الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **
في مسند الإمام أحمد كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح فقلت: نعم. فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب فحملت أمرهم على أنهم عوام وأهملت فكر ذلك. وإذا بهم قد كتبوا فتاوي فكتب فيها جماعة من أهل خراسان منهم أبو العلاء الهمداني يعظمون هذا القول ويردونه ويقبحون قول من قاله. فبقيت دهشاً متعجباً وقلت في نفسي: واعجبا صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً. وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحة وسقيمه وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد. وليس كذلك فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء. أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول!. ومن نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند وقد طعن فيها أحمد. ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ قال: إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر ولم يقصد الصحيح ولا السقيم. ويدل على ذلك أن عبد الله قال قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن حراس عن حذيفة قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود قلت: نعم. قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته في المسند. قال قصدت في المسند المشهور فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير. ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. قال القاضي - وقد أخبر عن نفسه - كيف طريقه في المسند فمن جعله أصلاً للصحة فقد خالفه وترك مقصده. قلت: قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة وإذا مر بهم والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول: ما أرى العيش غير أن تتبع النفس هواها فمخطئاً أو مصيباً. فتدبرت حال هذا وإذا به ميت النفس ليس له أنفة على عرضه ولا خوف عار. ومثل هذا ليس في مسلاخ الآدميين فإن الإنسان قد يقدم على القتل لئلا يقال جبان. ويحمل الأثقال ليقال ما قصر. ويخاف العار فيصبر على كل آفة من الفقر وهو يستر ذلك حتى لا يرى بعين ناقصة. حتى إن الجاهل إذا قيل له يا جاهل غضب. واللصوص المتهيئون للحرام إذا قال أحدهم للآخر لا تتكلم فإن أختك تفعل وتصنع أخذته الحمية فقتل الأخت. ومن له نفس لا يقف في مقام تهمة لئلا يظن به. فأما من لا يبالي أن يرى سكران ولا يهمه أن شهر بين الناس ولا يؤلمه ذكر الناس له بالسوء فذاك في عداد البهائم. وهذا الذي يريد أن يتبع النفس هواها لا يلتذ به لأنه لا يخاف عنتاً ولا لوماً ولا يكون له عرض يحذر عليه فهو بهيمة في مسلاخ إنسان. وإلا فأي عيش لمن شرب الخمر وأخذ عقيب ذلك وضرب وشاع في الناس ما قد فعل به. أما يفي ذلك باللذة لا بل يربو عليها أضعافاً. وأي عيش لمن ساكن الكسل إذا رأى أقرانه قد برزوا في العلم وهو جاهل. أو استغنوا بالتجارة وهو فقير فهل يبقى للالتذاذ بالكسل والراحة معنى. ولو تفكر الزاني في الأحدوثة عنه أو تصور أخذ الحد منه لكف الكف. غير أنه يرى لذة حاضرة كأنها لمع برق ويا شؤم ما أعقبت من طول الأسى. هذا كله في العاجل. فأما الآجل فمنغصة العذاب دائمة نسأل الله أنفة من الرذائل وهمة في طلب الفضائل إنه قريب مجيب.
