِهِ قَرَأَ صَاحِبُ التَّجْرِيدِ عَلَى الْفَارِسِيِّ لِلدُّورِيِّ، وَقَطَعَ بِهِ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ لِلدُّورِيِّ أَيْضًا، وَقَطَعَ لَهُ بِالْبَسْمَلَةِ صَاحِبُ الْهَادِي وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكَافِي، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حَبَشٍ عَنِ السُّوسِيِّ، وَهُوَ الَّذِي فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ لِلسُّوسِيِّ، وَقَالَ الْخُزَاعِيُّ، وَالْأَهْوَازِيُّ وَمَكِّيٌّ وَابْنُ سُفْيَانَ وَالْهُذَلِيُّ: وَالتَّسْمِيَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَمَّا ابْنُ عَامِرٍ فَقَطَعَ لَهُ بِالْوَصْلِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَافِي وَالشَّاطِبِيَّةِ وَقَطَعَ لَهُ بِالسَّكْتِ صَاحِبَا التَّلْخِيصِ وَالتَّبْصِرَةِ، وَابْنَا غَلْبُونَ، وَاخْتِيَارُ الدَّانِيِّ، وَبِهِ قَرَأَ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْيَسِيرِ بِسِوَاهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَقَطَعَ لَهُ بِالْبَسْمَلَةِ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ، وَصَاحِبُ التَّجْرِيدِ، وَجَمِيعُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ الْكَافِي، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الْفَتْحِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيُّ فِي الرَّوْضَةِ سِوَاهُ، وَهُوَ الَّذِي فِي الْكَامِلِ، وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَقَطَعَ لَهُ بِالْوَصْلِ صَاحِبُ غَايَةِ الِاخْتِصَارِ، وَقَطَعَ لَهُ بِالسَّكْتِ صَاحِبُ الْمُسْتَنِيرِ وَالْإِرْشَادِ وَالْكِفَايَةِ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَقَطَعَ لَهُ بِالْبَسْمَلَةِ صَاحِبُ التَّذْكِرَةِ، وَالدَّانِيُّ وَابْنُ الْفَحَّامِ وَابْنُ شُرَيْحٍ، وَصَاحِبُ الْوَجِيزِ، وَالْكَامِلِ، وَأَمَّا وَرْشٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَزْرَقِ فَقَطَعَ لَهُ بِالْوَصْلِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَصَاحِبُ الْعُنْوَانِ الْحَضْرَمِيُّ وَصَاحِبُ الْمُفِيدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْكَافِي، وَأَحَدُ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي الشَّاطِبِيَّةِ، وَقَطَعَ لَهُ بِالسَّكْتِ ابْنَا غَلْبُونَ، وَابْنُ بَلِّيمَةَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ، وَهُوَ الَّذِي فِي التَّيْسِيرِ، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى جَمِيعِ شُيُوخِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي التَّبْصِرَةِ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْكَامِلِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ لَهُ غَيْرَهُ، وَقَطَعَ لَهُ بِالْبَسْمَلَةِ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى أَبِي عَدِيٍّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكَافِي، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الشَّاطِبِيَّةِ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ أَبُو غَانِمٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْأُذْفُوِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْأَزْرَقِ.
الثَّانِي أَنَّ الْآخِذِينَ بِالْوَصْلِ لِمَنْ ذَكَرَ مِنْ حَمْزَةَ وَأَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، أَوْ يَعْقُوبَ، أَوْ وَرْشٍ اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَهُمُ السَّكْتَ بَيْنَ الْمُدَّثِّرِ، وَ{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}- وَبَيْنَ- الِانْفِطَارِ وَ{وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}- وَبَيْنَ وَالْفَجْرِ، وَ{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}- وَبَيْنَ {وَالْعَصْرِ}، وَ{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَابْنَيْ غَلْبُونَ، وَصَاحِبِ الْمُبْهِجِ وَصَاحِبِ التَّبْصِرَةِ، وَصَاحِبِ الْإِرْشَادِ، وَصَاحِبِ الْمُفِيدِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَبُو مَعْشَرٍ فِي جَامِعِهِ وَصَاحِبُ التَّجْرِيدِ وَصَاحِبُ التَّيْسِيرِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ فِي غَيْرِ الْعَصْرِ، وَالْهُمَزَةِ، وَكَذَا اخْتَارَهُ ابْنُ شَيْطَا صَاحِبُ التَّذْكَارِ، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ غَلْبُونَ، وَكَذَا الْآخِذُونَ بِالسَّكْتِ لِمَنْ ذَكَرَ مِنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ، وَوَرْشٍ، اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَهُمُ الْبَسْمَلَةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْمَوَاضِعِ كَابْنَيْ غَلْبُونَ، وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَمَكِّيٍّ، وَصَاحِبِ التَّبْصِرَةِ، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ، وَخَلَفِ بْنِ خَاقَانَ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لِبَشَاعَةِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ: أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ لَا أَوِ: ادْخُلِي جَنَّتِي لَا أَوْ: لِلَّهِ وَيْلٌ أَوْ: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَيْلٌ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَفَصَلُوا بِالْبَسْمَلَةِ لِلسَّاكِتِ، وَبِالسَّكْتِ لِلْوَاصِلِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْبَسْمَلَةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ النَّصُّ بِعَدَمِ الْبَسْمَلَةِ، فَلَوْ بَسْمَلُوا لَصَادَمُوا النَّصَّ بِالِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ فَارِسِ بْنِ أَحْمَدَ، وَابْنِ سُفْيَانَ صَاحِبِ الْهَادِي، وَأَبِي الطَّاهِرِ صَاحِبِ الْعُنْوَانِ وَشَيْخِهِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الطَّرَسُوسِيِّ صَاحِبِ الْمُسْتَنِيرِ، وَالْإِرْشَادِ، وَالْكِفَايَةِ، وَسَائِرِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أَوَّلُهَا تَخْصِيصُ السَّكْتِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مُفَرَّعٌ عَلَى الْوَصْلِ وَالسَّكْتِ مُطْلَقًا. فَمَنْ خَصَّهَا بِالسَّكْتِ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ فِي غَيْرِهَا الْوَصْلُ، وَمَنْ خَصَّهَا بِالْبَسْمَلَةِ فَمَذْهَبُهُ فِي غَيْرِهَا السَّكْتُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْوِي الْبَسْمَلَةَ لِأَصْحَابِ الْوَصْلِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُنْتَجَبُ، وَابْنُ بُصْخَانَ، فَافْهَمْ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ الْجَعْبَرِيُّ فِي فَهْمِهِ مَا شَاءَ وَأَجَادَ الصَّوَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَانْفَرَدَ الْهُذَلِيُّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَوْضِعًا خَامِسًا، وَهُوَ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَ الْأَحْقَافِ وَالْقِتَالِ عَنِ الْأَزْرَقِ، عَنْ وَرْشٍ وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو الْكَرَمِ، وَكَذَلِكَ انْفَرَدَ صَاحِبُ التَّذْكِرَةِ بِاخْتِيَارِ الْوَصْلِ لِمَنْ سَكَتَ مِنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، وَوَرْشٍ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ: الْأَنْفَالُ بِبَرَاءَةَ، وَالْأَحْقَافُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا، وَاقْتَرَبَتْ بِالرَّحْمَنِ، وَالْوَاقِعَةُ بِالْحَدِيدِ، وَالْفِيلُ بِـ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَلِكَ بِمُشَاكَلَةِ آخِرِ السُّورَةِ لِأَوَّلِ الَّتِي تَلِيهَا.
ثَانِيهَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ السَّكْتِ، وَأَنَّ الْمُشْتَرَطَ فِيهِ يَكُونُ مِنْ دُونِ تَنَفُّسٍ، وَأَنَّ كَلَامَ أَئِمَّتِنَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ طُولُ زَمَنِهِ وَقِصَرُهُ، وَحِكَايَةُ قَوْلِ سِبْطِ الْخَيَّاطِ: إِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ طُولِ زَمَنِ السَّكْتِ بِقَدْرِ الْبَسْمَلَةِ، وَقَدْ قَالَ أَيْضًا فِي كِفَايَتِهِ مَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِسْرَارُهَا، أَيْ: إِسْرَارُ الْبَسْمَلَةِ. قُلْتُ: وَالَّذِي قَرَأْتُ بِهِ وَآخُذُ: السَّكْتُ عَنْ جَمِيعِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ السَّكْتُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سَكْتًا يَسِيرًا مِنْ دُونِ تَنَفُّسٍ قَدْرَ السَّكْتِ لِأَجْلِ الْهَمْزِ، عَنْ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ حَتَّى أَنِّي أَخْرَجْتُ وَجْهَ حَمْزَةَ مَعَ وَجْهِ وَرْشٍ بَيْنَ سُورَتَيْ وَالضُّحَى، وَأَلَمْ نَشْرَحْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ قَرَأْتُهُ عَلَيْهِ مِنْ شُيُوخِي، وَهُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَاصِلِينَ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْوَاصِلِينَ وَالسَّاكِتِينَ إِذَا ابْتَدَأَ سُورَةً مِنَ السُّوَرِ بَسْمَلَ بِلَا خِلَافٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِلَّا إِذَا ابْتَدَأَ بَرَاءَةٌ كَمَا سَيَأْتِي، سَوَاءٌ كَانَ الِابْتِدَاءُ عَنْ وَقْفٍ أَمْ قَطْعٍ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَصَلَ بِهَا فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ أَلْغَاهَا فَلِلتَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ، وَلِمُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ مَنْ أَلْغَاهَا إِنَّمَا كُتِبَتْ لِأَوَّلِ السُّورَةِ تَبَرُّكًا، وَهُوَ لَمْ يُلْغِهَا فِي حَالَةِ الْوَصْلِ إِلَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْتَدِئْ، فَلَمَّا ابْتَدَأَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْمُصْحَفَ وَصْلًا وَوَقْفًا، فَيَخْرُجُ عَنِ الْإِجْمَاعِ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَهَمَزَاتِ الْوَصْلِ تُحْذَفُ وَصْلًا وَتُثْبَتُ ابْتِدَاءً؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ وُصِلَتْ بِسُورَةِ النَّاسِ قَبْلَهَا أَوِ ابْتُدِئَ بِهَا لِأَنَّهَا وَلَوْ وُصِلَتْ لَفْظًا فَإِنَّهَا مُبْتَدَأٌ بِهَا حُكْمًا؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَاصِلُ هُنَا حَالًّا مُرْتَحِلًا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْخَرَقِيُّ عَنِ ابْنِ سَيْفٍ، عَنِ الْأَزْرَقِ، عَنْ وَرْشٍ أَنَّهُ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ فَالْخَرَقِيُّ هُوَ شَيْخُ الْأَهْوَازِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَهْوَازِيِّ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ وَرْشٍ، بَلِ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ خِلَافُهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو فِي كِتَابِهِ الْمُوجَزُ : اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْأَدَاءِ مِنْ مَشْيَخَةِ الْمِصْرِيِّينَ رَوَوْا أَدَاءً عَنْ أَسْلَافِهِمْ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ وَرْشٍ أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الْبَسْمَلَةَ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي أَوَّلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ يُبَسْمِلُ فِي أَوَّلِهَا لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ، فَلَيْسَ قَبْلَهَا سُورَةٌ يُوصَلُ آخِرُهَا بِهَا. هَكَذَا قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ خَاقَانَ، وَابْنِ غَلْبُونَ، وَفَارِسِ بْنِ أَحْمَدَ- وَحَكَوْا ذَلِكَ- عَنْ قِرَاءَتِهِمْ مُتَّصِلًا، وَانْفَرَدَ صَاحِبُ الْكَافِي بِعَدَمِ الْبَسْمَلَةِ لِحَمْزَةَ فِي ابْتِدَاءِ السُّوَرِ سِوَى الْفَاتِحَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَدُهُ أَبُو الْحَسَنِ شُرَيْحٌ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَاذِشِ مِنْ أَنَّهُ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ لِحَمْزَةَ بِوَصْلِ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ لَا يَلْتَزِمُ بِالْوَصْلِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ آخِرُ السُّورَةِ عِنْدَهُ كَآخِرِ آيَةٍ، وَأَوَّلُ السُّورَةِ الْأُخْرَى كَأَوَّلِ آيَةٍ أُخْرَى، فَكَمَا لَا يَلْتَزِمُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ وَصْلَ الْآيَاتِ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ كَذَا لَا يَلْتَزِمُ لَهُ وَصْلَ السُّورَةِ حَتْمًا، بَلْ إِنْ وَصَلَ فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَ فَحَسَنٌ. قُلْتُ: حُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ حَمْزَةَ: الْقُرْآنُ عِنْدِي كَسُورَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِذَا قَرَأْتُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَجْزَأَنِي، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَلَامَ حَمْزَةَ يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْوَصْلِ لَا الِابْتِدَاءِ؛ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ لَا خِلَافَ فِي حَذْفِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، عَنْ كُلِّ مَنْ بَسْمَلَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ بِبَرَاءَةَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَاءِ، وَمِمَّنْ حَكَى بِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ غَلْبُونَ، وَابْنُ الْقَاسِمِ بْنُ الْفَحَّامِ، وَمَكِّيٌّ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِهَا. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ: إِنَّهُ الْقِيَاسُ، قَالَ: لِأَنَّ إِسْقَاطَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْطَعُوا بِأَنَّهَا سُورَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا دُونَ الْأَنْفَالِ، فَإِنْ كَانَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ فَذَاكَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نُسَمِّي لِلتَّبَرُّكِ، وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُقْطَعْ بِأَنَّهَا سُورَةٌ وَحْدَهَا، فَالتَّسْمِيَةُ فِي أَوَائِلِ الْأَجْزَاءِ جَائِزَةٌ. وَقَدْ عُلِمَ الْغَرَضُ بِإِسْقَاطِهَا، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّسْمِيَةِ. قُلْتُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُمْنَعُ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيُّ: فَأَمَّا بَرَاءَةٌ فَالْقُرَّاءُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْفَالِ بِالْبَسْمَلَةِ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِهَا حَالَ الِابْتِدَاءِ بِهَا سِوَى مَنْ رَأَى الْبَسْمَلَةَ فِي حَالِ الِابْتِدَاءِ بِأَوْسَاطِ السُّوَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِهَا مِنْ أَوَّلِ بَرَاءَةَ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا وَالْأَنْفَالَ سُورَةً وَاحِدَةً، وَلَا يُبْتَدَأُ بِهَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ تَرْكِهَا فِي أَوَّلِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنِ شَيْطَا: وَلَوْ أَنَّ قَارِئًا ابْتَدَأَ قِرَاءَتَهُ مِنْ أَوَّلِ التَّوْبَةِ فَاسْتَعَاذَ وَوَصَلَ الِاسْتِعَاذَةَ بِالتَّسْمِيَةِ مُتَبَرِّكًا بِهَا، ثُمَّ تَلَا السُّورَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يَجُوزُ لَهُ إِذَا ابْتَدَأَ مِنْ بَعْضِ سُورَةٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يَصِلَ آخِرَ الْأَنْفَالِ بِأَوَّلِ بَرَاءَةَ، ثُمَّ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْبَسْمَلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَضَلَالٌ وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَمُخَالِفٌ لِلْمُصْحَفِ. قُلْتُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَهَا أَنَّهُ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَمُخَالِفٌ لِلْمُصْحَفِ، وَلَا تُصَادَمُ النُّصُوصُ بِالْآرَاءِ، وَمَا رَوَاهُ الْأَهْوَازِيُّ فِي كِتَابِهِ الْإِيضَاحُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَهَا فَلَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الِابْتِدَاعِ.
