الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ). - وفيه: أَنَسٍ، وسَهْل، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَحْفِرُ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ، وَبصر بِنَا فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ) قال المؤلف: قال بعض العلماء: إنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان)، تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده فى الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكيفًا مؤنة العيش فى الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة، وجعل مدة طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا فى جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمن أنعم النظر فى هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه فى طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه فى سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم، وقد روى الترمذى من حديث ابن المبارك، عن يحيى بن عبيد الله بن موهب، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع). وأما قوله: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة). فإنه نبه بذلك أمته على تصغير شأن الدنيا وتقليلها، وكدر لذاتها وسرعة فنائها، وما كان هكذا فلا معنى للشغل به عن العيش الدائم الذى لا كدر فى لذاته، بل فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وَقَوْلِهِ تعالى: {إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ (إلى قوله تعالى: {إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]. - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا). قال المؤلف: قد بين رسول الله منزلة الدنيا من الآخرة، بأن جعل موضع سوط من الجنة أو غدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وإنما أراد ثواب الغدوة أو الروحة فى الآخرة؛ لينبه أمته على هوان الدنيا عند الله تعالى وضعتها، ألا ترى أنه لم يرضها دار جزاءٍ لأوليائه ولا نقمة لأعدائه؛ بل هى كما وصفها تعالى) لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] الآية. وقد روى الترمذى، عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: سمعت مستورد بن شداد الفهرى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بماذا يرجع). قال: وحدثنا قتيبة، حدثنا عبد الحميد بن سليمان، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة).
- فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَخَذَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِى، وَقَالَ: (كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء والزهد فى الدنيا. قال المؤلف: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه فيأنس به، ويستكثر بخلطته فهو ذليل فى نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ فى سفره إلا بقوته عليه وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا يدل على إيثار الزهد فى الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن فى الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقوله: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) حض منه على أن يجعل الموت نصب عينيه، فيستعد له بالعمل الصالح، وحض له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا. وقوله: (خذ من صحتك لمرضك) حض على اغتنام أيام صحته فيمهد فيها لنفسه خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: (ومن حياتك لموتك) تنبيه على اغتنام أيام حياته، ولا يمر عمره باطلاً فى سهوٍ وغفلة، لأن من مات فقد انقطع عمله وفاته أمله وحضره على تفريطه ندمه، فما أجمع هذا الحديث لمعانى الخير وأشرفه.
وَقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] وَقَوْلِهِ تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 15]. وقال عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ. - فيه: ابْن مسعود، قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ عليه السلام خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ، وَقَالَ: (هَذَا الإنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِى خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا). - وفيه: أَنَس، خَطَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا، فَقَالَ: (هَذَا الأمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأقْرَبُ). قال المؤلف: مثل النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن مسعود أمل ابن آدم وأجله وإعراض الدنيا التى لا تفارقه بالخطوط، فجعل أجله الخط المحيط، وجعل أمله وإعراضه خارجة من ذلك الخط، ومعلوم فى العقول أن ذلك الخط المحيط به الذى هو أجله؛ أقرب إليه من الخطوط الخارجة منه، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أنس: (فبينا هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب). يريد أجله؟ وفى هذا تنبيه من النبى صلى الله عليه وسلم لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه أجله فهو حرى بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه فى حال غرة وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فَلْيُرِضْ المؤمن نفسه على استشعار ما نُبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله على ذلك، فإن ابن آدم مجبول على الأمل كما قال صلى الله عليه وسلم فى الباب بعد هذا: (لا يزال قلب الكبير شابًا فى حب الدنيا وطول الأمل). وقال الطبرى: فى قوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} [الحجر: 3]، يعنى ذرِ المشركين يا محمد يأكلوا فى هذه الدنيا ويتمتعوا من شهواتها ولذاتها إلى أجلهم الذى أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بطاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم. فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا بكفرهم بالله حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا فى تمتعهم بلذات الدنيا فى خسار وتبابٍ).
لِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] يَعْنِى الشَّيْبَ. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ: فِى حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأمَلِ). - وفيه: أَنَس، عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ). - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِك، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُوَافِىَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِى الْمُؤْمِنِ عِنْدِى جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلا الْجَنَّةُ). قال المؤلف: روى عن على بن أبى طالب وابن عباس وأبى هريرة فى قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] قالوا: يعنى: ستين سنةً، وروى عن ابن عباس أيضًا أربعون سنة، وعن الحسن البصرى ومسروق مثله، وحديث أبى هريرة حجة لقول على ومن وافقه فى تأويل الآية. وقول من قال: أربعون سنة. له وجه صحيح أيضًا، والحجة له قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] الآية فذكر تعالى أن من بلغ الأربعين، فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرهما. قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتى لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت. فبلوغ الأربعين نقل لابن آدم من حالة إلى حالة أرفع منها فى الاستبصار والإعذار إليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى أمرئ أخرّ أجله حتى بلغ ستين سنة). أى أعذر إليه غاية الإعذار، الذى لا إعذار بعده، لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى وترقب المنية ولقاء الله تعالى فهذا إعذار بعد إعذار فى عمر ابن آدم، لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم إلا بعد الحجج اللائحة المبكتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حبّ الدنيا وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه، وأكبر الإعذار إلى بنى آدم بعثه الرسل إليهم، واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] فروى عن على ابن أبى طالب أنه محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو قول ابن زيد وجماعة، وعن ابن عباس أنه الشيب. وحجة القول الأول أن الله تعالى بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى عباده قطعًا لحجتهم، وقال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولقول ابن عباس أن النذير: الشيب. وجه يصح، وذلك أن الشيب يأتى فى سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذى هو سن اللهو واللعب، فهو نذير أيضًا، ألا ترى قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رأى الشيب قال: (يا رب ما هذا؟ فقال له: وقار. قال: ربى زدنى وقارًا). فبان رفق الله بعباده المؤمنين وعظيم لطفه بهم حين أعذر إليهم ثلاث مرات: الأولى بالنبى صلى الله عليه وسلم والمرتان فى الأربعين وفى الستين؛ ليتم حجته عليهم، وهذا أصل لإعذار الحاكم إلى المحكوم عليهم مرةً بعد أخرى. فإن قيل: فما وجه حديث عتبان فى هذا الباب؟ قيل: له وجه صحيح المعنى، وذلك أنه لما كان بلوغ الستين غاية الإعذار إلى ابن آدم خشى البخارى، رحمه الله، أن يظن من لا يتسع فهمه أن من بلغ الستين، وهو غير تائب، أن ينفذ عليه الوعيد، فذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم: (لن يوافى عبد يوم القيامة بكلمة الإخلاص والتوحيد يبتغى بها وجه الله؛ إلا حرمه الله على النار). وسواء أتى بها بعد الستين أو بعد المائة لو عمرها. وقد ثبت بالكتاب والسنة أن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم، ويعاين قبض روحه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة). وهذا عام المعنى فى كل عمر ابن آدم؛ بلغ الستين أو زاد عليها، فهو ينظر إلى معنى حديث عتبان فى قوله: (ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيه إلا الجنة) دليل أن من مات له ولد واحد فاحتسبه أن له الجنة، وهو تفسير قول المحدث: (ولم نسأله عن الواحد) حين قال صلى الله عليه وسلم: (من مات له ثلاثة من الولد أدخله الله الجنة. قيل: واثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان. ولم نسأله عن الواحد)؛ إذ لا صفى أقرب إلى النفوس من الولد، وقد ذكرته فى الجنائز.