قد تبغت العقوبات وقد يؤخرها الحلم. والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل. فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق أو منازعة له في عظمته فتلك التي لا تتلافى. خصوصاً إن وقعت من عارف بالله فإنه يندر إهماله. قال عبد المجيد بن عبد العزيز: كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفاً في ثلاثة أيام فلقيه رجل فقال: في كم كتبت هذا. فأومأ بالسبابة والوسطى والإبهام وقال: في ثلاث وخطر لبعض الفصحاء أن يقدر أن يقول مثل القرآن فصعد إلى غرفة فانفرد فيها وقال: أمهلوني ثلاثاً فصعدوا إليه بعد الثلاث ويده قد يبست على القلم وهو ميت. قال عبد الحميد: ورأيت رجلاً كان يأتي امرأته حائضاً فحاض فلما كثر الأمر به تاب فانقطع عنه. ويلحق هذا أن يعير الإنسان شخصاً بفعل وأعظمه أن يعيره بما ليس إليه فيقول يا أعمى ويا قبيح الخلقة. وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً بالفقر فحبست على دين وقد تتأخر العقوبة وتأتي في آخر العمر. فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب. فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت وإلا اجتمعت وجاءت. فصل فضل التعفف اعلم أن الآدمي قد خلق لأمر عظيم. . . وهو مطالب بمعرفة خالقه بالدليل ولا يكفيه التقليد. وذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه. وهو مطالب بإقامة المفروضات واجتناب المحارم. فإن سمت همته إلى طلب العلم احتاج إلى زيادة جمع الهم. فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية لا من منن الناس وصدقاتهم وقد قنع به. وأما إذا لم يكن له قوت يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت ويصير طالباً للتحليل في جمع القوت. فيذهب العمر في تصحيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه ويفوت المقصود ببقائه وربما احتاج إلى الأنذال قال الشاعر: حسبي من الدهر ما كفاني يصون عرضي عن الهوان مخافة أن يقول قوم فضل فلان على فلان فينبغي للعاقل أن إذا رزق قوتاً أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همه ولا ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همه. والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته وقلل الغلو ليجمع بين همه وضرورته. وليقنع بالقليل فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت لأن التشتت في الأول للعدم وهذا التشتت يكون للحرص على الفضول فيذهب العمر على البارد: ومن ينفق الأيام في حفظ ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر فافهم هذا يا صاحب الهمة في طلب الفضائل فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان شتتوا قلبك وطبعك طفل. ففرغ همك من استعانته. واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك وصان عرضك عن الخلق. وإياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض لغيرك. وفي الحديث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عليه آثار الفقر فعرض به فأعطى شيئاً. فجاء فقير آخر فأثره الأول ببعض ما أعطى فرماه النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عن مثل ذلك. ولما آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا والصلات اجتمع همه. وحسن ذكره. ولما أطمعها ابن المديني وغيره سقط ذكره. ثم فيمن! إنما هو سلطان جائز أو مزك منان أو صديق مدل بما يعطي. والعز ألذ من كل لذة والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل.
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس فما أحد إلا وهو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره. فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه فينبغي أن يتجلد بستر تلك النكبة لئلا يرى بعين نقص. وليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الرحمة وليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو العافية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قدومه مكة وقد أخذتهم الحمى فخاف أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي فقال: رحم الله من أظهر من نفسه الجلد فيرملوا - والرمل شدة السعي -. واستأذنوا على معاوية وهو في الموت فقال لأهله أجلسوني فقعد متمكناً يظهر العافية فلما خرج العواد أنشد: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء وإنها لأشد من كل نائبة. وكان فقيرهم يظهر الغنى ومريضهم يظهر العافية. بلى ثم نكتة ينبغي التفطن لها ربما أظهر الإنسان كثرة المال وسبوغ النعم فأصابه عدوه بالعين فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة. والعين لا تصيب إلا ما يستحسن ولا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى يكون من حاسد ولا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع. فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين فليكن الإنسان مظهراً للتجمل مقدار ما يأمن إصابة العين ويعلم أنه في خير. وليحذر الإفراط في إظهار النعم فإن العين هناك محذورة. وإنما خاف عليهم العين فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر.
إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته ومحادثته ورؤيته في البقاء الدائم. وإنما ابتدىء كوننا في الدنيا لأنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط والأدب ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب. فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في الكتب ويخرج وما فهم شيئاً. وهذا مثال من لا يعلم وجوده ولا نال المراد من كونه. ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه وقلة فهمه وعدم تعلمه أذى الصبيان فهو يؤذيهم. ويسرق مطاعمهم ويستغيثون من يده فلا هو صلح ولا فهم ولا كف عن الشر. وهذا مثل أهل الشر والمؤذيين. ومن الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الاستخراج رديء الكتابة فخرج ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته. وهذا مثل من فهم بعض الشيء وفاتته الفضائل التامة. ومنهم من جود الخط ولم يتعلم الحساب وأتقن الآداب حفظاً غير أنه قاصر في أدب النفس فهذا يصلح أن يكون كاتباً للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه من الشره وقلة التأدب. ومنهم من سمت همته إلى المعالي الكاملة فهو مقدم الصبيان في المكتب ونائب عن معلمهم ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه وأدب باطنه وكمال صناعة الآداب الظاهرة. ولا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعلم وتحصيل كل فضيل لعلمه أن المكتب لا يراد لنفسه بل لأخذ الأدب منه والرحلة إلى حالة الرجولية والتصوف فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة. فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق الأقران يوم التجاريب ويعرض لوح عمله جيد الخط فيقول بلسان حاله وكذلك الدنيا وأهلها. من الناس هالك بعيد عن الحق وهم الكفار. ومنهم خاطىء مع قليل من الإيمان فهو معاقب والمصير إلى خير. ومنهم سليم لكنه قاصر. ومنهم تام لكنه بالإضافة إلى من دونه وهو ناقص بإضافة إلى من فوقه. فالبدار البدار يا أرباب الفهوم فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة وسفر إلى المستقر والقرب من السلطان ومجاورته فتهيئوا للمجالسة واستعدوا للمخاطبة وبالغوا في استعمال الأدب لتصلحوا للقرب من الحضرة. ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق. فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا. ومنازلهم على قدرهم فما منزل النفاط كمنزل الحاجب ولا منزل الحاجب كمكان الوزير. جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما والفردوس الأعلى لآخرين. والذين في أرض الجنة ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري. فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين. وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق. وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن استدراكه. وليخف من عيب يبقى قبح ذكره. هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن أزرى بهم اتباع الهوى ثم لحقتهم العافية فنجوا بعد لأي فليتعظ وليصبر عن المشتهى فالأيام قلائل. يدخل فقراء المؤمنين قبل الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام فالجد الجد بإقدام المبادرة. فقد لاح العلم خصوصاً لمن بانت له بانة الوادي إما بالعلم الدال على الطريق وإما بالشيب الذي هو علم الرحيل وهو ما يأمله أهل الجد. وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه فيقال له في هذا الوقت! فيقول أبادر طي صحيفتي. وبعد هذا فالمراد موفق والمطلوب معان. وإذا أدرك لأمر هيأك له. فصل اختلاف المعادن والمراتب تأملت حالة عجيبة وهو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالإضافة إلى من فوقهم وهم يعلمون فضل أولئك. فلو تفكروا فيما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات غير أن ذلك لا يكون لأن ذلك لا يقع لهم لطيب منازلهم ولا يقع في الجنة غم. ويرضى كل بما أعطى من وجهين أحدهما أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه وإن علت منزلة غيره والثاني أنه يحبب إليه كما ولده المستوحش الخلقة فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن. إلا أن تحت هذا معنى لطيفاً وهو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب فمنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام. ومنهم من يسمع يسيراً من الحديث. ومنهم من يعرف قليلاً من الفقه ومنهم من قد رضي من كل شيء بيسيره ومنهم مقتصر على الفرائض: ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليلة ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل ونبت عن النقص فاستخدمت البدن كما قال الشاعر: ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع سمر ولا يسهل عليه السهر في سماع القرآن. والإنسان يحشر ومعه تلك الهمة فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا فكما لم تتق إلى الكمال وقنعت بالدون قنعت في الآخرة بمثل ذلك. ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل ولا يطمع من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفاً. فإن قال قائل فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها!. قلت: إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته. وهل رأيت عامياً يحزن على فوات الفقه حزناً يقلقه! هيهات. فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه. فافهم ما قلته وبادر فهذا ميدان السباق.
