الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (45): {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}{وَسَكَنتُمْ} من السكنى عنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل: {فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} جريًا على أصل معناه فإنه منقول عن سكن عنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما قلوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آيلة إلى صاحبه، والمراد بهم كما قال بعض المحققين إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم.{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ} أي ظهر لكم على أتم وجه عاينة الآثار وتواتر الأخبار {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل {تَّبَيَّنَ} مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب بفعلنا وجملة الاستفهام ليست معمولة لتبين لأنه لا يعلق، وقيل: الجملة فاعل {تَّبَيَّنَ} بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين.وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل {كَيْفَ} لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم: على كيف تبيع الأحمرين وقولهم: انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني {ونبين} بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أضًا صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفًا على {تكونوا} [إبراهيم: 44] أي أو لم نبين لكم {بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ} أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين.{الامثال} أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على مالهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل عنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب: وروى هذا عن مجاهد، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير {أَقْسَمْتُمْ} [إبراهيم: 44] أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله سبحانه:.تفسير الآية رقم (46): {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} حال من الضمير الأول في {فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] أو من الثاني أو منهما جميعًا، وقدم عليه قوله تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} [إبراهيم: 45] لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم، والمراد بيان تناهيهم في استحقاق ما فعل بهم، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادئ البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الإسلام، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: بلغني أن أهل النار ينادون {رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم: 44] إلخ فيرد عليهم بقوله سبحانه: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ} [إبراهيم: 44] إلى قوله تعالى: {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} وذكره ابن عطية احتمالًا، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبًا. وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في {مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} من الإضافة.وفي الحواشي الشهابية أن {مَكْرِهِمْ} منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} إلخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه، وأيًا ما كان فإضافة {مَكَرَ} إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر، وقيل: إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم ولم يسمع متعديًا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزًا به أو مضمنًا معنى الكيد أو الجزاء، والكلام في نسبة المكر إليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور، وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ما أفاده قوله تعالى: {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] لا أنه وعيد مستأنف. والجملة حال من الضمير في {مَكَرُواْ} أي مكروا مكرهم وعند الله تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه. والمقصود ببيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلًا مع تحقق ما يوجب تركه {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} أي وإن كان مكرهم فـ يغاية الشدة والمتانة، وعبر عن ذلك بكونه معدي لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلًا فـ ذلك.{وَأَنْ} شرطية وصلية عند جمع، والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطله إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها، ولابد على هذا الوجه من ملاحظة الإبطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لا يكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي. وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم كرهم، ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكرًا، ولا حاجة حينئذ إلى ملاحظة الإبطال فتدبر. وعن الحسن وجماعة أن {ءانٍ} نافية واللام لام الجحود {وَكَانَ} تامة، والمراد بالجبال آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات. وجوز أن تكون {كَانَ} ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين. وأيد هذا الوجه بما روى عن ابن مسعود من أنه قرأ {وَمَا كَانَ} بما النافية، وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور، وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ما راموا إبطاله من الحق كما أشرنا إليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفيًا وإثباتًا. ورد بأنه إذا جعل الحق شبيهًا بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى، فإذا نفى إزالته إياه انتفى إزالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الإشكال.وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لا يلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل قد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على إزالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد الله تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفًا ولا يزول انتهى، وإلى تفسير {الجبال} على هذه القراءة بما ذكرنا ذهب شيخ الإسلام ثم قال: وأما كونها عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين. وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريبًا إن شاء الله تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية، والجملة حال من الضمي في {مَكَرُواْ} لا من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} وجوز أبو البقاء. وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ماهو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات، والجملة أيضًا حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لإزالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعًا من مباشرة المكر لإزالته.وقرأ ابن عباس. ومجاهد. وابن وثاب. والكسائي {لِتَزُولَ} بفتح اللام الأولى ورفع الفعل فإن على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة، وعند الكوفيين نافية واللام عنى إلا، والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أي في غاية الشدة. وقرئ {لِتَزُولَ} بالفتح والنصب، وخرج ذلك على لغة جاءت في فتاح لام كي. وقرأ عمر. وعلى. وأبي. وعبد الله. وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وأبو إسحق السبيعي. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ورحمهم {وَإِن كَادُواْ} بدال مكان النون و{لِتَزُولَ} بالفتح والرفع، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونقل أبو حاتم عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الله مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة؛ هذا ومن الناس من قال: إن الضمير في {مَكَرُواْ} للمنذرين، والمراد كرهم ما أفاده قوله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام: ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ} إلخ حالًا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الأقسام المذكورة مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام الذي وبخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة. وقوله سبحانه: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} حال من ضمير {مَكَرُواْ} حسا ذكر من قبل. وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويًا أو ضعيفًا كما مرت الإشارة إليه، وعلى تقدير كون {ءانٍ} نافية فهو حال من ضمير {مَكَرُواْ} والجبال عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا واو الحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة، وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالًا منه أيضًا، على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض، والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها.وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} كما ذكر سابقًا اه. ويجوز أن يراد كرهم شركهم كما أخبرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس، والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال.وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام مع ما ينافيه بل اجترؤا على الشرك وقالوا: {اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} [مريم: 88-90] وقد روى عن الضحاك أنه صرح بأن ما نحن فيه كهذه الآية، ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدهم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال، وهو الظاهر كما قيل، وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي. وفي البحر الذي يظهر أن زوال الجبال مجاز ضرب مثلًا لمكر قريش وعظمه والجبال لا تزول، وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لا يخفى.وأما ما روى أن جبلًا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبًا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فاركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان.وما روى من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الأنسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة، وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الإسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم: هذا سحر، هذا شعر، هذا إفك فأقول ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جدًا قصة الأنسر اه.واستبعد ذلك أيضًا كما نقل الإمام القاضي وقال: إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية إليه، ونعم ما قال في خبر النسور فإنه وإن جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. وعن مجاهد. وابن جبير. وأبي عبيدة. والسدي. وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لا يخفى على من نقر.وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم.
|