الْخَامِسُ يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَوْسَاطِ السُّوَرِ مُطْلَقًا سِوَى بَرَاءَةَ الْبَسْمَلَةُ وَعَدَمُهَا لِكُلٍّ مِنَ الْقُرَّاءِ تَخَيُّرًا. وَعَلَى اخْتِيَارِ الْبَسْمَلَةِ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَعَلَى اخْتِيَارِ عَدَمِهَا جُمْهُورُ الْمَغَارِبَةِ وَأَهْلُ الْأَنْدَلُسِ، قَالَ ابْنُ شَيْطَا عَلَى أَنَّنِي قَرَأْتُ عَلَى جَمِيعِ شُيُوخِنَا فِي كُلِّ الْقِرَاءَاتِ عَنْ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ الْفَاضِلِينَ بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَالتَّارِكِينَ لَهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِعَاذَةِ مَوْصُولَةً بِالتَّسْمِيَةِ مَجْهُورًا بِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبْدُوءُ بِهِ أَوَّلَ سُورَةٍ، أَوْ بَعْضَ سُورَةٍ، قَالَ: وَلَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَرَأَ عَلَى شُيُوخِهِ إِلَّا كَذَلِكَ. انْتَهَى، وَهُوَ نَصٌّ فِي وَصْلِ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْجَامِعِ : وَبِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ ابْتَدَأْتُ رُءُوسَ الْأَجْزَاءِ عَلَى شُيُوخِيَ الَّذِينَ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ فِي مَذَاهِبِ الْكُلِّ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُ، وَلَا أَمْنَعُ مِنَ الْبَسْمَلَةِ، وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي تَبْصِرَتِهِ: فَإِذَا ابْتَدَأَ الْقَارِئُ بِغَيْرِ أَوَّلِ سُورَةٍ عَوَّذَ فَقَطْ، هَذِهِ عَادَةُ الْقُرَّاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَرَأْتُ، وَقَالَ ابْنُ الْفَحَّامِ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ- يَعْنِي ابْنَ نَفِيسٍ- أَوَّلَ حِزْبِي مِنْ وَسَطِ سُورَةٍ، فَبَسْمَلْتُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ وَأَتْبَعْتُ ذَلِكَ: هَلْ آخُذُ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتَ التَّبَرُّكَ، ثُمَّ مَنَعَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَقُولَ رِوَايَةً. قَالَ: وَقَرَأْتُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْنَعُ، وَأَمَّا قَرَأْتُ بِهَذَا فَلَا. انْتَهَى، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَنْعِهِ رِوَايَةً، وَقَالَ الدَّانِيُّ فِي جَامِعِهِ: وَبِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ ابْتَدَأْتُ رُءُوسَ الْأَجْزَاءِ عَلَى شُيُوخِيَ الَّذِينَ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ فِي مَذْهَبِ الْكُلِّ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُ، وَلَا أَمْنَعُ مِنَ التَّسْمِيَةِ. قُلْتُ: وَأَطْلَقَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا أَبُو مَعْشَرٍ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي التَّيْسِيرِ، وَمِنْهُمْ مِنْ ذَكَرَ الْبَسْمَلَةَ وَعَدَمَهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ التَّفْصِيلُ، فَيَأْتِي بِالْبَسْمَلَةِ عَمَّنْ فَصَلَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ كَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَيَتْرُكُهَا عَمَّنْ لَمْ يَفْصِلْ بِهَا كَحَمْزَةَ وَخَلَفٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ سِبْطِ الْخَيَّاطِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ بْنِ الْبَاذِشِ يُتْبِعُونَ وَسَطَ السُّورَةِ بِأَوَّلِهَا، وَقَدْ كَانَ الشَّاطِبِيُّ يَأْمُرُ بِالْبَسْمَلَةِ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، وَقَوْلِهِ: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} وَنَحْوِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَشَاعَةِ، وَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُو الْجُودِ غِيَاثُ بْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَكِّيٍّ فِي غَيْرِ التَّبْصِرَةِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي قِيَاسًا أَنْ يُنْهَى عَنِ الْبَسْمَلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، وَقَوْلِهِ: {لَعَنَهُ اللَّهُ} وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْبَشَاعَةِ أَيْضًا.
السَّادِسُ الِابْتِدَاءُ بِالْآيِ وَسَطَ بَرَاءَةَ قُلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِلنَّصِّ عَلَيْهَا، وَلَمْ أَرَ فِيهَا نَصًّا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ التَّخْيِيرُ فِيهَا، وَعَلَى جَوَازِ الْبَسْمَلَةِ فِيهَا نَصَّ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ جَمَالُ الْقُرَّاءِ حَيْثُ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلَافٍ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وَفِي نَظَائِرِهَا مِنَ الْآيِ، وَإِلَى مَنْعِهَا جَنَحَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجَعْبَرِيُّ، فَقَالَ رَادًّا عَلَى السَّخَاوِيِّ: إِنْ كَانَ نَقْلًا فَمُسَلَّمٌ، وَإِلَّا فَرَدٌّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَقْرِيعٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ وَتَصَادُمٌ لِتَعْلِيلِهِ. قُلْتُ: وَكِلَاهُمَا يُحْتَمَلُ، الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوْسَاطٍ غَيْرِ بَرَاءَةَ لَا إِشْكَالَ فِي تَرْكِهَا عِنْدَهُ فِي وَسَطِ بَرَاءَةَ، وَكَذَا لَا إِشْكَالَ فِي تَرْكِهَا فِيهَا عِنْدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّفْضِيلِ، إِذِ الْبَسْمَلَةُ عِنْدَهُمْ فِي وَسَطِ السُّورَةِ تَبَعٌ لِأَوَّلِهَا، وَلَا تَجُوزُ الْبَسْمَلَةُ أَوَّلُهَا فَكَذَلِكَ وَسَطُهَا، وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْبَسْمَلَةِ فِي الْأَجْزَاءِ مُطْلَقًا، فَإِنِ اعْتَبَرَ بَقَاءَ أَثَرِ الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا حُذِفَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنْ أَوَّلِهَا وَهِيَ نُزُولُهَا بِالسَّيْفِ كَالشَّاطِبِيِّ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ لَمْ يُبَسْمِلْ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بَقَاءَ أَثَرِهَا، أَوْ لَمْ يَرَهَا عِلَّةً بَسْمَلَ بِلَا نَظَرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
السَّابِعُ إِذَا فَصَلَ بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَمْكَنَ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَوْلَاهَا قَطْعُهَا عَنِ الْمَاضِيَةِ وَوَصْلُهَا بِالْآتِيَةِ، وَالثَّانِي وَصْلُهَا بِالْمَاضِيَةِ وَبِالْآتِيَةِ، وَالثَّالِثُ قَطْعُهَا عَنِ الْمَاضِيَةِ وَعَنِ الْآتِيَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْأَدَاءِ فِي جَوَازِهِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ مَكِّيٌّ، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي التَّبْصِرَةِ عَلَى جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَمَنْعِ الرَّابِعِ، وَسَكَتَ عَنْ هَذَا الثَّالِثِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا، وَقَالَ فِي الْكَشْفِ مَا نَصُّهُ: إِنَّهُ أَتَى بِالْبَسْمَلَةِ عَلَى إِرَادَةِ التَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَإِثْبَاتِهَا لِلِافْتِتَاحِ فِي الْمُصْحَفِ، فَهِيَ لِلِابْتِدَاءِ بِالسُّورَةِ، فَلَا يُوصَفُ عَلَى التَّسْمِيَةِ دُونَ أَنْ يُوصَلَ بِأَوَّلِ السُّورَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اقْتِضَاءِ مَنْعِ الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ. وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ آخِرَ الْكِتَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالرَّابِعُ وَصْلُهَا بِالْمَاضِيَةِ وَقَطْعُهَا عَنِ الْآتِيَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ لِأَوَائِلِ السُّوَرِ لَا لِأَوَاخِرِهَا، قَالَ: صَاحِبُ التَّيْسِيرِ : وَالْقَطْعُ عَلَيْهَا إِذَا وُصِلَتْ بِأَوَاخِرِ السُّوَرِ غَيْرُ جَائِزٍ.