تفكرت في إبقاء اليهود والنصارى بيننا وأخذ الجزية منهم فرأيت في ذلك حكماً عجيبة. منها ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفاً فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم. ومنها ظهور عزه بذلهم إلى غير ذلك مما قد قيل. ووقع لي فيه معنى عجيب. وهو أن وجودهم وتعبدهم وحفظهم شرع نبيهم صلى الله عليه وسلم دليل على أنه قد كان أنبياء وشرائع وأن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل فقد اجتمعت الجن وهم على إثبات صانع وإقرار برسل فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن. ثم هم يصبرون على باطلهم ويؤدون الجزية فكيف لا نصبر على حق والدولة لنا. وفي بقائهم احترام لما كان صحيحاً من الدين وليرجع متبصر وليستعمل مفكر.
فمنهم من أذهب عمره في القراءات وذاك تفريط في العلم لأنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ. وما أقبح القارىء يسأل عن مسألة الفقه وهو لا يدري. وليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات. ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب ومنهم من يتشاغل باللغة فحسب ومنهم من يكتب الحديث ويكثر ولا ينظر في فهم ما كتب. وقد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري ما يقول. وكذلك القراء وكذلك أهل اللغة والنحو. وحدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه قال حدثني ابن المنصوري قال حضرنا مع أبي محمد بن الخشاب وكان إمام الناس في النحو واللغة فتذاكروا الفقه فقال: سلوني عما شئتم فقال له رجل: إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما هو فماذا نقول فقال: هو ركن! فدهشت الجماعة من قلة فقهه. وإنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً ثم يهتم بالفقه. ثم ينظر في مقصود العلوم وهو المعاملة لله سبحانه والمعرفة به والحب له. وما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم وإنما ينبغي أن يعرف من ذلك اليسير والمنازل لعلم الأوقات فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء والحكم فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة وقد جرب فبان جهل مدعيه. وقد تقع الإصابة في وقت. وعلى تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا التعجيل الغم. فإن قال قائل: يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له. وأبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء فإنه هذيان فارغ. وإذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً. فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود. هذا إذا صح له مراده. وينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال. وليجتهد في مجالسة العلماء والنظر في الأقوال المختلفة وتحصيل الكتب فلا يخلو كتاب من فائدة. وليجعل همته للحفظ ولا ينظر ولا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ. وليحذر صحبة السلطان ولينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وليجتهد في رياضة نفسه والعمل بعلمه ومن تولاه الحق وفقه. طال تعجبي من أقوام لهم أنفة وعندهم كبر زائد في الحد. خصوصاً العرب الذين من كلمة ينفرون ويحاربون ويرضون بالقل والذل حتى أن قوماً منهم أدركوا الإسلام فقالوا: كيف نركع ونسجد فتعلونا أستاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. ومع هذه الأنفة يذلون لمن هم خير منه هذا يعبد حجراً وهذا يعبد خشبة. وقد كان قوم يعبدون الخيل والبقر وإن هؤلاء لأخس من إبليس فإن إبليس أنف لادعائه الكمال أن يسجد لناقص فقال: فالعجب ذل هؤلاء المفتخرين المتعجبين المتكبرين لحجر أو خشبة. وإنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين. وقد أشير إلى هذا في ذم الأصنام في قوله تعالى: والمعنى أن لكم هذه الآلات المدركة وهم ليس لهم شيء منها فكيف يعبد الكامل الناقص. غير أن هوى القوم في متابعة الأسلاف واستحلاء ما اخترعوه بآرائهم غطى على العقول فلم تتأمل حقائق الأمور. ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق وقد عرفوه. فأمية بن أبي الصلت يقر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقصده ليؤمن به ثم يعود فيقول: لا أؤمن برسول ليس من ثقيف. وأبو جهل يقول والله ما كذب محمد قط ولكن إذا كانت السدانة والحجابة في بني هاشم ثم النبوة فما بقي لنا. وأبو طالب يرى المعجزات ويقول: إني لأعلم أنك على الحق ولولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك. فنعوذ بالله من ظلمة حسد وغيابة كبر وحماقة هوى يغطي على نور العقل. ونسأله إلهام الرشد والعمل بمقتضى الحق.
قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا الله عز وجل على طريق السلامة والمحبة واللطف فعاملهم كذلك لأنهم لا يحتمل طبعهم غير ذلك. ففي الأوائل برخ العابد خرج يستسقي فقال: - مناجياً الله - ما هذا الذي لا نعرفه منك. اسقنا الساعة فسقوا. وفي الصحابة أنس بن النضر يقول: والله لا تكسر سن الربيع فجرى الأمر كما قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره. وهؤلاء قوم غلب عليهم ملاحظة اللطف والرفق فلطف بهم وأجروا على ما اعتقدوا. وهناك أعلى من هؤلاء يسألون فلا يجابون وهم بالمنع راضون. ليس لأحدهم انبساط بل قد قيدهم الخوف ونكس رؤوسهم الحذر ولم يروا ألسنتهم أهلاً للانبساط فغاية آمالهم العفو. فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الإجابة عاد على نفسه بالتوبيخ فقال: مثلك لا يجاب وربما قال لعل المصلحة في منعي. وهؤلاء الرجال حقاً والأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب فإن لم يجب تذمر في باطنه كأنه يطلب أجرة عمله وكأنه قد نفع الخالق بعبادته. وإنما التعبد حقاً من يرضى ما يفعله الخالق فإن سأل فأجيب رأى ذلك فضلاً. وإن منع رأى تصرف مالك فلم يجل في قلبه اعتراض بحال.
رأيت جماعة من العلماء يتفسحون ويظنون أن العلم يدفع عنهم وما يدرون أن العلم خصمهم وأنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب. وذاك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق والعالم لم يتأدب معه. ورأيت بعض القوم يقول: أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت. ثم كان يتفسح في أشياء لا تجوز. فتفكرت فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق والنظر في سير القدماء والتأدب بآداب القوم ومعرفة الحق وما يجب له ليس عند القوم. وإنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل وما يحرم وليس كذلك العلم النافع. إنما العلم فهم الأصول ومعرفة المعبود وعظمته وما يستحقه والنظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتأدب بآدابهم وفهم ما نقل عنهم هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال. ورأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر فبلغني أنه قال: قد عبدته عبادة ما عبده بها أحد والآن قد ضعفت. فقلت: ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سبباً لرد الكل. لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئا وإنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات ففي حق نفسه وما مثله إلا كمثل من وقف يكدي فلا ينبغي أن يمن على المعطي. وإنما سبب هذا الانبساط الجهل بالحقائق وأين هو من كبار علماء المعاملة الذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم إذا رآه السبع هرب منه وهو يقول إذا انقضى الليل عند صلاته: يا رب أجرني من النار. أو مثلي يسأل الجنة!. وأبلغ من ذا قول عمر: وددت أن أنجو كفافاً لا لي ولا علي. وقول سفيان عند موته لحماد بن سلمة: أترجو لمثلي أن ينجو من النار. وقول أحمد: لا بعد. فأنا أحمد الله عز وجل إذ تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلاء الذين ذممتهم. وبالزهد من هؤلاء الذين عبتهم فإني قد اطلعت من عظمة الخالق وسير المحققين على ما يخرس لسان الانبساط. ويمحو النظر إلى كل فعل. وكيف أنظر إلى فعلي المستحسن وهو الذي وهبه لي وأطلعني على ما خفي عن غيري. فهل حصل ذلك بي أو بلطفه وكيف أشكر توفيقي الشكر!. ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء لا يحتقر نفسه. هذا في صورة العلم. فدع معناه. وأي عابد يسمع بالعباد ولا يجري فيي صورة التعبد فدع المعنى. ونرغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسان أن تنطق بالإدلال ونرجو من فضله توفيقاً نلاحظ به آفات الأعمال التي بها نزهو حتى تثمر الملاحظة لعيوبها الخجل من وجودها إنه قريب مجيب.
سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة: وليس في الدنيا طيب عيش على الدوام إلا للعارف الذي شغله رضى حبيبه والتزود للرحيل إليه. فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الآخرة. وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة فهو راض بكل ما يجري عليه يرى ذلك من قضاء الخالق ويعلم أنه مراده كما قال قائلهم: إن كان رضاكم في سهري فسلام اللّه على وسني فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوت مراده ويتنغص لبعد ما يشتهي. فلو افتقر تغير قلبه ولو ذلك تغير وهذا لأنه قائم مع غرضه وهواه. وما أحسن قول الحصري: إيش علي مني وإيش لي فيّ. فاعتراضه لا وجه له وإرادته أن يقع غير ما يجب فضول في البين وإن نظر. أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه. والله لو قال المالك سبحانه: إنما خلقتكم ليستدل على وجودي ثم أنا أفنيكم ولا إعادة لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعاً لما قلت وطاعة. وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم. فكيف وقد وعد بالأجر الجزيل والخلود في النعيم الذي لا ينفد. لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة وما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا لاح الحرم. فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين لاح المنزل. والسرور السرور يا متوسطين ضربت الخيم. والفرح الكامل يا عارفين قد تلقيتم بالبشائر. زالت والله أثقال المعاملات عنكم فكانت معرفتكم بالمبتلى حلاوة تعقبت شربة المجاهدة فلم يبق في الفم للمر أثر. تخايلوا قرب المناجاة ولذة الحضور ودوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس الدنيا في ما بيننا له إِلاَّ تصر - م هذه السبع البواقي حتى يطول حديثنا بصنوف ما كنا نلاقي فصل حكمة المنع تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه لك فإنه لم يمنعك بخلاً إنما منعك لطفاً. فرأيته كلام من قد عرف الحقائق. فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر وعجزه أصلح له لأنه لو قدر عليهن تشتت قلبه إما بحفظهن أو بالكسب عليهن. فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره وانقلب هم الآخرة إلا اهتمام بهن. فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر. وإن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه. وإن أردن الوطء وهو عاجز فربما أهلكنه أو فجرن. وإن مات معشوقه هلك هو أسفاً. فالذي يطلب الفائق يطلب سكيناً لذبحه وما يعلم. وكذلك إنفاذ قدر القوت فإنه نعمة وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً. ومتى كثر تشتت الهمم فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم فقنع بدفع الوقت على كل حال.
رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار فيقول قائلهم: إن وفقت فعلت وهذا تعلل بارد ودفع للأمر بالراح. وهو يشير إلى رد أقوال الأنبياء والشرائع جميعها. فإن لو قال كافر للرسول: إن وفقني أسلمت. لم يجبه إلا بضرب العنق. وهذا جنس قول الناس لعلي رضي الله عنه: ندعوك إلى كتاب الله فقال: كلمة حق أريد بها باطل. وكذلك قول الممتنعين عن الصدقة " أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه ". ولعمري إن التوفيق أصل الفعل ولكن التوفيق أمر خفي. والخطاب بالفعل أمر جلي. ومما يقطع هذا الاحتجاج أن يقال لهذا القائل: إن الله سبحانه لم يكلفك شيئاً إلا وعندك أدوات ذلك الفعل ولك قدرة عليه. فإن كانت القدرة عليه معدومة والأدوات غير محصلة فلا أمر ولا تكليف. وإن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك وهواك فاسع بها في إقامة مفروضك. مثال ذلك: أنك تسافر في طلب الربح وتسأل الحج فلا تفعل ويثقل عليك الانتباه بالليل. فلو أردت الخروج إلى العيد انتبهت سحراً. وتقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثه ساعات فإذا وقفت في الصلاة استعجلت وثقل عليك. فإياك إياك أن تتعلق بأمر لا حجة لك فيه. ثم من نصيبك ينقص ومن حظك يضيع فإنما تحرك لك وإنما تحرض لنفعك. فبادر فإنك مبادر بك. ومما يزيل كسلك - إن تأملته - أن تتخايل ثواب المجتهدين وقد فاتك. ويكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس. فأما الميت الهمة. فما لجرح بميت إيلام. كيف بك إذا قمت من قبرك وقد قربت نجائب النجاة لأقوام وتعثرت وأسرعت أقدام الصالحين على الصراط وتخبطت. هيهات ذهبت حلاوة البطالة وبقيت مرارة الأسف ونضب ماء كأس الكسل وبقي رسول الندامة!. وما قدر البقاء في الدنيا بالإضافة إلى دوام الآخرة. ثم ما قدر عمرك في الدنيا ونصفه نوم وباقيه غفلة. فيا خاطباً حور الجنة وهو لا يملك فلساً من عزيمة افتح عين الفكر في ضوء العبر لعلك تبصر مواقع خطابك. فإن رأيت تثبيطاً من الباطن فاستغث بعون اللطف وتنبه في الأسحار لعلك تتلمح ركب الأرباح وتعلق على قطار المستغفرين ولو خطوات وانزل في رباع المجتهدين ولو منزلاً أي منزل.
