الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ أَعِنْ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ألم}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "ألم "وَاخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ، أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "ألم "، قَالَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْآمِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "ألم"، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُريجٍ، قَالَ: "ألم "، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "ألم "، فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "ألم "، فَوَاتِحُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "ألم "، وَ"حم "، وَ"ألمص "، وَ"ص "، فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَ حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ إِدْرِيسَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهَبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: "ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ " وَ"ألم تَنـْزِيلُ "، و "ألمر تِلْكَ "، فَقَالَ: قَالَ أَبِي: إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ "حم "و "طسم" و "ألم "، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَذِكْرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَّيةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: "ألم"، قَسَمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنْ أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنَى غَيْرِ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ- وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شُرَيْكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "ألم " قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ. حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَقْظَانِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَوْلُهُ: "ألم"، قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ: "ألم "قَالَ: أَمَّا "ألم" فَهُوَ حَرْفٌ اشْتُقَّ مِنْ حُرُوفِ هِجَاءِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "ألم "وَ"حم" وَ"ن "، قَالَ: اسْمٌ مُقَطَّعٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مَوْضُوعٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي نُوَيْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا "ق "وَ"ص" وَ"حم "وَ"طسم" وَ"ألر " وَغَيْرُ ذَلِكَ، هِجَاءٌ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ حُرُوفٌ يَشْتَمِلُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ شَتَّى مُخْتَلِفَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "ألم "، قَالَ: هَذِهِ الْأَحْرُفُ، مِنَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا، دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُنُ كُلُّهَا. لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي آلَائِهِ وَبَلَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمِ وَآجَالِهِمْ. وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: "وَعَجِيبٌ يَنْطِقُونَ فِي أَسْمَائِهِ، وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقِهِ، فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ؟ ". قَالَ: الْأَلْفُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ: "اللَّهُ "، وَاللَّامُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ: "لَطِيفٌ "، وَالْمِيمُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ: "مَجِيدٌ ". وَالْأَلْفُ آلَاءُ اللَّهِ، وَاللَّامُ لُطْفُهُ، وَالْمِيمُ: مَجَّدُهُ. الْأَلْفُ سَنَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ- كَرِهْنَا ذِكْرَ الَّذِي حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ، إِذْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَنَقْلِهِ. وَقَدْ مَضَتِ الرِّوَايَةُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِكُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ، وَسِرُ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُهُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، اُسْتُغْنِيَ بِذِكْرٍ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِيهَا، الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا، كَمَا اسْتَغْنَى الْمُخْبَرُ- عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا- بِذِكْرِ "أ ب ت ث "، عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِي حُرُوفِهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ: قَالَ. وَلِذَلِكَ رُفِعَ (ذَلِكَ الْكِتَابُ)، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ مِنْالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّورِ ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْـزَلْتُهُ إِلَيْكَ مَجْمُوعًا لَا رَيْبَ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ "أ ب ت ث "، قَدْ صَارَتْ كَالِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ، كَمَا كَانَ "الْحَمْدُ " اسْمًا لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: لِمَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: ابْنِي فِي "ط ظ "، وَكَانَ مَعْلُومًا بِقِيلِهِ ذَلِكَ لَوْ قَالَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَبَرَ عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ- عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ "أ ب ت ث "لَيْسَ لَهَا بِاسْمٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ آثَرَ فِي الذَّكَرِ مِنْ سَائِرِهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ ذِكْرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَذُكِرَتْ فِي أَوَائِلِهَا مُخْتَلِفَةً، وَذِكْرِهَا إِذَا ذُكِّرَتْ بِأَوَائِلِهَا الَّتِي هِيَ "أ ب ت ث "، مُؤْتَلِفَةً، لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا إِذَا أُرِيدَ- بِذِكْرٍ مَا ذَكَرَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا- الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ، وَإِذَا أُرِيدَ- بِذِكْرٍ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُؤْتَلِفًا- الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بِأَعْيَانِهَا. وَاسْتَشْهَدُوا- لِإِجَازَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: ابْنِي فِي "ط ظ" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ فِي الْبَيَانِ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: ابْنِي فِي "أ ب ت ث " – بِرَجَزِ بَعْضِ الرُّجَّازِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: لَمَّـا رَأَيْـتُ أَمْرَهَـا فِـي حُـطِّي *** وفَنَكَـتْ فِـي كَـذِبٍ ولَـطِّ أَخـذْتُ مِنْهَـا بِقُـرُونٍ شُـمْطٍ *** فَلَـمْ يَـزَلْ صَـوْبِي بِهَـا ومَعْطِـي حَتَّى عَلَا الرَّأْسَ دَمٌ يُغَطِّي فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ عَنِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ "، فَأَقَامَ قَوْلَهُ: "لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي " مَقَامَ خَبَرِهِ عَنْهَا أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ "، إِذْ كَانَ ذَاكَ مِنْ قَوْلِهِ، يَدُلُّ سَامِعَهُ عَلَى مَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي "أَبِي جَادٍ ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اُبْتُدِئَتْ بِذَلِكَ أَوَائِلُ السُّورِ لِيَفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهِ أَسْمَاعَ الْمُشْرِكِينَ- إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ- حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ، تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْمُؤَلَّفُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ حُرُوفٌ يَسْتَفْتِحُ اللَّهُ بِهَا كَلَامَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنَى؟ قِيلَ: مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي قَبِلَهَا قَدِ انْقَضَتْ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي أُخْرَى، فَجَعَلَ هَذَا عَلَّامَةَ انْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُنْشِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الشِّعْرَ فَيَقُولُ: بَلْ وَبَلْدَةٍ مَا *** الْإِنْسُ مِنْ آهَالِهَا وَيَقُولُ: لَا بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا *** وَشَجْوًا قَدْ شَجَا و "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا تُعَدُّ فِي وَزْنِهِ، وَلَكِنْ يَقْطَعُ بِهَا كَلَامًا وَيَسْتَأْنِفُ الْآخَرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَجْهٌ مَعْرُوفٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: "ألم "، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، فَلِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنْ "ألم " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ، كَمَا الْفُرْقَانُ اسْمٌ لَهُ. وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَائِلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ}، عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنِ، هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ السُّورَةِ الَّتِي تُعَرَفُ بِهِ، كَمَا تُعْرَفُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَائِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا أَمَارَاتٌ تُعَرَفُ بِهَا، فَيَفْهَمُ السَّامِعُ مِنَ الْقَائِلِ يَقُولُ:- قَرَأْتُ الْيَوْمَ "ألمص " و "ن "- ، أَيِ السُّوَرِ الَّتِي قَرَأَهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، كَمَا يَفْهَمُ عَنْهُ- إِذَا قَالَ: لَقِيتُ الْيَوْمَ عَمْرًا وَزَيْدًا، وَهَمَّا بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو عَارِفَانِ- مَنِ الَّذِي لَقِيَ مِنَ النَّاسِ. وَإِنْ أَشْكَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى امْرِئٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَنَظَائِرُ "ألم ""ألر" فِي الْقُرْآنِ جَمَاعَةٌ مِنَ السُّورِ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْأَسْمَاءُ أَمَارَاتٍ إِذَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً بَيْنَ الْأَشْخَاصِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ فَلَيْسَتْ أَمَارَاتٍ. قِيلَ: إِنَّ الْأَسْمَاءَ- وَإِنْ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ، لِاشْتِرَاكِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا، غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ إِلَّا بِمَعَانَ أُخَرَ مَعَهَا مِنْ ضَمِّ نِسْبَةِ الْمُسَمَّى بِهَا إِلَيْهَا أَوْ نَعْتِهِ أَوْ صِفَتِهِ، بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَشْكَالِهَا- فَإِنَّهَا وُضِعَتِ ابْتِدَاءً لِلتَّمْيِيزِ لَا شَكَ. ثُمَّ اُحْتِيجَ، عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ، إِلَى الْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ بِهَا. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ. جُعِلَ كُلُّ اسْمٍ- فِي قَوْلٍ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ- أَمَارَةً لِلْمُسَمَّى بِهِ مِنَ السُّورِ. فَلَمَّا شَارَكَ الْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ غَيْرَهُ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، احْتَاجَ الْمُخْبِرُ عَنْ سُورَةٍ مِنْهَا أَنْ يَضُمَّ إِلَى اسْمِهَا الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، مَا يُفَرِّقُ بِهِ السَّامِعُ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا، مِنْ نَعْتٍ وَصِفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَيَقُولُ الْمُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ تَلَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، إِذَا سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الَّذِي هُوَ "ألم ": قَرَأْتُ "ألم الْبَقَرَةَ "، وَفِي آلِ عِمْرَانَ: قَرَأَتْ "ألم آلِ عِمْرَانَ "، وَ"ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ "، وَ"ألم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ". كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ رَجُلَيْنِ، اسْمُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا "عَمْرٌو "، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَمِيمِيٌّ وَالْآخِرَ أَزْدِيٌّ، لَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَرَادَ إِخْبَارَهُ عَنْهُمَا: لَقِيتُ عَمْرًا التَّمِيمِيَّ وَعَمْرًا الْأَزْدِيَّ، إِذْ كَانَ لَا يَفْرُقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُشَارِكُهُمَا فِي أَسْمَائِهِمَا، إِلَّا بِنِسْبَتِهِمَا كَذَلِكَ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّورِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: ذَلِكَ فَوَاتِحُ يَفْتَتِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كَلَامَهُ، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى نَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ أَدِلَّةٌ عَلَى انْقِضَاءٍ سُورَةٍ وَابْتِدَاءٍ فِي أُخْرَى، وَعَلَامَةٌ لِانْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا، كَمَا جُعِلَتْ "بَلْ " فِي ابْتِدَاءِ قَصِيدَةٍ دَلَالَةً عَلَى ابْتِدَاءٍ فِيهَا، وَانْقِضَاءِ أُخْرَى قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادُوا الِابْتِدَاءَ فِي إِنْشَادِ قَصِيدَةٍ، قَالُوا: بَلْ *** مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا وَ"بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا دَاخِلَةً فِي وَزْنِهِ، وَلَكِنْ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى قَطْعِ كَلَامٍ وَابْتِدَاءِ آخَرَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: ذَلِكَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ بَعْضُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَعْضُهَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُمْ نَحَوْا بِتَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: قُلْنَـا لَهَـا: قِفِـي لَنَـا، قـَالَتْ: قَافْ *** لَا تَحْسَـبِي أنَّـا نَسِـينَا الْإِيجَـافْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "قَالَتْ قَافٌ "، قَالَتْ: قَدْ وَقَفْتُ. فَدَلَّتْ بِإِظْهَارِ الْقَافِ مَنْ "وَقَفَتْ "، عَلَى مُرَادِهَا مِنْ تَمَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ "وَقَفْتُ". فَصَرَفُوا قَوْلَهُ: "ألم "وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَلِفُ أَلِفُ "أَنَا "، وَاللَّامُ لَامُ "اللَّهُ "، وَالْمِيمُ مِيمُ "أَعْلَمُ "، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى كَلِمَةٍ تَامَّةٍ. قَالُوا: فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ إِذَا ظَهَرَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُنَّ تَمَامُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ، "أَنَا" اللَّهُ أَعْلَمُ ". قَالُوا: وَكَذَلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ مَا فِي أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ. قَالُوا: وَمُسْتَفِيضٌ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُنْقِصَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ مَنَ الْكَلِمَةِ الْأَحْرُفَ، إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْهَا- وَيَزِيدَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، إِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُلَبِّسَةً مَعْنَاهَا عَلَى سَامِعِهَا- كَحَذْفِهِمْ فِي النَّقْصِ فِي التَّرْخِيمِ مِنْ "حَارِثٍ "الثَّاءَ، فَيَقُولُونَ: يَا حَارِ، وَمِنْ "مَالِك" الْكَافَ، فَيَقُولُونَ: يَا مَالِ، وَأَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ، وَكَقَوْلِ رَاجِزِهِمْ: مَـا لِلظَلِيـمِ عَـالَ؟ كَـيْفَ لَا يَـا *** يَنْقَـدُّ عَنْـهُ جِـلْدُهُ إِذَا يَـا كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مَنْ "يَفْعَلُ "، وَكَمَا قَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ *** وَإِنْ شَرًّا فَا يُرِيدُ: فَشَرًّا. وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ *** إِلَّا أَنْ تَا. يُرِيدُ: إِلَّا أَنْ تَشَاءَ، فَاكْتَفَى بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعًا، مِنْ سَائِرِ حُرُوفِهِمَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ الَّتِي يَطُولُ الْكِتَابُ بِاسْتِيعَابِهِ. وَكَمَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِي عَبْدَةُ: إِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا كَائِنَةً فِتْنَةً، فَافْزَعْ مِنْ ضَيْعَتِكَ وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ لَكَ أَنْ تا- قَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ بَيْدِهِ تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، يَصِفُ الِاضْطِجَاعَ- حَتَّى تَرَى أَمْرًا تَعْرِفُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِـ "تَا " تَضْطَجِعُ، فَاجْتَزَأَ بِالتَّاءِ مَنْ تَضْطَجِعُ. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْتُ: أَقُـولُ إِذْ خَـرَّتْ عَـلَى الْكَلْكَـالِ *** يَـا نَـاقَتِي مَـا جُـلْتِ مِـنْ مَجَـالِ يُرِيدُ: الْكَلْكَلُ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: إِنَّ شَـكْلِي وَإِنَّ شَـكْلَكَ شَـتَّى *** فَـالْزَمِي الْخُـصَّ وَاخْفِضِي تَبْيَضِّضِي. فَزَادَ ضَادًا، وَلَيْسَتْ فِي الْكَلِمَةِ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ مَا نَقَصَ مِنْ تَمَامِ حُرُوفِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتِمَّةُ حُرُوفِ "ألم " وَنَظَائِرهَا- نَظِيرُ مَا نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَكَلَامِهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: كُلُّ حَرْفٍ مِنْ "ألم "وَنَظَائِرهَا، دَالٌ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى- نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ- فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ: هُوَ بِتَأْوِيلِ "أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ "، فِي أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ بَعْضُ حُرُوفِ كَلِمَةٍ تَامَّةٍ، اُسْتُغْنِيَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَامِهِ عَنْ ذِكْرِ تَمَامِهِ- وَإِنْ كَانُوا لَهُ مُخَالِفِينَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ: أَهْوَ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهَا قَائِلُو الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَمْ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَقَالُوا: بَلِ الْأَلْفُ مِنْ "ألم" مِنْ كَلِمَاتٍ شَتَّى، هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَمَامِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا أُفْرِدُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَصَّرَ بِهِ عَنْ تَمَامِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ، أَنَّ جَمِيعَ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ لَوْ أُظْهِرَتْ، لَمْ تَدُلَّ الْكَلِمَةُ الَّتِي تُظْهِرُ- الَّتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بَعْضٌ لَهَا- إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا. قَالُوا: وَإِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ، لَوْ أَظْهَرَ جَمِيعَهَا، إِلَّا عَلَى مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَرَادَ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ- لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُفْرَدَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي، لِيَعْلَمَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْصِدْ قَصْدَ مَعْنًى وَاحِدٍ وَدَلَّالَةٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الدَّلَالَةَ بِهِ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. قَالُوا: فَالْأَلْفُ مِنْ "ألم " مُقْتَضِيَةٌ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، مِنْهَا تَمَامُ اسْمِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ "، وَتَمَامُ اسْمِ نَعْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ آلَاءُ اللَّهِ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ سَنَةٌ، إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ فِي حِسَابِ الْجُمَلِ وَاحِدًا. وَاللَّامُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ لَطِيفٌ، وَتَمَامَ اسْمَ فَضْلِهِ الَّذِي هُوَ لُطْفٌ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالْمِيمُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَجِيدٌ، وَتَمَامَ اسْمِ عَظَمَتِهِ الَّتِي هِيَ مَجْدٌ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ- فِي تَأْوِيلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ- أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِوَصْفِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ مَنْهَجًا يَسْلُكُونَهُ فِي مُفْتَتَحِ خُطَبِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَمُهِمِّ أُمُورِهِمْ، وَابْتِلَاءً مِنْهُ لَهُمْ لِيَسْتَوْجِبُوا بِهِ عَظِيمَ الثَّوَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، . كَمَا افْتَتَحَ ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ}، [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 1] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَهَا الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ، وَكَمَا جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَ نَفْسِهِ وَإِجْلَالَهَا بِالتَّسْبِيحِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 1]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَحْمِيدَ نَفْسِهِ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَمْجِيدَهَا، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَهَا وَتَنْـزِيهَهَا. فَكَذَلِكَ جَعَلَ مَفَاتِحَ السُّورِ الْأُخَرِ الَّتِي أَوَائِلُهَا بَعْضُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، مَدَائِحَ نَفْسِهِ، أَحْيَانًا بِالْعِلْمِ، وَأَحْيَانًا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَأَحْيَانًا بِالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ، بِإِيجَازٍ وَاخْتِصَارٍ، ثُمَّ اقْتِصَاصَ الْأُمُورِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ فِي أَمَاكِنِ الرَّفْعِ، مَرْفُوعًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، دُونَ قَوْلِهِ {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وَيَكُونُ "ذَلِكَ الْكِتَابُ "خَبَرًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَنْ مَعْنَى "ألم ". وَكَذَلِكَ "ذَلِك" فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي، مَرْفُوعٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: هُنَّ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَلِ دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَعْرِفُ لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مَعْنًى يُفْهَمُ سِوَى حِسَابِ الْجُمَلِ، وَسِوَى تَهَجِّي قَوْلِ الْقَائِلِ: "ألم ". وَقَالُوا: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- وَكَانَ قَوْلُهُ "ألم "لَا يُعْقَلُ لَهَا وَجْهٌ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، فَبَطَلَ أَحَدُ وَجْهَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا تَهَجِّي "ألم"- صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ حِسَابُ الْجُمَلِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "ألم "لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ مِنَ الْكَلَامِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ "، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ، إِنْ وَلِيَ "ألم" "ذَلِكَ الْكِتَابُ ". وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: (مَرَّ أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}، فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ مِنْ يَهُودٍ فَقَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ} فَقَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: نَعِمَ! قَالَ: فَمَشَى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ يَهُودَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَلُمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْـزِلَ عَلَيْكَ "ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ "؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ: بَلَى! فَقَالُوا: أَجَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعِمَ! قَالُوا: لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ، مَا مُدَّةَ مِلْكِهِ وَمَا أَكْلَ أُمَّتَهُ غَيْرَكَ! فَقَالَ: حُييُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ: الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً. أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَكْل أُمَّته إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعِمَ! قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: (ألمص). قَالَ: هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، وَالصَّادُ تِسْعُونَ، فَهَذِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً. هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعِمَ! قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: (ألر). قَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ. الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ، فَقَالَ: هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: نَعِمَ، (ألِمر)، قَالَ: فَهَذِهِ وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ. ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ، حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلَا أَعْطَيْتَ أَمْ كَثِيرًا؟ ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ. فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيِّيَ بُنِ أَخْطَبَ، وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ: مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ، إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ، فَذَلِكَ سَبْعمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ! فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ! وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَـزَلَتْ فِيهِمْ: {هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. قَالُوا: فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَرُ بِصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَفَسَادِ مَا قَالَهُ مُخَالِفُونَا فِيهِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ مَفَاتِحِ السُّورِ، الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً وَلَمْ يَصِلْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ- فَيَجْعَلُهَا كَسَائِرِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ الْحُرُوفُ- لِأَنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، لَا عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَ الرَّبِيعُ قَدِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ، دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا. وَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ يَحْوِي مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ، وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُهُ فِيهِ- سِوَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْقَوْلِ عَمَّنْ ذَكَرَتْ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ حُرُوفُ هِجَاءٍ، اُسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَفَاتِيحِ السُّورِ، عَنْ ذِكْرِ تَتِمَّةِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، بِتَأْوِيلِ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ، ذَلِكَ الْكِتَابُ، مَجْمُوعَةٌ، لَا رَيْبَ فِيهِ- فَإِنَّهُ قَوْلٌ خَطَّأٌ فَاسِدٌ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ. فَكَفَى دَلَالَةً عَلَى خَطَئِهِ، شَهَادَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالْخَطَأ، مَعَ إِبْطَالِ قَائِلِ ذَلِكَ قَوْلَهُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ- إِذْ صَارَ إِلَى الْبَيَانِ عَنْ رَفْعِ {ذَلِكَ الْكِتَابُ}- بِقَوْلِهِ مَرَّةً إِنَّهُ مَرْفُوعٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَمَرَّةً أُخْرَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالرَّاجِعِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ {لَا رَيْبَ فِيهِ} وَمَرَّةً بِقَوْلِِِهِ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. وَذَلِكَ تَرْكٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ: إِنَّ "ألم " رَافِعَةٌ {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وَخُرُوجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي تَأْوِيلِ {أَلَم ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وَأَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ ذَلِكَ الْكِتَابُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفٌ وَاحِدٌ شَامِلًا الدَّلَالَةَ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ؟ قِيلَ: كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَقَوْلِهِمْ لِلْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ: أُمَّة، وَلِلْحِينِ مِنَ الزَّمَانِ: أُمَّة، وَلِلرَّجُلِ الْمُتَعَبِّدِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ: أُمَّة، وَلِلدِّينِ وَالْمِلَّةِ: أُمَّة. وَكَقَوْلِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَالْقِصَاصِ: دِين، وَلِلسُّلْطَانِ وَالطَّاعَة: دِين، وَلِلتَّذَلُّلِ: دِين، وَلِلْحِسَابِ: دِين، فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ الْكِتَاب بِإِحْصَائِهَا- مِمَّا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "ألم "و "ألر"، و "ألمص" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ أَوَائِلِ السُّوَرِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى، شَامِلٌ جَمِيعُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ. وَهُنَّ، مَعَ ذَلِكَ، فَوَاتِحُ السُّوَرِ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَوْنٌ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصِفَاتِهِ، بِمَانِعِهَا أَنْ تَكُونَ لِلسُّورِ فَوَاتِحَ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدِ افْتَتَحَ كَثِيرًا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا، وَكَثِيرًا مِنْهَا بِتَمْجِيدِهَا وَتَعْظِيمِهَا، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِهَا. فَالَّتِي اُبْتُدِئَ أَوَائِلُهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ، أَحَدُ مَعَانِي أَوَائِلِهَا: أَنَّهُنَّ فَوَاتِحُ مَا افْتَتَحَ بِهِنَّ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهُنَّ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِنَّ، لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيهِنَّ أَنَّهُنَّ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصِفَاتِهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهَا، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى الْقَسَمِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَهُنَّ مَنَّ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَّلِ. وَهُنَّ لِلسُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهِنَّ شِعَارٌ وَأَسْمَاءٌ. فَذَلِكَ يُحْوَى مَعَانِيَ جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، مِمَّا بَيَّنَا، مِنْ وُجُوهِهِ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ ذَلِكَ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرِهِ، لَأَبَانَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِبَانَةً غَيْرَ مُشْكِلَةٍ. إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَنْـزَلَ كِتَابَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِيُبَيِّن لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِبَانَةَ ذَلِكَ- أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ مِنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ- أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ وُجُوهِهِ الَّتِي هُوَ لَهَا مُحْتَمَلٌ. إِذْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَقْلِ وَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ اجْتِمَاعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ، فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ. وَمِنْ أَبَى مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ، سُئِلَ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَأْتِي بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَالْأُمَّةِ وَالدِّينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ. فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ. وَكَذَلِكَ يُسْأَلُ كُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ- عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ الَّتِي وَصَفْنَا- عَنِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. ثُمَّ يُعَارَضُ بِقَوْلِ مُخَالِفِهِ فِي ذَلِكَ، وَيُسْأَلُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: مِنْ أَصْلٍ، أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلٌ. فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ. وَأَمَّا الَّذِي زَعَمَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ "بَلْ " فِي قَوْلِ الْمُنْشِدِ شِعْرًا: بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا *** وَشَجْوًا قَدْ شَجَا وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْكَلَامِ مَعْنَاهُ الطَّرْحُ- فَإِنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مِنْ لُغَتِهَا، وَغَيْرِ مَا هُوَ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ. إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ- وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كَانَتْ تَفْتَتِحُ أَوَائِلَ إِنْشَادِهَا مَا أَنْشَدَتْ مِنَ الشِّعْرِ بـ "بَلْ "- فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَبْتَدِئُ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ بِـ "ألم" و "ألر " و "ألمص "، بِمَعْنَى ابْتِدَائِهَا ذَلِكَ بِـ "بَلْ ". وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنِ ابْتِدَائِهَا- وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَاتِهِمْ، وَيَسْتَعْمِلُونَ بَيْنَهُمْ مِنْ مَنْطِقِهِمْ، فِي جَمِيعِ آيِهِ- فَلَا شَكَّ أَنَّ سَبِيلَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِهَا أَوَائِلُ السُّوَرِ، الَّتِي هُنَّ لَهَا فَوَاتِحُ، سَبِيلُ سَائِرِ الْقُرْآنِ، فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ لُغَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا عَارِفِينَ، وَلَهَا بَيْنُهُمْ فِي مَنْطِقِهِمْ مُسْتَعْمِلِينِ. لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَبِيلِ لُغَاتِهِمْ وَمَنْطِقِهِمْ، كَانَ خَارِجًا عَنْ مَعْنَى الْإِبَانَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْقُرْآنَ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. وَأَنَّى يَكُونُ مُبِينًا مَا لَا يَعْقِلُهُ وَلَا يَفْقَهُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، فِي قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي مَنْطِقِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فِي قَوْلِهِ؟ وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، مَا يُكَذِّبُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَيُنْبِئُ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا بِهِ عَالِمِينَ، وَهُوَ لَهَا مُسْتَبِينٌ. فَذَلِكَ أَحَدُ أَوْجُهِ خَطَئِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ: إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ، مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سَوَاءٌ الْخِطَابُ فِيهِ بِهِ وَتَرْكُ الْخَطَّابِ بِهِ. وَذَلِكَ إِضَافَةُ الْعَبَثِ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ عَنِ اللَّهِ- إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ خَطَئِهِ: أَنْ "بَلْ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ تَأْوِيلِهَا وَمَعْنَاهَا، وَأَنَّهَا تُدْخِلُهَا فِي كَلَامِهَا رُجُوعًا عَنْ كَلَامٍ لَهَا قَدْ تَقَضَّى كَقَوْلِهِمْ: مَا جَاءَنِي أَخُوكَ بَلْ أَبُوكَ، وَمَا رَأَيْتُ عَمْرًا بَلْ عَبْدَ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ: وَلأشْـرَبَنَّ ثَمَانِيًـا وثَمَانِيًـا *** وثَـلاثَ عَشْـرَةَ واثْنَتَيـنِ وأَرْبَعَـا وَمَضَى فِي كَلِمَتِهِ حَتَّى بَلَّغَ قَوْلَهُ: بالجُلَّسَـانِ، وطَيِّـبٌ أرْدَانُـهُ *** بِـالوَنِّ يَضْـرِبُ لِـي يَكُـرُّ الْإِصْبَعَا ثُمَّ قَالَ: بَـلْ عَـدِّ هـذا، فِـي قَـريضٍ غَيْرِهِ *** وَاذكُـرْ فَتًـى سَـمْحَ الخَلِيقـةِ أَرْوَعَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَعْ هَذَا وَخُذْ فِي قَرِيضِ غَيْرِهِ. فَـ "بَلْ " إِنَّمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْكَلَامِ، فَأَمَّا افْتِتَاحًا لِكَلَامِهَا مُبْتَدَأً بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَالْحَذْفِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى، فَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَنْطِقِهَا، سِوَى الَّذِي ذَكَرْتُ قَوْلَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا يُشَبَّهُ بِهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا- لَوْ كَانَتْ لَهُ مُشْبِهَةً- فَكَيْفَ وَهِيَ مِنَ الشَّبَهِ بِهِ بَعِيدَةٌ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ذَلِكَ الْكِتَابُ}: هَذَا الْكِتَابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "ذَلِكَ الْكِتَابُ " قَالَ: هُوَ هَذَا الْكِتَابُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: "ذَلِكَ الْكِتَابُ ": هَذَا الْكِتَابُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " قَالَ: هَذَا الْكِتَابُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ. قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: "ذَلِكَ الْكِتَابُ": هَذَا الْكِتَابُ. قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "ذَلِكَ الْكِتَابُ ": هَذَا الْكِتَابُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ "ذَلِكَ "بِمَعْنَى "هَذَا "؟ و "هَذَا" لَا شَكَّ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مُعَايَنٍ، و "ذَلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ حَاضِرٍ وَلَا مُعَايَنٍ؟ قِيلَ: جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا تَقَضَّى، بِقُرْبِ تَقَضِّيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ، فَهُوَ- وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَاضِرِ- فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ يُحَدِّثُ الرَّجُلَ الْحَدِيثَ فَيَقُولُ السَّامِعُ: "إِنَّ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَكُمَا قُلْتَ"، و "هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قُلْتَ"، و "هُوَ وَاللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ"، فَيُخْبِرُ عَنْهُ مَرَّةً بِمَعْنَى الْغَائِبَ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى، وَمَرَّةً بِمَعْنَى الْحَاضِرِ، لِقُرْبِ جَوَابِهِ مِنْ كَلَامِ مُخْبِرِهِ، كَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَضٍ. فَكَذَلِكَ "ذَلِكَ "فِي قَوْلِهِ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا قَدَّمَ قَبْلَ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} "ألم"، الَّتِي ذَكَرْنَا تَصَرُّفَهَا فِي وُجُوهِهَا مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا وَصَفْنَا، قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَبَيَّنْتُهُ لَكَ، الْكِتَابُ. وَلِذَلِكَ حَسُنَ وَضْعُ "ذَلِكَ "فِي مَكَانِ "هَذَا "، لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْخَبَرِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ "أَلَم" مِنَ الْمَعَانِي، بَعْد تَقَضِّي الْخَبَرِ عَنْهُ بـ "أَلَم "، فَصَارَ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مَنْ تَقَضِّيهِ، كَالْحَاضِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَ بِهِ بِـ "ذَلِكَ" لِانْقِضَائِهِ، وَمَصِيرُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَتَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهُ بِمَعْنَى "هَذَا"، لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مِنِ انْقِضَائِهِ، فَكَانَ كَالْمُشَاهَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِـ "هَذَا"، نَحْوَ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ} [سُورَةُ ص: 48] فَهَذَا مَا فِي "ذَلِك" إِذَا عَنَى بِهَا "هَذَا". وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ السُّوَرُ الَّتِي نَـزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْلَمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُوَرُ الْكِتَابِ الَّتِي قَدْ أَنْـزَلْتُهَا إِلَيْكَ، هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ. ثُمَّ تَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ مَعْنَى "ذَلِكَ " "هَذَا الْكِتَابُ "، إِذْ كَانَتْ تِلْكَ السُّوَرُ الَّتِي نَـزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مِنْ جُمْلَةِ جَمِيعِ كِتَابِنَا هَذَا، الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وَكَانَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِي قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوهُ فِي "ذَلِكَ". وَقَدْ وَجَّهَ مَعْنَى "ذَلِكَ " بَعْضُهُمْ، إِلَى نَظِيرِ مَعْنَى بَيْتِ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَّمِيِّ: فَـإِنْ تَـكُ خَـيْلِي قَـدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا *** فَعَمْـدًا عَـلَى عَيْـنٍ تَيَمَّمْـتُ مَالِكَـا أَقُـولُ لَـهُ، وَالـرُّمْحُ يَـأْطِرُ مَتْنَـهُ: *** تَـأَمَّلْ خُفَافًـا، إِنَّنِـي أَنَـا ذَلِكَـا كَأَنَّهُ أَرَادَ: تَأَمَّلْنِي أَنَا ذَلِكَ. فَزَعَمَ أَنَّ "ذَلِكَ الْكِتَابُ "بِمَعْنَى "هَذَا "، نَظِيرُهُ. أَظْهَرُ خِفَافٌ مِنِ اسْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ نَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ أَظْهَرَ "ذَلِك" بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَلِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، يَعْنِي بِهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِذَا وُجِّهَ تَأْوِيلُ "ذَلِكَ "إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَلَا مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَى مُتَأَوِّلِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ "ذَلِك" يَكُونُ حِينَئِذٍ إِخْبَارًا عَنْ غَائِبٍ عَلَى صِحَّةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}. وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} " لَا شَكَّ فِيهِ ". كَمَا:- حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنِي سَلَّامُ بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ يَاسِينَ الْكُوفِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ عَطَاءٍ، {لَا رَيْبَ فِيهِ}: قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّة الهَمْدَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، يَقُولُ: لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، يَقُولُ: لَا شَكَّ فِيهِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: قَوْلُهُ {لَا رَيْبَ فِيهِ}، يَقُولُ: لَا شَكَّ فِيهِ. وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: رَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي رَيْبًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيِّ: فَقَـالُوا: تَرَكْنَـا الحَـيَّ قَدْ حَصِرُوا بِهِ، *** فَـلَا رَيْـبَ أَنْ قَـدْ كَـانَ ثَـمَّ لَحِـيمُ وَيُرْوَى: "حَصَرُوا "و "حَصِرُوا" وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ، وَالْكَسْرُ جَائِزٌ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ "حَصَرُوا بِهِ ": أَطَافُوا بِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ " لَا رَيْبَ ". لَا شَكَّ فِيهِ. وَبِقَوْلِهِ "أَنَّ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ "، يَعْنِي قَتِيلًا يُقَالُ: قَدْ لُحِمَ، إِذَا قُتِلَ. وَالْهَاءُ الَّتِي فِي "فِيهِ " عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {هُدًى}. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، "هُدًى " قَالَ: هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الهَمْدَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، "هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ "، يَقُولُ: نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَالْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ- إِذَا أَرْشَدْتَهُ إِلَيْهِ، وَدَلَلَتْهُ عَلَيْهِ، وَبَيَّنْتَهُ لَهُ- أَهْدِيهِ هُدًى وَهِدَايَةً. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَوَ مَا كِتَابُ اللَّهِ نُورًا إِلَّا لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا رَشَادًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ. وَلَوْ كَانَ نُورًا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ، وَرَشَادًا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَخْصُصِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُ لَهُمْ هُدًى، بَلْ كَانَ يَعُمُّ بِهِ جَمِيعَ الْمُنْذَرِينَ. وَلَكِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَقْرٌ فِي آذَانِ الْمُكَذِّبِينَ، وعمىً لِأَبْصَارِ الْجَاحِدِينَ، وَحُجَّةٌ لِلَّهِ بَالِغَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ. فَالْمُؤْمِنُ بِهِ مُهْتَدٍ، وَالْكَافِرُ بِهِ مَحْجُوجٌ. وَقَوْلُهُ "هُدًى" يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا مِنَ الْمَعَانِي: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا، لِمَعْنَى الْقَطْعِ مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ نَكِرَةُ وَالْكِتَابُ مَعْرِفَةٌ. فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ حِينَئِذٍ: ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ. و "ذَلِكَ" مَرْفُوعٌ بِـ "ألم"، و"ألم" بِهِ، وَالْكِتَابُ نَعَتٌ لِـ "ذَلِكَ". وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا، عَلَى الْقَطْعِ مَنْ رَاجَعَ ذَكَرَ الْكِتَابَ الَّذِي فِي "فِيهِ "، فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ: ألم الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ هَادِيًا. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا نَصْبًا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَعْنِي عَلَى وَجْهَ الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي "فِيهِ "، وَمِنْ "الْكِتَابِ "، عَلَى أَنْ "ألم "كَلَامٌ تَامٌّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ يَكُونُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} خَبَرًا مُسْتَأْنِفًا، فَيُرْفَعُ حِينَئِذٍ "الْكِتَابُ "بِـ "ذَلِكَ "، و "ذَلِك" بِـ "الْكِتَابُ "، وَيَكُونُ "هُدًى "قَطْعًا مِنْ "الْكِتَابِ "، وَعَلَى أَنْ يُرْفَعَ "ذَلِك" بِالْهَاءِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِ الَّتِي فِي "فِيهِ "، و "الْكِتَابُ "نَعْتٌ لَهُ، وَالْهُدَى قَطْعٌ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي" فِيهِ ". وَإِنْ جُعِلَ الْهُدَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ "ذَلِكَ الْكِتَابُ "إِلَّا خَبَرًا مُسْتَأْنِفًا، و "ألم" كَلَامًا تَامًّا مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ، إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يُرْفَعَ حِينَئِذٍ "هُدًى " بِمَعْنَى الْمَدْحِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ} [سُورَةُ لُقْمَانَ: 3] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ "رَحْمَةٌ ". بِالرَّفْعِ، عَلَى الْمَدْحِ لِلْآيَاتِ. وَالرَّفْعُ فِي "هُدًى "حِينَئِذٍ يَجُوزُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَدْحٌ مُسْتَأْنِفٌ. وَالْآخَرُ: عَلَى أَنْ يُجْعَلَ مُرَافِع" ذَلِكَ "، و "الْكِتَابُ "نَعْتٌ "لِذَلِكَ ". وَالثَّالِثُ: أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِمَوْضِعِ {لَا رَيْبَ فِيهِ}، وَيَكُونُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ فِي "فِيهِ ". فَيَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 92]. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ المتقدمِّينَ فِي الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، أَنَّ "ألم "مُرَافِعُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} بِمَعْنَى: هَذِهِ الْحُرُوفُ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُوحِيهِ إِلَيْكَ. ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فَأَسْرَعَ نَقْضَهُ، وَهَدَمَ مَا بَنَى فَأَسْرَعَ هَدْمَهُ، فَزَعَمَ أَنَّ الرَّفْعَ فِي "هُدًى" مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالنَّصْبَ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَأَنَّ أَحَدَ وَجْهَيِ الرَّفْعِ: أَنْ يَكُونَ "الْكِتَاب" نَعْتًا لِـ "ذَلِكَ "و "الْهُدَى" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرٌ لِـ "ذَلِكَ". كَأَنَّكَ قُلْتَ: ذَلِكَ هُدًى لَا شَكَّ فِيهِ. قَالَ: وَإِنْ جَعَلْتَ {لَا رَيْبَ فِيهِ} خَبَّرَهُ، رَفَعْتَ أَيْضًا "هُدًى "، بِجَعْلِهِ تَابِعًا لِمَوْضِعِ {لَا رَيْبَ فِيهِ}، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا كِتَابٌ هُدًى مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ النَّصْبِ فَأَنْ تَجْعَلَ الْكِتَابَ خَبَرًا لِـ "ذَلِكَ "، وَتَنْصِبَ "هُدًى" عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ "هُدًى "نَكِرَةٌ اتَّصَلَتْ بِمَعْرِفَةٍ، وَقَدْ تَمَّ خَبَرُهَا فَنَصَبْتَهَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةٍ. وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ "هُدًى" عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي "فِيهِ " كَأَنَّكَ قُلْتَ: لَا شَكَّ فِيهِ هَادِيًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَرْكُ الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلَهُ فِي "ألم "وَأَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِـ {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. وَاللَّازِمُ كَانَ لَهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلَهُ، أَنْ لَا يُجِيزَ الرَّفْعَ فِي "هُدًى" بِحَالٍ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِنْ قِبْلِ الِاسْتِئْنَافِ، إِذْ كَانَ مَدْحًا. فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ "لِذَلِكَ "، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ "لَا رَيْبَ فِيهِ"، فَكَانَ اللَّازِمُ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ خَطَأً. وَذَلِكَ أَنْ "ألم "إِذَا رَافَعَتْ {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، فَلَا شَكَّ أَنْ "هُدًى" غَيْرُ جَائِزٍ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا "لِذَلِكَ "، بِمَعْنَى الْمُرَافِعِ لَهُ، أَوْ تَابِعًا لِمَوْضِعِ "لَا رَيْبَ فِيهِ "، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ حِينَئِذٍ نَصْبٌ، لِتَمَامِ الْخَبَرِ قَبْلَهُ، وَانْقِطَاعِهِ- بِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ- عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لِلْمُتَّقِينَ}. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ: "لِلْمُتَّقِينَ " قَالَ: اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لِلْمُتَّقِينَ "، أَيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ "، قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ "الْمُتَّقِينَ "، قَالَ: فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ لِي: سُئِلَ عَنْهَا الْكَلْبَيُّ. فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْأَعْمَشِ، فَقَالَ: نُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَلَمْ يُنْكِرْهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ أَبُو حَفْصٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ "، هُمْ مَنْ نَعَتَهُمْ وَوَصَفَهُمْ فَأَثْبَتَ صِفَتَهُمْ، فَقَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لِلْمُتَّقِينَ " قَالَ: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِي، وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، تَأْوِيلُ مَنْ وَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، فَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ، وَاتَّقَوْهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَأَطَاعُوهُ بِأَدَائِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى، فَلَمْ يَحْصُرْ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ عَلَى بَعْضِ مَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْصُرَ مَعْنَى ذَلِكَ، عَلَى وَصْفِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ شَيْءٍ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْقَوْمِ- لَوْ كَانَ مَحْصُورًا عَلَى خَاصٍّ مِنْ مَعَانِي التَّقْوَى دُونَ الْعَامِّ مِنْهَا- لَمْ يَدَعِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيَانَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ: إِمَّا فِي كِتَابِهِ، وَإِمَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وَصْفِهِمْ بِعُمُومِ التَّقْوَى. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ: الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَبَرِئُوا مِنَ النِّفَاقِ. لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهُوَ فَاسِقٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ أَنَّ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ- عِنْدِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلُ- مَعْنَى النِّفَاقِ: رُكُوبُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَضْيِيعُ فَرَائِضِهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِ. فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ كَانَتْ تُسَمِّي مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُنَافِقًا. فَيَكُونُ- وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي تَسْمِيَتِهِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِهَذَا الِاسْمِ- مُصِيبًا تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لِلْمُتَّقِينَ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ "، قَالَ: يُصَدِّقُونَ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يُؤْمِنُونَ ": يُصَدِّقُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: "يُؤْمِنُونَ ": يَخْشَوْنَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْإِيمَانُ الْعَمَلُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْد اللَّهِ، قَالَ: الْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ. وَمَعْنَى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ: التَّصْدِيقُ، فَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ، وَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، مُؤْمِنًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 17]، يَعْنِي: وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا. وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِيمَعْنَى الْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ. وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ الْإِقْرَارَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتَصْدِيقَ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَأَشْبَهُ بِصِفَةِ الْقَوْمِ: أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرْهُمْ مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلَى مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، بَلْ أَجْمَلَ وَصْفَهُمْ بِهِ، مِنْ غَيْرِ خُصُوصِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ أَخْرَجَهُ مِنْ صِفَتْهِمْ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {بِالْغَيْبِ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "بِالْغَيْبِ"، قَالَ: بِمَا جَاءَ مِنْهُ، يَعْنِي: مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "بِالْغَيْبِ ": أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النَّارِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآنِ. لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ- يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ- مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزَّبِيرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: الْغَيْبُ الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، قَالَ: آمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ هَذَا غَيْبٌ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ، وَآمَنُوا بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَهَذَا كُلُّهُ غَيْبٌ. وَأَصْلُ الْغَيْبِ: كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ شَيْءٍ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: غَابَ فُلَانٌ يَغِيبُ غَيْبًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَعْيَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِمْ، وَفِي نَعْتِهِمْ وَصِفَتِهِمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا، مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ، وَسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ خَاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَحَقِيقَةِ تَأْوِيلِهِمْ، بِالْآيَةِ الَّتِي تَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ كِتَابٌ قَبْلَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَدِينُ بِتَصْدِيقِهِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْكِتَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ غَيْرِهَا. قَالُوا: فَلَمَّا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبَّأَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِهِ- بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ نَبَّأَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ- عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الصِّنْفِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُصَدِّقِ بِالْكِتَابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مُنَـزَّلٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ. قَالُوا: وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْبَعْثِ، وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَجَمِيعِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَدِينُ بِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّيْنُونَةَ بِهِ- دُونَ غَيْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أَمَّا {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ. لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ. {و الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةًأَوَائِلُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِإِيمَانِهِمْ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ فِيهِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيُسِرُّونَهَا، فَعَلِمُوا عِنْدَ إِظْهَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي تَنْـزِيلِهِ، أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا، لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ- بِالْحُجَّةِ الَّتِي احْتَجَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، مِنَ الْإِخْبَارِ فِيهِ عَمَّا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ- أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أُنْـزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِوَصْفِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسِوَاهُمْ. وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُؤْمِنُ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَنْـزَلَ مِنْ قَبْلِهِ، هُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَبِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ، بَعْدَ تَقْضِّي وَصْفِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، لِأَنَّ وَصْفَهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْإِيمَانَ بِهَا، مِمَّا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِمَّا هُوَ آتٍ، دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَمِنَ الْكُتُبِ. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي قَوْلِهِ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}- كَانَتِ الْحَاجَةُ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِفَتِهِمْ بِذَلِكَ لِيَعْرِفُوهُمْ، نَظِيرَ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا مِنْإِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ، صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمُوا مَا يَرْضَى اللَّهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَيُحِبُّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَيَكُونُوا بِهِ- إِنْ وَفَّقَهُمْ لَهُ رَبُّهُمْ- [مُؤْمِنِينَ].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرُو بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ- يَعْنِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ- فِي الَّذِينَ آمَنُوا، وَآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، وَأَشْبَهَهُمَا بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ: أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَبِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الَأَوَّلَتَيْنِ، غَيْرُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِلَلِ قَبْلُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ جَنَّسَ- بَعْدَ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَصَفَ، وَبَعْدَ تَصْنِيفِهِ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا صَنَّفَ الْكُفَّارَ- جِنْسَيْنِ فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مَطْبُوعًا عَلَى قَلْبِهِ، مَخْتُومًا عَلَيْهِ، مَأْيُوسًا مِنْ إِيَابِهٌِ، وَالْآخَرَ مُنَافِقًا، يُرَائِي بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَيَسْتَسِرُّ النِّفَاقَ فِي الْبَاطِنِ. فَصَيَّرَ الْكُفَّارَ جِنْسَيْنِ، كَمَا صَيَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ جِنْسَيْنِ. ثُمَّ عَرَّفَ عِبَادُهُ نَعْتَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَصِفَتَهُمْ، وَمَا أَعَدَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَذَمَّ أَهَّلَ الذَّمِّ مِنْهُمْ، وَشَكَرَ سَعْيَ أَهَّلَ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَيُقِيمُونَ}. وَإِقَامَتُهَا: أَدَاؤُهَا- بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا- عَلَى مَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ. كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ الْقَوْمُ سُوقَهُمْ، إِذَا لَمْ يُعَطِّلُوهَا مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهَا، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَقَمْنَـا لِأَهْـلِ الْعِـرَاقَيْنِ سُـوقَ الـ *** ـضِّـرَابِ فَخَـامُوا وَوَلَّـوْا جَمِيعَـا وَكَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، قَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} قَالَ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالتِّلَاوَةُ وَالْخُشُوعُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهَا فِيهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {الصَّلَاةَ}. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْبَرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَأَمَّاالصَّلَاةُ تَعْرِيفُهَا فَإِنَّهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: لَهَـا حَـارِسٌ لَا يَـبْرَحُ الدَّهْـرَ بَيْتَهَا *** وَإِنْ ذُبِحَـتْ صَـلَّى عَلَيْهَـا وَزَمْزَمَـا يَعْنِي بِذَلِكَ: دَعَا لَهَا، وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى أَيْضًا. وَقَابَلَهَـا الـرِّيحَ فِـي دَنِّهَـا *** وصَـلَّى عَـلَى دَنِّهَـا وَارْتَسَـمْ وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ "صَلَاةً "، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُتَعَرِّضٌ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَتِهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ، مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ حَاجَاتِهِ، تَعَرُّضَ الدَّاعِي بِدُعَائِهِ رَبَّهُ اسْتِنْجَاحَ حَاجَاتِهِ وَسُؤْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، قَالَ: يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ احْتِسَابًا بِهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، قَالَ: زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، قَالَ: كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وَجُهْدِهِمْ، حَتَّى نَـزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ: سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، مِمَّا يَذْكُرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتِ، هُنَّ المُثْبَتِاتُ النَّاسِخَاتُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: هِيَ َنفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ. وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْـزِلَ الزَّكَاةُ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ: أَنْ يَكُونُوا كَانُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، مُؤَدِّينَ، زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ، مِنْ أَهْلٍ وَعِيَالٍ وَغَيْرُهُمْ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ وَصَفَهُمْ إِذْ وَصَفَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ، فَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ. فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِذْ لَمْ يَخْصُصْ مَدْحَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا دُونَ نَوْعٍ بِخَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ- أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِجَمِيعِ مَعَانِي النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا مَنْ طِيبِ مَا رَزَقَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، وَذَلِكَ الْحَلَالُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَشُبْهُ حَرَامٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنِ الْمَنْعُوتِينَ بِهَذَا النَّعْتِ، وَأَيُّ أَجْنَاسِ النَّاسِ هُمْ. غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلٌ: فَحَدَّثْنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}: أَيْ يُصَدِّقُونَكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا صِفَةٌ لِلدَّارِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 64]. وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِمَصِيرِهَا آخِرَةً لِأُولَى كَانَتْ قَبْلَهَا، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: "أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمْ تَشْكُرْ لِيَ الْأُولَى وَلَا الْآخِرَةَ "، وَإِنَّمَا صَارَتْ آخِرَةً لِلْأُولَى، لِتَقَدُّمِ الْأُولَى أَمَامَهَا. فَكَذَلِكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَقَدُّمِ الدَّارِ الْأُولَى أَمَامَهَا، فَصَارَتِ التَّالِيَةُ لَهَا آخِرَةً. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَلْقِ، كَمَا سُمِّيَتِ الدُّنْيَا "دُنْيَا " لِدُنُوِّهَا مِنَ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ- بِمَا أَنْـزَلَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْـزَلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ- مِنْ إِيقَانِهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ إِيقَانُهُمْ بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ جَاحِدِينَ: مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِخَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، أَيْ، لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا- وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا مِنْ نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ- تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ كَفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ- بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ- مُصَدِّقُونَ، وَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مُكَذِّبُونَ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّنْـزِيلِ جَاحِدُونَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ جُحُودِهِمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ قِيْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. وَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ: أَنَّهَذَا الْكِتَابَ هَدًى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى- خَاصَّةً، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الرُّسُلِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكُتُبِ. ثُمَّ أَكَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ- بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ هُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْخَسَارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، أَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا وَصَفَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مَرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ}، الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَبِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا أُنْـزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْآخَرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ} فِي مَحَلِّ خَفْضٍ، وَمَحَلِّ رَفْعٍ. فَأَمَّا الرَّفْعُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ قِبَلِ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} مِنْ ذِكْرِ "الَّذِينَ "، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ، أَوْ يَكُونَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، مُرَافِعُهَا. وَأَمَّا الْخَفْضُ فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى "الْمُتَّقِينَ "، وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى "الَّذِينَ "اتَّجَهَ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ هِيَ و "الَّذِين" الْأُولَى، مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ. وَذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ "ألم "، نَـزَلَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ "الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً فِي الْإِعْرَابِ عَلَى "الْمُتَّقِين" بِمَعْنَى الْخَفْضِ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى صِنْفٌ غَيْرُ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ. وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى أَنَّ الَّذِينَ نَـزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْأُولَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ "ألم "، غَيْرُ الَّذِينَ نَـزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْآخِرَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الْأُولَتَيْنِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِائْتِنَافِ، إِذْ كَانَتْ مُبْتَدَأً بِهَا بَعْدَ تَمَامِ آيَةٍ وَانْقِضَاءِ قِصَّةٍ. وَقَدْ يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا أَيْضًا بِنْيَةِ الِائْتِنَافِ، إِذْ كَانَتْ فِي مُبْتَدَأِ آيَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ. فَالرَّفْعُ إِذًا يَصِحُّ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَالْخَفْضُ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ عِنْدِي بِقَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} مَا ذَكَرْتُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْ تَكُونَ "أُولَئِكَ "إِشَارَةً إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي: الْمُتَّقِينَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ، وَتَكُونُ "أُولَئِك" مَرْفُوعَةً بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، وَأَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلُ مِنَ الْكَلَامِ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ. وَإِنَّمَا رَأَيْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعَتَ الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمُ الْمَحْمُودِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ. كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي عَدْلِهِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْجَزَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَيَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِالْجَزَاءِ دُونَ الْآخَرِ، وَيَحْرِمُ الْآخَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ. فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّنَاءِ بِالْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الثَّنَاءَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْجَزَاءِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ، بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ. كَمَا:- حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُنْجِحُونَ الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مِنَ الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَالْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْعِقَابِ. كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَحَدَمَعَانِي الْفَلَاحِ، إِدْرَاكُ الطَّلِبَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ، قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ: اعْقِـلِي، إِنْ كُـنْتِ لَمَّـا تَعْقِـلِي، *** وَلَقَـدْ أَفْلَـحَ مَـنْ كَـانَ عَقَـلْ يَعْنِي ظَفِرَ بِحَاجَتِهِ وَأَصَابَ خَيْرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: عَـدِمتُ أُمـا وَلَـدَتْ رِيَاحـا *** جَـاءَتْ بِـهِ مُفَرْكَحـا فِرْكَاحَـا تَحْسِـبُ أَنْ قَـدْ وَلَـدَتْ نَجَاحَـا! *** أَشْـهَدُ لَا يَزِيدُهَـا فَلَاحَـا يَعْنِي: خَيْرًا وَقُرْبًا مِنْ حَاجَتِهَا. وَالْفَلَاحُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: أَفْلَحَ فُلَانٌ يُفْلِحُ إِفْلَاحًا وَفَلَاحًا وَفَلَحًا. وَالْفَلَاحُ أَيْضًا: الْبَقَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: نَحُـلُّ بِـلَادًا، كُلُّهَـا حُـلَّ قَبْلَنَـا *** وَنَرْجُـو الْفَـلاحَ بَعْـدَ عَـادٍ وَحِـمْيَرِ يُرِيدُ الْبَقَاءَ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ عُبَيْدٍ: أَفْلِحَ بِمَـا شِـئْتَ، فَقَـدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ *** ـعْـفِ، وَقَدْ يُخْـدَعُ الأَرِيـبُ يُرِيدُ: عِشْ وَابْقَ بِمَا شِئْتَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ: وَكُـلُّ فَتًـى سَتَشْـعَبُهُ شَـعُوبٌ *** وَإِنْ أَثْـرَى، وَإِنْ لَاقَـى فََلَاحـا أَيْ نَجَاحًا بِحَاجَتِهِ وَبَقَاءً.
|