تَنْبِيهَاتٌ أَوَّلُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَطْعِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْوَقْفُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، قَالَ الدَّانِيُّ فِي جَامِعِهِ: وَاخْتِيَارِي فِي مَذْهَبِ مَنْ فَصَّلَ أَنْ يَقِفَ الْقَارِئُ عَلَى آخِرِ السُّورَةِ وَيَقْطَعَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِالتَّسْمِيَةِ مَوْصُولَةً بِأَوَّلِ السُّورَةِ الْأُخْرَى. انْتَهَى، وَذَلِكَ أَوْضَحُ. وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَعْبَرِيَّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- ظَنَّ أَنَّهُ السَّكْتُ الْمَعْرُوفُ، فَقَالَ فِي قَوْلِ الشَّاطِبِيِّ: فَلَا تَقِفَنَّ، وَلَوْ قَالَ: فَلَا تَسْكُتَنَّ لَكَانَ أَسَدَّ. وَذَلِكَ وَهْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ السَّخَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ يَصِلْهَا بِآخِرِ سُورَةٍ جَازَ أَنْ يَسْكُتَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتَأَمَّلْهُ، وَلَوْ تَأَمَّلْهُ لَعَلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالسَّكْتِ الْوَقْفُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ: اخْتَارَ الْأَئِمَّةُ لِمَنْ يَفْصِلُ بِالتَّسْمِيَةِ أَنْ يَقِفَ الْقَارِئُ عَلَى أَوَاخِرِ السُّوَرِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِالتَّسْمِيَةِ.
ثَانِيهَا تَجُوزُ الْأَوْجُهُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْبَسْمَلَةِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْوَصْلِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالْآيَةِ، وَمَنْ قَطَعَهَا عَنْ الِاسْتِعَاذَةِ وَالْآيَةِ، وَمَنْ قَطَعَهَا عَنِ الِاسْتِعَاذَةِ وَوَصَلَهَا بِالْآيَةِ، وَمَنْ عَكَسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ، وَإِلَى قَوْلِ ابْنِ شَيْطَا فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ قَرِيبًا فِي قَطْعِهِ بِوَصْلِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِبْطِ الْخَيَّاطِ، وَقَالَ ابْنُ الْبَاذِشِ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْجَمِيعِ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّرْتِيلِ.
ثَالِثُهَا إِنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ وَنَحْوَهَا الْوَارِدَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا مَعْرِفَةُ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلٍّ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى وَجْهِ ذِكْرِ الْخُلْفِ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ قُرِئَ مِنْهَا جَازَ، وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إِذَا قُصِدَ اسْتِيعَابُ الْأَوْجُهِ حَالَةَ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ. وَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْوَقْفِ بِالسُّكُونِ وَبِالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ، وَكَالْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَقْفًا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حَرْفَ مَدٍّ أَوْ لِينٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا بِالْأَصَحِّ الْأَقْوَى، وَيَجْعَلُ الْبَاقِي مَأْذُونًا فِيهِ، وَبَعْضٌ لَا يَلْتَزِمُ شَيْئًا، بَلْ يَتْرُكُ الْقَارِئَ يَقْرَأُ مَا شَاءَ مِنْهَا، إِذْ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ مَأْذُونٌ فِيهِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَرَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَيَقْرَأُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ وَبِآخَرَ فِي غَيْرِهِ؛ لِيَجْمَعَ الْجَمِيعَ الْمُشَافَهَةُ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَوَّلِ مَوْضِعٍ وَرَدَتْ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ مَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْلَامِ وَالتَّعْلِيمِ وَشُمُولِ الرِّوَايَةِ، أَمَّا مَنْ يَأْخُذُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَا يَعْتَمِدُهُ إِلَّا مُتَكَلِّفٌ غَيْرُ عَارِفٍ بِحَقِيقَةِ أَوْجُهِ الْخِلَافِ، وَإِنَّمَا سَاغَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَوْجُهِ فِي نَحْوِ التَّسْهِيلِ فِي وَقْفِ حَمْزَةَ لِتَدْرِيبِ الْقَارِئِ الْمُبْتَدِئِ وَرِيَاضَتِهِ عَلَى الْأَوْجُهِ الْغَرِيبَةِ لِيَجْرِيَ لِسَانُهُ وَيَعْتَادَ التَّلَفُّظَ بِهَا بِلَا كُلْفَةٍ، فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ؛ فَلِذَلِكَ لَا يُكَلَّفُ الْعَارِفُ بِجَمْعِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ جُلَّةِ مَشْيَخَةِ الْأَنْدَلُسِ- حَمَاهَا اللَّهُ- أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي وَجْهَيِ الْإِسْكَانِ وَالصِّلَةِ مِنْ مِيمِ الْجَمْعِ لِقَالُونَ إِلَّا بِوَجْهٍ وَاحِدٍ مُعْتَمِدِينَ ظَاهِرَ قَوْلَيِ الشَّاطِبِيِّ وَقَالُونَ بِتَخْيِيرِهِ جَلَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.
رَابِعُهَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ إِذَا لَمْ يَقْطَعْ عَلَى آخِرِ الْأَنْفَالِ كُلٌّ مِنَ الْوَصْلِ وَالسَّكْتِ وَالْوَقْفِ لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ. أَمَّا الْوَصْلُ لَهُمْ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا مَعَ وُجُودِ الْبَسْمَلَةِ، فَجَوَازُهُ مَعَ عَدَمِهَا أَوْلَى عَنِ الْفَاصِلِينَ وَالْوَاصِلِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ غَلْبُونَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ، وَهُوَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ يَصِلُ أَظْهَرُ، وَأَمَّا السَّكْتُ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِ السَّكْتِ، وَأَمَّا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْفَاصِلِينَ وَالْوَاصِلِينَ فَمَنْ نَصَّ عَلَيْهِ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْقُرَّاءِ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي تَبْصِرَتِهِ، فَقَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ لِإِجْمَاعِ الْمَصَاحِفِ عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا السَّكْتُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ قَرَأْتُ بِهِ لِجَمَاعَتِهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ مَنْصُوصًا، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ فِي رَوْضَتِهِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْحَمَّامِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِسَكْتَةٍ بَيْنَهُمَا لِحَمْزَةَ وَحْدَهُ. فَقَالَ: وَكَانَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ وَالْأَعْمَشُ يَصِلُونَ السُّورَةَ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ الْحَمَّامِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ سَكَتَ بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ، وَعَلَيْهِ أُعَوِّلُ. انْتَهَى، وَإِذَا أُخِذَ بِالسَّكْتِ عَنْ حَمْزَةَ فَالْأَخْذُ عَنْ غَيْرِهِ أَحْرَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْمُحَقِّقُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْقَصَّاعِ فِي كِتَابِهِ الِاسْتِبْصَارُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ : وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِ الْأَنْفَالِ بِالتَّوْبَةِ فَبَعْضُهُمْ يَرَى وَصْلَهُمَا، وَيَتَبَيَّنُ الْإِعْرَابَ وَبَعْضُهُمْ يَرَى السَّكْتَ بَيْنَهُمَا. انْتَهَى. قُلْتُ: وَإِذَا قُرِئَ بِالسَّكْتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَلَا يَتَأَتَّى وَجْهُ إِسْرَارِ الْبَسْمَلَةِ عَلَى مَذْهَبِ سِبْطِ الْخَيَّاطِ الْمُتَقَدِّمِ، إِذْ لَا بَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا يَسْكُتُ بِقَدْرِهَا، فَاعْلَمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّرْتِيلِ، وَهُوَ اخْتِيَارِي فِي مَذْهَبِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ أَوَاخِرَ السُّوَرِ مِنْ أَتَمِ التَّمَامِ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ فِي مَذْهَبِ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى آخَرِ السُّوَرِ لَلَزِمَتِ الْبَسْمَلَةُ أَوَائِلَ السُّوَرِ، وَمِنْ أَجْلِ الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا خُولِفَ الرَّسْمُ فِي الْحَالَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّازِمُ هُنَا مُنْتَفٍ وَالْمُقْتَضَى لِلْوَقْفِ قَائِمٌ، فَمِنْ ثَمَّ اخْتَرْنَا الْوَقْفَ، وَلَا نَمْنَعُ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خَامِسُهَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ هُوَ عَامٌّ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتَا مُرَتَّبَتَيْنِ، أَوْ غَيْرَ مُرَتَّبَتَيْنِ، فَلَوْ وَصَلَ آخِرَ الْفَاتِحَةِ مُبْتَدِئًا بِآلِ عِمْرَانَ، أَوْ آخَرَ آلِ عِمْرَانَ بِالْأَنْعَامِ- جَازَتِ الْبَسْمَلَةُ وَعَدَمُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ وُصِلَتِ التَّوْبَةُ بِآخِرِ سُورَةٍ سِوَى الْأَنْفَالِ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ وُصِلَتْ بِالْأَنْفَالِ، أَمَّا لَوْ وُصِلَتِ السُّورَةُ بِأَوَّلِهَا كَأَنْ كُرِّرَتْ مَثَلًا كَمَا تُكَرَّرُ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ نَصًّا، وَالَّذِي يَظْهَرُ الْبَسْمَلَةُ قَطْعًا؛ فَإِنَّ السُّورَةَ وَالْحَالَةَ هَذِهِ مُبْتَدِئَةٌ كَمَا لَوْ وُصِلَتِ النَّاسُ بِالْفَاتِحَةِ، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ عُمُومُ الْحُكْمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهَا آيَةً، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَذَاهِبِ الْقُرَّاءِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ إِجْرَاءُ أَحْوَالِ الْوَصْلِ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمُوصَلِ طَرَفَاهَا مِنْ إِعْرَابٍ وَتَنْوِينٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّامِنُ فِي حُكْمِهَا، وَهَلْ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَبُسِطَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِلْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ لِلتَّعَرُّضِ لِذَلِكَ لَمْ نُخْلِ كِتَابَنَا مِنْهُ؛ لِتَعْرِفَ مَذَاهِبَ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، فَنَقُولُ: اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَرُوِيَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ الثَّانِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَمِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، بَعْضُ آيَةٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ. الرَّابِعُ أَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَا مِنْهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْخَامِسُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ وَلَا بَعْضِ آيَةٍ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا مِنْ أَوَّلِ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ لِلتَّيَمُّنِ وَالتَّبَرُّكِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ كِلَيْهُمَا صَحِيحٌ، وَأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَقٌّ، فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا كَاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ. قَالَ السَّخَاوِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ، وَعَاصِمًا، وَالْكِسَائِيَّ يَعْتَقِدُونَهَا آيَةً مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَوَافَقَهُمْ حَمْزَةُ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً. قَالَ: وَأَبُو عَمْرٍو، وَقَالُونُ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ لَا يَعْتَقِدُونَهَا آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ. انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ إِلَى تَعَقُّبٍ، فَلَوْ قَالَ: يَعْتَقِدُونَهَا مِنَ الْقُرْآنِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ لِيَعُمَّ كَوْنَهَا آيَةً مِنْهَا أَوْ فِيهَا، أَوْ بَعْضَ آيَةٍ- لَكَانَ أَسَدَّ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ عَدَّهَا آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى الْفَاتِحَةِ نَصًّا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ قَالُونَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ لَا يَعْتَقِدُونَهَا آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ قَدْ صَحَّ نَصًّا أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُسَيَّبِيَّ أَوْثَقَ أَصْحَابِ نَافِعٍ وَأَجَلَّهُمْ، قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا، عَنْ قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَأَمَرَنِي بِهَا، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا. رَوَى ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ شَيْخِهِ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَرُوِّينَا أَيْضًا عَنِ الْمُسَيَّبِيِّ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الْعَرْضِ وَالصَّلَاةِ، هَكَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْقُرَّاءِ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا عَنِ الْبَسْمَلَةِ فَقَالَ: السُّنَّةُ الْجَهْرُ بِهَا، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَقَالَ: كُلُّ عِلْمٍ يُسْأَلُ عَنْهُ أَهْلُهُ.