نظرت في قول أبي الدرداء رضي الله عنه: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه اليوم إلا القبلة فقلت واعجباً كيف لو رآنا اليوم وما معنا من الشريعة إلا الرسم. الشريعة هي الطريق. وإنما تعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأفعاله أو أقواله. وسبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه وسلم إما الجهل بها أو الخروج عليها فيجري الإنسان مع الطبع والعادات وربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقاً وقد كانت الصحابة شاهدته وسمعت منه فقل أن ينحرف أحد منهم عن جادته إلا أبا الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الانحراف لميل الطباع فضج فإنه قد يعرف الإنسان الصواب غير أن طبعه يميل عنه. وما زالت الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يقل الإسعاد بها والنظر فيها إلى أن أعرض عنها بالكلية في زماننا هذا وجهلت إلا النادر واتخذت طرائق تضاد الشريعة. وصارت عادات وكانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة. وإذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعرض عن علوم الشريعة فكيف العوام. ولما أعرض كثير من العلماء عن المنقولات ابتدعوا في الأصول والفروع. فالأصوليون تشاغلوا بالكلام وأخذوه من الفلاسفة وعلماء المنطق. ودخلت أيدي الفروعيين في ذلك فتشاغلوا بالجدل وتركوا الحديث الذي يدور عليه الحكم. ثم رأى القصاص أن النفاق بالنفاق فأقبل قوم منهم على التلبيس بالزهد ومقصودهم الدنيا. ورأى جمهورهم أن القلوب تميل إلى الأغاني فأحضروا المطربين من القراء وأنشدوا أشعار الغزل وتركوا الاشتغال بالحديث ولم يلتفتوا إلى نهي العوام عن الربا والزنا وأمرهم بأداء وصار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى والمجنون والطور وموسى وأبي يزيد والحلاج والهذيان الذي لا محصول له. وانفرد أقوام بالتزهد والانقطاع فامتنعوا عن عيادة المرضى والمشي بين الناس وأظهروا التخاشع ووضعوا كتباً للرياضات والتقلل من الطعام. وصارت الشريعة عندهم كلام أبي يزيد والشبلي والمتصوفة. ومعلوم أن من سبر الشريعة لم ير فيها من ذاك شيئاً. وأما الأمراء فجروا مع العادات وسموا ما يفعلونه من التنطع سياسات لم يعملوا فيها بمقتضى الشريعة وتبع الأخير في ذلك المتقدم. فأين الشريعة المحمدية. ومن أين تعرف مع الإعراض عن المنقولات. نسأل الله عز وجل التوفيق للقيام بالشريعة والإعانة على رد البدع إنه قادر.