- فيه: عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، يَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بِالْمَالٍ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِهِ، فَوَافَتْهُ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْصَرَفَ، تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: (أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ)؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: (فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ). - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، خَرَجَ النَّبِيّ عليه السلام يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ... الحديث، ثُمَّ قَالَ: (وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا). - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ)، قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأرْضِ يَا رسُول اللَّه؟ قَالَ: (زَهْرَةُ الدُّنْيَا...)، الحديث على ما جاء فى كتاب الزكاة، فى باب الصدقة على اليتامى. - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (خَيْر القرون قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ، قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ). - وفيه: خَبَّاب، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا بِشَىْءٍ، وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ. قال المؤلف: هذه الأحاديث تنبيه فى أن زهرة الدنيا ينبغى أن يخشى سوء عاقبتها وشر فتنتها من فتح الله عليه الدنيا، ويحذر التنافس فيها والطمأنينة إلى زخرفها الفانى؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم خشى ذلك على أمته، وحذرهم منه لعلمه أن الفتنة مقرونة بالغنى، ودَلّ حديث عمران بن حصين أن فتنة الدنيا لمن يأتى بعد القرن الثالث أشدّ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون) إلى قوله (ويظهر فيهم السمن). فجعل صلى الله عليه وسلم ظهور السمن فيهم وشهادتهم بالباطل، وخيانتهم الأمانة، وتنافسهم فى الدنيا وأخذهم لها من غير وجهها كما، قال صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى سعيد: (ومن أخذه بغير حقه فهو كالذى يأكل ولا يشبع). وكذلك خشى عمر بن الخطاب فتنة المال، فروى عنه أنه لما أتى بأموال كسرى بات هو وأكابر الصحابة عليه فى المسجد، فلما أصبح وأصابته الشمس التمعت تلك التيجان فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ليس هذا حينُ بكاء، إنما هو حِينُ شكر. فقال عمر: إني أقول: ما فتح الله هذا على قوم قط إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم وقال: اللهم منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته علىّ لتبتلينى به، اللهم اعصمنى من فتنته. فهذا كله يدل أن الغنى بلية وفتنة، ولذلك استعاذ النبى صلى الله عليه وسلم من شر فتنته، وقد أخبر الله تعالى بهذا المعنى فقال لرسوله: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، ولهذا آثر أكثر سلف الأمة التقلل من الدنيا وأخذ البلغة؛ إذ التعرض للفتن غرر. وقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى سعيد: (وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يلم) فهو أبلغ الكلام فى تحذير الدنيا والركون إلى غضارتها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فيكثر أكلها فربما تفتقت سمنًا فهلكت، فضرب النبى صلى الله عليه وسلم هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ من الدنيا إلا قدر حاجته، ولا يروقه زهرتها فتهلكه. وقال الأصمعى: والحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر، حتى تنتفخ بذلك بطنها وتمرض عنه. وقوله: (أو يلمُ) يعني يُدنى من الموت، وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الصدقة على اليتامى فى كتاب الزكاة. وأمّا قول خباب: (إن أصحاب محمد مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا). فإنه لم يكن فى عهد النبي عليه السلام من الفتوحات والأموال ما كان بعده، فكان أكثر الصحابة ليس لهم إلا القوت، ولم ينالوا من طيبات العيش ما يخافون أن ينقصهم ذلك من طيبات الآخرة، ألا ترى قول عمر بن الخطاب حين اشترى لحمًا بدرهم: أين تذهب هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [الأحقاف: 20]، فدل أن التنعم فى الدنيا والاستمتاع بطيباتها تنقص كثيرًا من طيبات الآخرة. وقوله: (إنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب). قال أبو ذر: يعنى البنيان، ويدل على صحّة هذا التأويل أن خبّابًا قال هذا القول وهو يبنى حائطًا له، وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض الموت، فتأمله هناك فهو بين فى حديث خباب.
قَالَ مُجَاهِدٌ: (الْغَرُورُ (: الشَّيْطَانُ. - فيه: عُثْمَان، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ: وَقَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تَغْتَرُّوا). قال المؤلف: نهى الله عباده عن الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفها الفانى، وعن الاغترار بالشيطان، وبيّن لنا تعالى عداوته لنا لئلا نلتفت إلى تسويله وتزيينه لنا الشهوات المردية، وحذرنا تعالى طاعته وأخبر أن أتباعه وحزبه من أصحاب السعير، والسعير: النار. فحق على المؤمن العاقل أن يحذر ما حذّره منه ربه عز وجل ونبيه عليه السلام وأن يكون مشفقًا خائفًا وجلاً، وإن واقع ذنبًا أسرع الندم عليه والتوبة منه وعزم ألا يعود إليه، وإذا أتى حسنة استقلها واستصغر عمله ولم يدل بها، ألا ترى قول عثمان: (من أتى المسجد، فركع ركعتين ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه). وهذا لا يكون إلا من قول النبى صلى الله عليه وسلم ثم أتبع ذلك بقول النبى صلى الله عليه وسلم: (لا تغتروا). ففهم عثمان رضى الله عنه من ذلك أن المؤمن ينبغى له ألا يتكل على عمله، ويستشعر الحذر والإشفاق بتجنب الاغترار، وقد قال غير مجاهد فى تفسير الغرور قال: هو أن يغتر بالله، فيعمل المعصية ويتمنى المغفرة.
- فيه: مِرْدَاس، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأوَّلُ فَالأوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً). قال المؤلف: ذهاب الصالحين من أشراط الساعة، إلا إنه إذا بقى الناس فى حفالةٍ كحفالة الشعير أو التمر؛ فذلك إنذار بقيام الساعة وفناء الدنيا، وهذا الحديث معناه الترغيب فى الاقتداء بالصالحين والتحذير من مخالفة طريقهم خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به. وبَالة: مصدر باليت محذوف منه الياء التى هى لام الفعل، وكان أصله (بالية) فكرهوا ياءً قبلها كسرة، لكثرة استعمال هذه اللفظة فى نفى كل ما لا يحفل به، وتقول العرب أيضًا فى مصدر باليت مبالاةً كما تقول بالة. والحفالة: سفلة الناس وأصلها فى اللغة ما تساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما، والحثالة والحشافة مثله، وقد ذكرت هذا فى كتاب الفتن فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس.
وَقَوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ). - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا وَلا يَمْلأ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ). - وَفِى رواية ابْن عَبَّاس: (وَلا يَمْلأ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ). وروى مثله ابن الزبير، وَأنَس، عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ أَنَس فِى حديثه: (وَلَنْ يَمْلأ فَاهُ إِلا التُّرَابُ). - وفيه: أَنَس، عَنْ أُبَىٍّ، كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]. قال المؤلف: معنى الفتنة فى كلام العرب: الاختبار والابتلاء، ومنه قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] أى اختبرناك، والفتنة: الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] أى ليميلونك، والفتنة أيضًا: الإحراق من قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أى يحرقون، هذا قول ابن الأنبارى. والاختبار والابتلاء بجمع ذلك كله، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنها فتنة، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، وخرج لفظ الخطاب على العموم؛ لأن الله تعالى فطر العباد على حب المال والولد، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا). فأخبر عن حرص العباد على الزيادة فى المال، وأنه لا غاية له يقنع بها ويقتصر عليها، ثم أتبع ذلك بقوله: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، يعنى إذا مات وصار فى قبره ملأ جوفه التراب، وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميمًا. وأشار صلى الله عليه وسلم بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا والشره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة والكفاف فرارًا من التعرض لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، واستعاذ النبى صلى الله عليه وسلم من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله تعالى قد أعاذه من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك صلى الله عليه وسلم تواضعًا لله وتعليمًا لأمته، وحضًا لهم على إيثار الزهد فى الدنيا. وقوله: (تعس عبد الدينار..) إلى آخر الحديث فيه ذم مَنْ فتنه متاع الدنيا الفانى، وتعِس قيل: معناه هلك، وقيل: التعس: أن يخر على وجهه، وقد ذكرت اختلاف أهل اللغة فى تفسير هذه الكلمة فى كتاب الجهاد فى باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله.
وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية [آل عمران: 14]. وقال عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ إِلا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِى حَقِّهِ. - فيه: حَكِيم، سَأَلْتُ النَّبِيَّ عليه السلام فَأَعْطَانِى ثلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى). قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله يدل على أن فتنة المال والغنى مخوفة على من فتحه الله عليه لتزيين الله تعالى له، ولشهوات الدنيا فى نفوس عباده؛ فلا سبيل لهم إلى بعضته إلا بعون الله على ذلك، ولهذا قال عمر: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، ثم دعا الله أن يعينه على إنفاقه فى حقه، فمن أخذ المال من حقه ووضعه فى حقه فقد سلم من فتنته، وحصل على ثوابه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بطيب نفس بورك فيه)، وفى قوله أيضًا: (ومن أخذه بطيب نفس) تنبيه لأمته على الرضا بما قسم لهم، وفى قوله: (ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذى يأكل ولا يشبع) ذم الحرص والشره إلى الاستكثار، ألا ترى أنه شبّه فاعل ذلك بالبهائم التى تأكل ولا تشبع وهذا غاية الذم له لأن الله تعالى وصف الكفار بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام، يعنى: أنهم لا يشبعون كما لا تشبع الأنعام؛ لأن الأنعام لا تأكل لإقامة أرماقها، وإنما تأكل للشره والنهم. فينبغى للمؤمن العاقل الفهم عن الله تعالى وعن رسوله أن يتشبه بالسلف الصالح فى أخذ الدنيا ولا يتشبه بالبهائم التى لا تعقل، وقد فسرنا قوله: (خضرة حلوة) فى كتاب الزكاة.
- فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ)؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ). قال المؤلف: هذا الحديث تنبيه للمؤمن على أن يقدم من ماله لآخرته، ولا يكون خازنًا له وممسكه عن إنفاقه فى طاعة الله، فيخيب من الانتفاع به فى يوم الحاجة إليه، وربما أنفقه وارثه فى طاعة الله فيفوز بثوابه. فإن قيل: هذا الحديث يدل على أن إنفاق المال فى وجوه البر أفضل من تركه لوارثه، وهذا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم لسعد: (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس). قيل: لا تعارض بينهما، وإنما خص النبى صلى الله عليه وسلم سعدًا على أن يترك مالا لورثته؛ لأن سعدًا أراد أن يتصدق بماله كله فى مرضه، وكان وارثه ابنته والابنة لا طاقة لها على الكسب، فأمره صلى الله عليه وسلم بأن يتصدق منه بثلثه ويكون باقيه لابنته ولبيت مال المسلمين، وله أجر فى كل من يصل إليه من ماله شىء بعد موته. وحديث ابن مسعود إنما خاطب به صلى الله عليه وسلم أصحابه فى صحتهم ونبّه به من شحّ على ماله، ولم تسمح نفسه بإنفاقه فى وجوه البر أن ينفق منه فى ذلك؛ لئلا يحصل وارثه عليه كاملاً موفرًا، ويخيب هو من أجره، وليس فيه الأمر بصدقة المال كله فيكون معارضًا لحديث سعد، بل حديث عبد الله مجمل يفسره حديث سعد، ويدل على صحةً هذا التأويل ما ذكره أهل السير، عن ابن شهاب أن أبا لبابة قال: (يا رسول، إن من توبتى أن أهجر دار قومى التى أصبت فيها الذنب، وأنخلع من مالى صدقة إلى الله ورسوله. قال: يجزئك الثلث) فلم يأمره بصدقة ماله كله.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا (إلى) يَعْمَلُونَ} [هود: 15]. - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا)، وذكر الحديث بطوله. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على أن كثرة المال تئول بصاحبه إلى الإقلال من الحسنات يوم القيامة، إذا لم ينفقه فى طاعة الله، فإن أنفقه فى طاعة الله كان غنيًا من الحسنات يوم القيامة، وقد احتج بهذا الحديث من فضل الغنى على الفقر؛ لأنه استثنى فيه من المكثرين من نفح بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة، وسنذكر مذاهبهم فيها فى باب فضل الفقر بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (نفح فيه) قال صاحب الأفعال: نفح بالعطاء: أعطى، والله نفاح بالخيرات، قال صاحبُ العين: نفح بالمال، والسيف، ونفحات المعروف: دفعه، ونفحت الدابة: رمحت بحافرها الأرض. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15] الآيتين، قال أهل التأويل: هذا عام فى لفظ خاص فى الكفار، بدليل قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16]، وإنما ذكرها البخاري في هذا الباب تحذيرًا للمؤمنين من مشابهة أفعال الكافرين فى بيعهم الآخرة الباقية بزينة الدنيا الفانية، فيدخلوا فى معنى قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [الأحقاف: 20] الآية.
- فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ، وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، إِلا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ...) الحديث بطوله، وروى أَبُو هُرَيْرَةَ مثله مختصرًا. قال المؤلف: فى هذا الحديث أن المؤمن لا ينبغى له أن يتمنّى كثرة المال إلا بشريطة أن يسلطه الله على إنفاقه فى طاعته اقتداءً بالنبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك. وفيه: أن المبادرة إلى الطاعة أفضل من التوانى فيها، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يبقى عنده من مقدار جبل أحدٍ ذهبًا، لو كان له، بعد ثلاث إلا دينار يرصده لدين. وفيه: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يكون عليه الدين لكثرة مواساته بقوته وقوت عياله، وإيثاره على نفسه أهل الحاجة، والرضا بالتقلل والصبر على خشونة العيش، وهذه سيرة الأنبياء والصالحين، وهذا كله يدل على أن فضل المال فى إنفاقه فى سبيل الله لا فى إمساكه وادّخاره.
وَقَوله تعالى: {أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] إِلَى) عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَعْمَلُوهَا لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ). قال المؤلف: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض) يريد ليس حقيقة الغنى عن كثرة متاع الدنيا، لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه فى المال يكون فقير النفس لا يقنع بما أعطى فهو يجتهد دائبًا فى الزيادة، ولا يبالى من أين يأتيه، فكأنه فقير من المال؛ لشدة شرهه وحرصه على الجمع، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، الذى استغنى صاحبه بالقليل وقنع به، ولم يحرص على الزيادة فيه، ولا ألحّ فى الطلب، فكأنه غنى واجد أبدًا، وغنى النفس هو باب الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره علم أن ما عند الله خير للأبرار، وفى قضائه لأوليائه الأخيار، روى الحسن، عن أبى هريرة قال: (قال لى رسول الله: أرض بما قسم الله تكن أشكر الناس). وقوله تعالى: {أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55]، نزلت فى الكفار، فليست بمعارضة لدعائه صلى الله عليه وسلم لأنس بكثرة المال والولد، وقال أهل التأويل فى معناها: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين مجازاة لهم وخيرًا لهم، بل هو استدراج لهم، ولذلك قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا} [المؤمنون: 63]، أى فى غطاء عن المعرفة أن الذى نمدهم به من مال استدراج لهم، وقال بعض أهل التأويل فى قوله تعالى: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} [المؤمنون: 55] هى الخيرات: فالمعنى نسارع فيه ثم أظهر فقال: (فِى الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 56]، أى نسارع لهم به فى الخيرات.