اخْتَلَفُوا فِي مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ بِالْأَلِفِ مَدًّا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلْفٍ قَصْرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي: الصِّرَاطِ، وَصِرَاطٍ. فَرَوَاهُ رُوَيْسٌ حَيْثُ وَقَعَ وَكَيْفَ أَتَى بِالسِّينِ، وَاخْتُلِفَ، عَنْ قُنْبُلٍ، فَرَوَاهُ عَنْهُ بِالسِّينِ كَذَلِكَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَهِيَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ قُنْبُلٍ، وَرِوَايَةُ الْحُلْوَانِيِّ عَنِ الْقَوَّاسِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ شَنَبُوذَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الرُّوَاةِ، عَنْ قُنْبُلٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْبَاقُونَ إِلَّا حَمْزَةَ فَرَوَى عَنْهُ خَلَفٌ بِإِشْمَامِ الصَّادِ الزَّايَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ خَلَّادٍ فِي إِشْمَامِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، أَوْ حَرْفَيِ الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، أَوِ الْمَعْرُوفِ بِاللَّامِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، أَوْ لَا إِشْمَامَ فِي الْحَرْفِ الْأَوَّلِ حَسَبَ مَا فِي التَّيْسِيرِ وَالشَّاطِبِيَّةِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ فَارِسٍ، وَصَاحِبُ التَّجْرِيدِ عَلَى عَبْدِ الْبَاقِي، وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْخُنَيْسِيِّ، عَنْ خَلَّادٍ، وَقَطَعَ لَهُ بِالْإِشْمَامِ فِي حَرْفَيِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ وَالطَّرَسُوسِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شَاذَانَ عَنْهُ، وَصَاحِبُ الْمُسْتَنِيرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْبَخْتَرِيِّ، عَنِ الْوَزَّانِ عَنْهُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْعِزِّ الْأَهْوَازِيُّ عَنِ الْوَزَّانِ أَيْضًا، وَهِيَ طَرِيقُ ابْنِ حَامِدٍ، عَنِ الصَّوَّافِ، وَقَطَعَ لَهُ بِالْإِشْمَامِ فِي الْمَعْرُوفِ بِاللَّامِ خَاصَّةً هُنَا وَفِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَهِيَ طَرِيقُ بَكَّارٍ عَنِ الْوَزَّانِ، وَبِهِ قَرَأَ صَاحِبُ التَّجْرِيدِ عَلَى الْفَارِسِيِّ وَالْمَالِكِيِّ، وَهُوَ الَّذِي فِي رَوْضَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيِّ، وَطَرِيقُ ابْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنِ الصَّوَّافِ عَنِ الْوَزَّانِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الدُّورِيِّ، عَنْ سُلَيْمٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَقَطَعَ لَهُ بِعَدَمِ الْإِشْمَامِ فِي الْجَمِيعِ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ، وَالْكَافِي، وَالتَّلْخِيصِ، وَالْهِدَايَةِ، وَالتَّذْكِرَةِ، وَجُمْهُورُ الْمَغَارِبَةِ، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ، وَهِيَ طَرِيقُ ابْنِ الْهَيْثَمِ وَالطَّلْحِيِّ، وَرِوَايَةُ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ خَلَّادٍ، وَانْفَرَدَ ابْنُ عُبَيْدٍ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الصَّوَّافِ عَلَى الْوَزَّانِ عَنْهُ بِالْإِشْمَامِ فِي الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ كَرِوَايَةِ خَلَفٍ، عَنْ حَمْزَةَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُبْهِجِ عَنِ ابْنِ الْهَيْثَمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنَةٍ نَحْوُ: {عَلَيْهِمْ} وَ{إِلَيْهِمْ} وَ{لَدَيْهِمْ}، وَ{عَلَيْهِمَا} وَ{إِلَيْهِمَا} وَ{فِيهِمَا}، وَ{عَلَيْهِنَّ} وَ{إِلَيْهِنَّ} وَ{فِيهِنَّ}، وَ{أَبِيهِمْ} وَ{صَيَاصِيهِمْ} وَ{بِجَنَّتَيْهِمْ} وَ{تَرْمِيهِمْ} وَ{وَمَا نُرِيهِمْ} وَ{بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} وَشِبْهُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَافَقَهُ حَمْزَةُ فِي: {عَلَيْهِمْ} وَ{إِلَيْهِمْ} وَ{لَدَيْهِمْ} فَقَطْ، فَإِنْ سَقَطَتْ مِنْهُ الْيَاءُ لِعِلَّةٍ جَزَمَ، أَوْ بِنَاءً نَحْوُ: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ}، {وَيُخْزِهِمْ}، {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ}، {فَاسْتَفْتِهِمْ}، {فَآتِهِمْ}، فَإِنَّ رُوَيْسًا يَضُمُّ الْهَاءَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} فِي الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ كَسْرَهَا بِلَا خِلَافٍ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} فِي الْحِجْرِ، وَ{يُغْنِهِمُ اللَّهُ} فِي النُّورِ، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ}، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وَكِلَاهُمَا فِي غَافِرٍ، فَكَسَرَ الْهَاءَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ عَنِ النُّحَاسِ. وَكَذَلِكَ رَوَى الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَمَّامِيِّ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَكَذَا نَصَّ الْأَهْوَازِيُّ، وَقَالَ الْهُذَلِيُّ: هَكَذَا أُخِذَ عَلَيْنَا فِي التِّلَاوَةِ وَلَمْ نَجِدْهُ فِي الْأَصْلِ مَكْتُوبًا، زَادَ ابْنُ خَيْرُونَ عَنْهُ كَسْرَ الرَّابِعَةِ وَهِيَ {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وَضَمَّ الْهَاءَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْجُمْهُورُ، عَنْ رُوَيْسٍ، وَانْفَرَدَ فَارِسُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الْهَاءِ فِي بِبَغْيِهُمْ فِي الْأَنْعَامِ، وَحُلِيِّهُمْ فِي الْأَعْرَافِ، وَلَمْ يَرْوِ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَانْفَرَدَ ابْنُ مِهْرَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ {أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} وَبِذَلِكَ، قَرَأَ الْبَاقُونَ فِي جَمِيعِ الْبَابِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِلَةِ مِيمِ الْجَمْعِ بِوَاوٍ وَإِسْكَانِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ مُحَرَّكٍ نَحْوُ {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، {عَلَيْهِمُ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، {عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ} فَضَمَّ الْمِيمَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَوَصَلَهَا بِوَاوٍ فِي اللَّفْظِ وَصْلًا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَاخْتُلِفَ، عَنْ قَالُونَ، فَقَطَعَ لَهُ بِالْإِسْكَانِ صَاحِبُ الْكَافِي، وَهُوَ الَّذِي فِي الْعُنْوَانِ، وَكَذَا قَطَعَ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لَهُ فِي التَّبْصِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِرْشَادِ غَيْرَهُ، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ، وَعَلَى أَبِي الْفَتْحِ، عَنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْحُلْوَانِيِّ وَصَاحِبِ التَّجْرِيدِ عَنِ ابْنِ نَفِيسٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ وَعَلَيْهِ، وَعَلَى الْفَارِسِيِّ وَالْمَالِكِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحُلْوَانِيِّ، وَقَرَأَ الْهُذَلِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ، وَبِالصِّلَةِ قَطَعَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ لِلْحُلْوَانِيِّ، وَبِهِ قَرَأَ الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، عَنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ الْحَسَنِ، وَعَنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَطَرِيقِ الْجَمَّالِ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ، وَبِهِ قَرَأَ الْهُذَلِيُّ، وَأَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ عَنْ قَالُونَ بْنِ بَلِّيمَةَ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَنَصَّ عَلَى الْخِلَافِ صَاحِبُ التَّيْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ وَأَطْلَقَ التَّخْيِيرَ لَهُ فِي الشَّاطِبِيَّةِ، وَكَذَا جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَانْفَرَدَ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْهَاشِمِيِّ عَنِ ابْنِ جَمَّازٍ بِعَدَمِ الصِّلَةِ مُطْلَقًا كَيْفَ وَقَعَتْ، إِلَّا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ هَمْزِ قَطْعٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ النَّقْلِ، وَوَافَقَ وَرْشًا عَلَى الصِّلَةِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ مِيمِ الْجَمْعِ هَمْزَةُ قَطْعٍ نَحْوُ عَلَيْهِمُ أَأَنْذَرْتَهُمُ أَمْ مَعَكُمُ إِنَّمَا وَأَنَّهُمُ إِلَيْهِ وَالْبَاقُونَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِسْكَانِهَا وَقْفًا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْرِ مِيمِ الْجَمْعِ وَضَمِّهَا وَضَمِّ مَا قَبْلَهَا وَكَسْرِهِ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْمِيمِ سَاكِنٌ، وَكَانَ قَبْلَهَا هَاءٌ وَقَبْلَهَا كَسْرَةٌ، أَوْ يَاءٌ سَاكِنَةٌ نَحْوُ: {قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}، وَ{بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، وَ{يُغْنِيهِمُ اللَّهُ}، وَ{يُرِيهِمُ اللَّهُ}، وَ{عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ}، وَ{مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي}، فَكَسَرَ الْمِيمَ وَالْهَاءَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَبُو عَمْرٍو وَضَمَّ الْمِيمَ وَكَسَرَ الْهَاءِ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَضَمَّ الْمِيمَ وَالْهَاءَ جَمِيعًا حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَأَتْبَعَ يَعْقُوبُ الْمِيمَ الْهَاءَ عَلَى أَصْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ، فَضَمَّهَا حَيْثُ ضَمَّ الْهَاءَ وَكَسَرَهَا حَيْثُ كَسَرَهَا، فَيَضُمُّ نَحْوَ يُرِيهُمُ اللَّهُ، عَلَيْهُمُ الْقِتَالُ؛ لِوُجُودِ ضَمَّةِ الْهَاءِ، وَبِكَسْرِ نَحْوِ {فِي قُلُوبِهِمِ الْعِجْلَ}؛ لِوُجُودِ الْكَسْرَةِ، وَرُوَيْسٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي نَحْوِ {يُغْنِهِمُ اللَّهُ}. هَذَا حُكْمُ الْوَصْلِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْوَقْفِ فَكُلُّهُمْ عَلَى إِسْكَانِ الْمِيمِ، وَهِيَ فِي الْهَاءِ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَحَمْزَةُ يَضُمُّ نَحْوَ: {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} وَ{إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} وَيَعْقُوبُ يَضُمُّ ذَلِكَ، وَيَضُمُّ فِي نَحْوِ {يُرِيهِمُ اللَّهُ} وَ{لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} وَرُوَيْسٌ فِي نَحْوِ: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ} عَلَى أَصْلِهِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا ضَمٌّ، سَوَاءٌ كَانَ هَاءً أَمْ كَافًا أَمْ تَاءً نَحْوَ {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ}، وَ{عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ}، وَ{عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِذَا وَقَفُوا سَكَّنُوا الْمِيمَ.