- فيه: سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا)؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا، وَاللَّهِ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا)؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا). - وفيه: خَبَّاب، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شيئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا). - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ). - وفيه: أنس: أَنَس، لَمْ يَأْكُلِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ. - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِى رَفِّى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. قال المؤلف: فى ظاهر هذه الأحاديث فضل الفقر، كما ترجم البخارى، وقد طال تنازع الناس فى هذه المسألة، فذهب قوم إلى تفضيل الفقر، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، واحتج من فضل الفقر بهذه الآثار بغيرها، فمنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول فى دعائه: (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين). من حديث ثابت بن محمد العابد العوفى، عن الحارث بن النعمان الليثى، عن أنس بن مالك، عن النبى صلى الله عليه وسلم ذكره الترمذى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من آمن بى وصدّق ما جئت به، فأقلل له فى المال والولد). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجد محبوسون). روى الترمذى، عن محمود بن غيلان، عن قبيصة، عن سفيان، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، نصف يوم) قال الترمذى: وهذا حديث صحيح. واحتج من فضل الغنى بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا). وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا فى اثنتين، أحدهما: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) الحديث. وبقوله لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس). وقال لأبى لبابة حين قال: يا رسول الله، إن توبتى أن أنخلع من مالى صدقةً إلى الله ورسوله: (أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك). وقال فى معاوية: (إنه لصعلوك لا مال له)، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليذمّ حالة فيها الفضل. وأحسن ما رأيت فى هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودى قال: الفقر والغنى محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدى صبر الصابرين وشكر الشاكرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب فى تفضيل الغنى على الفقر، ووضع آخرون فى تفضيل الفقر، وأغفلوا الوجه الذى يجب الحض عليه والندب إليه، وأرجو لمن صحت نيته وخلصت لله طويته، وكانت لوجهه مقالته أن يجازيه الله على نيته ويعلمه، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [فصلت: 51]، وقال: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19- 21]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ} [الفجر: 15، 16]، وقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27]. الآية، وقال: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] الآية، وقال: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، يعنى لحب المال، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف عليكم أن تفتح الدنيا عليكم..) الحديث. وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، فدل هذا كله أن ما فوق الكفاف محنة، لا يسلم منها إلا من عصمه الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى). وقال عمر ابن الخطاب لما أُوتى بأموال كسرى: (ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته على لتبتلينى به، اللهم سلطنى على هلكته فى الحق واعصمنى من فتنته). فهذا كله يدل على فضل الكفاف، لا فضل الفقر كما خيلّ لهم، بل الفقر والغنى بليتان كان النبى صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنتهما، ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقال: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وقال فى ولى اليتيم: (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، وقال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9]، وقال صلى الله عليه وسلم لأبى لبابة: (أمسك عليك بعض مالك). وقال لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس). وهذا من الغنى الذى لا يطغى، ولو كان كل ما زاد كان أفضل لنهاه النبى صلى الله عليه وسلم أن يوصى بشىء، واقتصرت أيدى الناس عن الصدقات وعن الإنفاق فى سبيل الله، وقال لعمرو بن العاص: (هل لك أن أبعثك فى جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبةً من المال؟ فقال: ما للمال كانت هجرتى، إنما كانت لله ولرسوله. فقال: نعم المال الصالح للرجل الصالح). ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليحض أحدًا على ما ينقص حظه عند الله، فلا يجوز أن يقال إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى؛ لأنهما محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره؛ فليس هاهنا موضع للفضل، وإنما هى محن يبلو الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهما، ولم يأت فى الحديث، فيما علمنا، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله من شرّ فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها فى دعائه. فأماّ ما روى عنه أنه كان يقول: (اللهم أحينى مسكينًا وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين). فإن ثبت فى النقل فمعناه ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ترك أموال بنى النضير وسهمه من فدك وخيبر، فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شىء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه. وما روى عنه أنه قال: (اللهم من آمن بى وصدّق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد). فلا يصح فى النقل ولا فى الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك فى المال وحده لكان محتملا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بقلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون، وما يدفعه العيان مدفوع عنه صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه لا تتناقض. كيف يذمّ معاوية، ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول: إنه خير، ثم يخالف ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك وقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته). قال أنس: فلقد أحصت ابنتى أنى قدّمت من ولد صُلبى مقدم الحجاج البصرة مائةً وبضعةً وعشرين نسمةً بدعوة رسول الله، وعاش بعد ذلك سنين وولد له). فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد أتبع ذلك بقوله: (وبارك له فيما أعطيته). فإن قيل: فأى الرجلين أفضل: المبتلى بالفقر، أو المبتلى بالغنى إذا صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم؛ إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه والآخر كذلك، وقد يكون هذا الذى صلح حاله على الفقر لا يصلح حاله على الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى. فإن قيل: فإن كان كل واحد منهما يصلح حاله فى الأمرين، وهما فى غير ذلك من الأعمال متساويان قد أدّى الفقير ما يجب عليه فى فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدّى الغنى ما يجب عليه من الإنفاق والبذل والشكر والتواضع، فأى الرجلين أفضل؟ قيل: علم هذا عند الله. وأمّا قوله: (وأصحاب الجد محبوسون). فإنما يحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر، وإنما من أدّى حق الله فى ماله، ولم يرد به التفاخر وأرصد باقيه لحاجته إليه، فليس أولئك بأولى منه فى السبق إلى شىء، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق). فبين أنه لا شىء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله تعالى معنى ما أراد، ولو كان من هذه حاله مسبوقًا فى الأخرى لما حضّ النبى صلى الله عليه وسلم على أن يتنافس فى عمله، ولحضّ أبا لبابة على الحالة التى يسبق بها إلى الجنة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث: (الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذى هى عليه وزر فرجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام). فهذا من المحبوسين للحساب، والأولان فهو كفافهما، غير أن آفات الغنى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل، إذ لا يكاد يسلم من آفاته إلا من عصمه الله؛ فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه؛ لأن الشيطان يسول فيه إما فى الأخذ بغير حقه، أو فى الوضع فى غير حقه، أو فى منعه من حقه، أو فى التجبر والطغيان من أجله، أو فى قلة الشكر عليه أو فى المنافسة فيه إلى ما لا يبلغ صفته. قال المهلب: وليس فى قوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام) تفضيل للفقر؛ لأن تقديم دخول الجنة لا تستحق به الفضيلة، ألا ترى أن النبي عليه السلام أفضل البشر ولا يتقدم بالدخول فى الجنّة حتى يشفع فى أمته، وكذلك صالح المؤمنين يشفعون فى قوم دونهم فى الدرجة، وإنما ينظر يوم القيامة بين الناس فيقدم الأقل حسابًا فالأقل، فلذلك قدم الفقراء، لأنهم لا علقة عليهم فى حساب الأموال، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون الجنة، وينالون فيها من الدرجات ما قد لا يبلغه الفقراء، وكذلك ليس فى قوله صلى الله عليه وسلم: (اطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء). ما يوجب فضل الفقراء، وإنما معناه أن الفقراء فى الدنيا أكثر من الأغنياء، فأخبر عن ذلك كما نقول أكثر أهل الدنيا الفقراء، لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، إنما أدخلهم الله الجنة بصلاحهم مع الفقر؛ أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له فى الفقر، وأما حديث سهل فلا يخلو أن يكون فضل الرجل الفقير على الغنى من أجل فقره أو من أجل فضله، فإن كان من أجل فضله فلا حجة فيه لمن فضل الفقر، وإن كان من أجل فقره فكان ينبغى أن يشترط فى ملء الأرض مثله لا فقير فيهم. ولا دليل فى الحديث يدل على تفضيله عليه مع جهة فقره؛ لأنا نجد الفقير إذا لم يكن صالحًا؛ فكل غنى صالح خير منه، وفى حديث خباب أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها، ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله؛ ليثبتهم عليها فى الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مرّ ولم يأخذ من أجره شيئًا فى الدنيا، وكان أجره فى الآخرة موفرًا له وكان الذى بقى منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا، ونالوا من الطيبات؛ خشوا أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم فى الدنيا بما نالوا منها من النعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص. وتركه صلى الله عليه وسلم الأكل على الخوان وأكل المرقق، فإنما فعل ذلك كأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة فى الآخرة، ولم يرض أن يستعجل فى الدنيا الفانية شيئًا منها أخذًا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيره الله بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختار عبدًا، فلزمه أن يفى الله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين ليستعان به على الآخرة، والنبى صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: (نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وقول عائشة: (لقد توفى رسول الله وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير) هو فى معنى حديث أنس الذى قبله من الأخذ بالاقتصاد وبما يسد الجوعة، وفيه بركة النبى صلى الله عليه وسلم. وفيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا للعلم بكيله وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (أَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمِ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى، وَعَرَفَ مَا فِى نَفْسِى، وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ وَمَضَى، فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِى، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ أَوْ فُلانَةُ، قَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ لِى، قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلا مَالٍ وَلا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِى ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ، أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ، يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِنِى، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ). - وفيه: سَعْد قَالَ: إِنِّى لأوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإسْلامِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِى. - وفيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. - وَقَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ فِى يَوْمٍ إِلا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. - وَقَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ. - وعن: أَنَس، كنّا نأتيه وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ يَأْتِى عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَمَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا). قال الطبري: فى اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار السلف من الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر على مرارة الفقر والفاقة ومقاساة خشونة خشن الملابس والمطاعم على خفض ذلك ودعته، وحلاوة الغنى ونعيمه ما أبان عن فضل الزهد فى الدنيا وأخذ القوت والبلغة خاصة. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يطوى الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع؛ إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذه الطريقة جرى الصالحون، ألا ترى قول أبى هريرة أنه كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، وخرج يتعرض من يمر به من الصحابة يسأله عن آى القرآن ليحمله ويطعمه. وفيه أن كتمان الحاجة أحرى بإظهارها وأشبه بأخلاق الصابرين، وإن كان جائزًا له الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته. وهذا الحديث علم عظيم من أعلام النبوة، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم عرف ما فى نفس أبى هريرة، ولم يعلم ذلك أبو بكر ولا عمر. وفيه شرب العدد الكثير من اللبن القليل حتى شبعوا ببركة النبوة. وفيه ما كان صلى الله عليه وسلم من إيثار البلغة وأخذ القوت فى كرم نفسه وأنه لم يستأثر بشىء من الدنيا دون أمته. وقوله: (اللهم ارزق آل محمد قوتًا). فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك رغبةً فى توفير نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى لتقتدى بذلك أمته، ويرغبوا فيما رغب فيه نبيهم صلى الله عليه وسلم. وروى الطبرى بإسناده عن ابن مسعود قال: حبذا المكروهان الموت والفقر، والله ما هو إلا الغنى والفقر وما أبالى بأيهما ابتليت، إن حق الله فى كل واحد منها واجب، إن كان الغنى ففيه التعطف، وإن كان الفقر ففيه الصبر، قال الطبرى: فمحنة الصابر أشد من محنة الشاكر، وإن كانا شريفى المنزلة، غير أنى أقول كما قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر أحب إلىَّ من أن أبتلى فأصبر. ومن فضل قلة الأكل ما روى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إن أهل البيت ليقل طعمهم فتستنير بيوتهم). وروى إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، عن محمد بن على، عن أبيه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من سرّه أن يكون حكيمًا فليقل طعمه، فإنه يغشى جوفه نور الحكمة). وقال مالك ابن دينار: سمعت عبد الله الرازي يقول: كان أهل العلم بالله والقبول عنه يقولون: إن الشبع يقسى القلب، ويفتر البدن. ومن سير السلف فى تخليهم من الدنيا ما روى وكيع، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة عن مسروق، عن عائشة قالت: قال أبو بكر في مرضه الذى مات فيه: انظروا ما زاد فى مالى منذ دخلت فى الخلافة؛ فابعثوا به إلى الخليفة بعدى، فإنى قد كنت أستحله، وقد كنت أصيب من الودك نحوًا مما كنت أصيب من التجارة. قالت عائشة: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبى يحمل صبيانه وناضح كان يسنى عليه، فبعثناهما إلى عمر فأخبرنى جدى أن عمر بكى وقال: رحمة الله على أبى بكر لقد أتعب من بعده. والحُبلة والسمر: نوعان من الشجر أو النبات، عن أبى عبيد. وقد تقدم الكلام فى حديث سعد وما فيه فى كتاب الأطعمة فى باب ما كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون وتقدّم فيه أيضًا الكلام فى حديث عائشة وأنس وأبى هريرة مع الأحاديث المعارضة لها.
|