الْإِدْغَامُ هُوَ اللَّفْظُ بِحَرْفَيْنِ حَرْفًا كَالثَّانِي مُشَدَّدًا وَيَنْقَسِمُ إِلَى كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ. فَالْكَبِيرُ مَا كَانَ الْأَوَّلُ مِنَ الْحَرْفَيْنِ فِيهِ مُتَحَرِّكًا، سَوَاءٌ أَكَانَا مِثْلَيْنِ أَمْ جِنْسَيْنِ أَمْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَسُمِّيَ كَبِيرًا لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ، إِذِ الْحَرَكَةُ أَكْثَرُ مِنَ السُّكُونِ. وَقِيلَ: لِتَأْثِيرِهِ فِي إِسْكَانِ الْمُتَحَرِّكِ قَبْلَ إِدْغَامِهِ. وَقِيلَ: لِمَا فِيهِ مِنَ الصُّعُوبَةِ. وَقِيلَ: لِشُمُولِهِ نَوْعَيِ الْمِثْلَيْنِ وَالْجِنْسَيْنِ وَالْمُتَقَارِبَيْنِ.
وَالصَّغِيرُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا سَاكِنًا وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابِ وَقْفِ حَمْزَةَ وَهِشَامٍ عَلَى الْهَمْزِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إِلَى جَائِزٍ وَوَاجِبٍ وَمُمْتَنِعٍ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحُرُوفِ فِي فَصْلِ التَّجْوِيدِ، وَسَيَأْتِي تَتِمَّتُهُ فِي آخِرِ بَابِ الْإِدْغَامِ الصَّغِيرِ وَالْكَلَامِ عِنْدَ الْقُرَّاءِ عَلَى الْجَائِزِ وَمِنْهُمَا بِشَرْطِهِ عَمَّنْ وَرَدَ. وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ عَلَى الْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ فِي فَصْلَيْنِ: الْأَوَّلُ فِي رُوَاتِهِ، وَالثَّانِي فِي أَحْكَامِهِ.
فَأَمَّا رُوَاتُهُ فَالْمَشْهُورُ بِهِ وَالْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَالْمُخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَشَرَةِ هُوَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَلَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ بِهِ، بَلْ قَدْ وَرَدَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، وَمَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ السَّدُوسِيِّ، وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَوَجْهُهُ طَلَبُ التَّخْفِيفِ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْإِدْغَامُ كَلَامُ الْعَرَبِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهَا، وَلَا يُحْسِنُونَ غَيْرَهُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: وَتَذَكَّرْ رَبُّ الْخَوَرْنَقِ إِذْ فَكَّ *** رَ يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ قَوْلُهُ: تَذَكَّرَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَرَبُّ فَاعِلُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَشِيَّةْ تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ حَمَامَةً *** بِمَكَّةَ يُؤْوِيكَ السِّتَارُ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ إِنَّ لِمُؤَلِّفِي الْكُتُبِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ فِي ذِكْرِهِ طُرُقًا؛ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا فَعَلَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ، وَابْنُ مُجَاهِدٍ فِي سَبْعَتِهِ، وَمَكِّيٌّ فِي تَبْصِرَتِهِ وَالطَّلَمَنْكِيُّ فِي رَوْضَتِهِ، وَابْنُ سُفْيَانَ فِي هَادِيهِ، وَابْنُ شُرَيْحٍ فِي كَافِيهِ، وَالْمَهْدَوِيُّ فِي هِدَايَتِهِ، وَأَبُو الطَّاهِرِ فِي عُنْوَانِهِ، وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ غَلْبُونَ وَأَبُو الْعِزِّ الْقَلَانِسِيُّ فِي إِرْشَادَيْهِمَا، وَسِبْطُ الْخَيَّاطِ فِي مُوجَزِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ كَابْنِ الْكِنْدِيِّ، وَابْنِ زُرَيْقٍ، وَالْكَمَالِ، وَالدِّيوَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِكَمَالِهِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ عَنِ الدُّورِيِّ وَالسُّوسِيِّ مَعًا كَأَبِي مَعْشَرٍ الطَّبَرِيِّ فِي تَلْخِيصِهِ، وَالصَّفْرَاوِيِّ فِي إِعْلَانِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ بِهِ السُّوسِيَّ وَحْدَهُ كَصَاحِبِ التَّيْسِيرِ، وَشَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ طَاهِرِ بْنِ غَلْبُونَ، وَالشَّاطِبِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَنِ السُّوسِيِّ، وَلَا الدُّورِيِّ، بَلْ ذَكَرَهُ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَزِيدِيِّ وَشُجَاعٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو كَصَاحِبِ التَّجْرِيدِ وَالْمَالِكِيِّ صَاحِبِ الرَّوْضَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مَرْوِيًّا، وَصَحَّ لَدَيْهِمْ مُسْنَدًا، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ الْإِدْغَامَ وَرَوَاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهُ إِبْدَالَ الْهَمْزِ السَّاكِنِ كَمَا ذَكَرَ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ الْإِدْغَامَ إِبْدَالَهُ مَعَ الْإِظْهَارِ، فَثَبَتَ حِينَئِذٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَعَ الْإِدْغَامِ وَعَدَمِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: الْأُولَى الْإِظْهَارُ مَعَ الْإِبْدَالِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِكَمَالِهِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عَنِ السُّوسِيِّ فِي التَّجْرِيدِ وَالتَّذْكَارِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي التَّيْسِيرِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي أَسَانِيدِهِ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى فَارِسِ بْنِ أَحْمَدَ وَفِي جَامِعِ الْبَيَانِ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَصَاحِبُ الْعُنْوَانِ وَالْكَافِي، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَذْكُرِ الْإِدْغَامَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو سِوَاهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَبُو الْعِزِّ فِي إِرْشَادِهِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّ ذَلِكَ بِالسُّوسِيِّ كَصَاحِبِ الْعُنْوَانِ وَالْكَافِي وَبَعْضَهُمْ عَمَّ أَبَا عَمْرٍو كَمَكِّيٍّ وَأَبِي الْعِزِّ فِي إِرْشَادِهِ. الثَّانِيَةُ الْإِدْغَامُ مَعَ الْإِبْدَالِ، وَهُوَ الَّذِي فِي جَمِيعِ كُتُبِ أَصْحَابِ الْإِدْغَامِ مِنْ رِوَايَتَيِ الدُّورِيِّ، وَالسُّوسِيِّ جَمِيعًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا الدَّانِيُّ فِي جَامِعِهِ تِلَاوَةً، وَهُوَ الَّذِي عَنِ السُّوسِيِّ فِي التَّذْكِرَةِ لِابْنِ غَلْبُونَ وَالشَّاطِبِيَّةِ وَمُفْرَدَاتِ الدَّانِيِّ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عَنْهُ فِي التَّيْسِيرِ وَالتَّذْكَارُ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ مِنْ طَرِيقِ الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَإِنَّمَا تَبِعُوا فِي ذَلِكَ الشَّاطِبِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْإِدْغَامِ مَنْ شَرْحِهِ: وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ- يَعْنِي الشَّاطِبِيَّ- يُقْرِئُ بِالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ السُّوسِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ قَرَأَ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ فَارِسُ بْنُ أَحْمَدَ: وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يُقْرِئُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَاهِرَ النِّحْرِيرَ الَّذِي عَرَفَ وُجُوهَ الْقِرَاءَاتِ وَلُغَاتِ الْعَرَبِ. الثَّالِثَةُ الْإِظْهَارُ مَعَ الْهَمْزِ، وَهُوَ الْأَصْلُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالثَّابِتُ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عَنِ السُّوسِيِّ فِي التَّجْرِيدِ وَلِلدُّورِيِّ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ الْإِدْغَامَ كَالْمَهْدَوِيِّ، وَمَكِّيٍّ، وَابْنِ شُرَيْحٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي فِي التَّيْسِيرِ عَنِ الدُّورِيِّ مِنْ قِرَاءَةِ الدَّانِيِّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ وَبَقِيَتْ طَرِيقٌ رَابِعَةٌ، وَهِيَ الْإِدْغَامُ مَعَ الْهَمْزِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ، لَمْ يُجِزْهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِذِكْرِهَا الْهُذَلِيُّ فِي كَامِلِهِ، فَقَالَ: وَرُبَّمَا هُمِزَ وَأُدْغِمَ الْمُتَحَرِّكُ، هَكَذَا قَرَأْنَا عَلَى ابْنِ هَاشِمٍ، عَلَى الْأَنْطَاكِيِّ، عَلَى ابْنِ بُدْهُنٍ، عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ عَلَى أَبِي الزَّعْرَاءِ عَلَى الدُّورِيِّ. قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ الْهُذَلِيُّ، وَهُوَ وَهْمٌ عَنْهُ عَنِ ابْنِ هَاشِمٍ الْمَذْكُورِ، عَنْ هَذَا الْأَنْطَاكِيِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ هَاشِمٍ الْمَذْكُورَ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ الْمِصْرِيُّ يُعْرَفُ بِتَاجِ الْأَئِمَّةِ، أُسْتَاذٌ مَشْهُورٌ ضَابِطٌ، قَرَأَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَالْأُسْتَاذِ أَبِي عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُرَيْحٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْفَحَّامِ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ مَا حَكَاهُ الْهُذَلِيُّ، وَلَا ذَكَرَهُ أَلْبَتَّةَ. وَشَيْخُهُ الْأَنْطَاكِيُّ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ سُلَيْمَانَ أُسْتَاذٌ مَاهِرٌ حَافِظٌ، أَخَذَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: كَأَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ وَمُوسَى بْنِ الْحُسَيْنِ الْمُعَدَّلِ الشَّرِيفِ صَاحِبِ الرَّوْضَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْقَزْوِينِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَشَيْخُهُ ابْنُ بُدْهُنٍ هُوَ أَبُو الْفَتْحِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغْدَادِيُّ إِمَامٌ مُتْقِنٌ مَشْهُورٌ، أَحْذَقُ أَصْحَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ، أَخَذَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي الطَّيِّبِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ غَلْبُونَ، وَابْنِهِ أَبِي الْحَسَنِ طَاهِرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَيْسِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَشَيْخُهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الصَّنْعَةِ وَإِمَامُ السَّبْعَةِ، نَقَلَ عَنْهُ خَلْقٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ أَغْرَبَ الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ الْوَاسِطِيُّ حَيْثُ قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْيَسْعَ الْأَنْطَاكِيُّ، عَنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَجْرَمٍ الْأَنْطَاكِيِّ، عَنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ الْيَزِيدِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ مَعَ الْهَمْزِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ يُقْرِئْنَا أَحَدٌ مِنْ شُيُوخِنَا بِالْإِدْغَامِ مَعَ الْهَمْزِ إِلَّا هَذَا الشَّيْخُ. قُلْتُ: وَلَا يُتَابَعُ أَيْضًا هَذَا الشَّيْخُ وَلَا الرَّاوِي عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِهِ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ: وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَأْخُذُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالْهَمْزِ وَبِإِدْغَامِ الْمُتَحَرِّكَاتِ، وَلَا أَعْرِفُ لِذَلِكَ رَاوِيًا عَنْهُ. انْتَهَى. نَاهِيكَ بِهَذَا مِنَ الْأَهْوَازِيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ مِثْلَمَا قَرَأَ، وَقَدْ حَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَاذِشِ، عَنْ شَيْخِهِ شُرَيْحِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ الْهَمْزَ مَعَ الْإِدْغَامِ، فَقَالَ فِي بَابِ الْإِدْغَامِ مِنْ إِقْنَاعِهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ كَلَامَ الْأَهْوَازِيِّ الْمَذْكُورَ: وَالنَّاسُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْأَهْوَازِيُّ، إِلَّا أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَجَازَ لِيَ الْإِدْغَامَ مَعَ الْهَمْزِ، قَالَ: وَمَا سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ قَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّغْرِيبَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْهُذَلِيُّ، فَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يُقْرِئُنَا عَنْهُ بِذَلِكَ، وَأَخَذَ عَلَيَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَنَدِيِّ بِذَلِكَ عِنْدَمَا قَرَأْتُ عَلَيْهِ بِالْمُبْهِجِ مُتَمَسِّكًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَارَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الْإِدْغَامِ: إِنَّهُ قَرَأَ مِنْ رِوَايَةِ السُّوسِيِّ بِالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَبِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَنُصُوصُ أَصْحَابِهِ هُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو كَانَ إِذَا أَدْرَجَ الْقِرَاءَةَ، أَوْ أَدْغَمَ لَمْ يَهْمِزْ كُلَّ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ؛ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ لَهُ الْقَصْرُ أَيْضًا حَالَةَ الْإِدْغَامِ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
|