كنت أسمع علياً بن الحسين الواعظ يقول على المنبر: والله لقد بكيت البارحة من يد نفسي. هذا رجل متنعم له الجواري التركيات. وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء. ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى. وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض والأفضال على الناس. وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه وراحته دائمة الندى. فما الذي يبكيه منها. فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد بل تروم من اللذات ما لا منتهى له وكلما حصل لها عرض برد عندها وطلبت سواه فيفنى العمر ويضعف البدن ويقع النقص ويرق الجاه ولا يحصل المراد. وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا وليس في الدنيا على الحقيقة لذة إنما هي راحة من مؤلم. فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه وعلم سترها ودينها أن يعقد الخنصر على صحبتها. وأكثر أسباب دوام محبتها أن لا يطلب بصره فمتى أطلق بصره أو أطمع نفسه في غيرها فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق وينقص المخالطة ولا يستر عيوب الخارج فتميل النفس إلى والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الحور موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضرّ مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر ثم تصير الثانية كالأولى وتطلب النفس ثالثة وليس لهذا آخر بل الغض عن المشتهيات ويأس النفوس من طلب المستحسنات يطيب العيش مع المعاشر. ومن لم يقبل هذا النصح تعثر في طرق الهوى وهلك على البارد وربما سعى لنفسه في الهلاك العاجل وفي العار الحاضر فإن كثيراً من المستحسنات لسن بصينات ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل. ومنهن المبذرات في المال ومنهن المبغضة للزوج وهو يحبها كعابد صنم. وأبله البله الشيخ الذي يطلب صبية. . . ولعمري إن كمال المتعة إنما يكون بالصبا كما قال القائل: فعلت بنفسي النساء الصغار ومتى لم تكن الصبية بالغة لم يكمل الاستمتاع فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع والشيخ لا يقدر. فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها وهلك سريعاً. وقد رأينا شيخنا اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتاً. وكان في المارستان شاب قد بقي شهرين بالقيام فدخلت عليه زوجته فوطئها فانقلب عنها ميتاً. فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم والمني فإذا فرغا ولم تجد ما تعتمد عليه ذهبت. وإن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء فهي لا تقنع فتصير كالعدو له. فربما غلبها الهوى ففجرت أو احتالت على قتله خصوصاً الجواري اللواتي أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك ففيهن قسوة القلب. وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء فإن اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك فليرع لها معاشرتها وليتمم نقصه عندها تارة بالإنفاق وتارة بحسن الخلق. وليزد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات وليكثر من ذكر القيامة وذم الدنيا وليعرض بذكر محبة العرب فإنهم كانوا يعشقون ولا يرون وطء المعشوق كما قال قائلهم: إنما الحب قبلة وغمز كف وعضد إنما العشق هكذا إن نكح الحب فسد فإن قدر أن يشغلها بالحمل أو ولد عرقلها به فاستبقى قوته في مدة اشتغالها بذلك. وقد قيل لبشر: لم لم تتزوج فقال: على ماذا أغر مسلمة وقد قال الله عز وجل: والمسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول ورأى حبة الفخ فبادر طالباً لها ناسياً تعرقل الجناح والذبح. ومجموع ما قد بسطته حفظ البصر عن الإطلاق ويأس النفس عن التحصيل قنوعاً بالحاصل خصوصاً من قد علت سنه وعلم أن الصبية عدو له متمنية هلاكه وهو يربيها لغيره. وفي بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الآفات نسأل الله عز وجل توفيقاً من فضله وعملاً بمقتضى العقل والشرع إنه مجيب قريب.
أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة وتأميله الإصلاح فيما بعد وليس لهذا الأمل منتهى ولا للاغترار حد. فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل. وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين فتعلم أنك بعد أيام حاشا من له عقل أن يسلك هذا المسلك. بلى والله إن العاقل ليبادر السلامة فيدخر من زمنها للزمن ويتزود عند القدرة على الزاد لوقت العسرة. خصوصاً لمن قد علم أن مراتب الآخرة إنما تعلو بمقدار علو العلم لها وأن التدارك بعد الفوت لا يمكن. وقدر أن العاصي عفى عنه أينال مراتب العمال. ومن أجال على خاطره ذكر الجنة التي لا موت فيها ولا مرض ولا نوم ولا غم بل لذاتها متصلة من غير انقطاع وزيادتها على قدر زيادة الجد ههنا انتهب هذا الزمان فلم ينم إلا ضرورة ولم يغفل عن عمارة لحظة. ومن رأى أن ذنباً قد مضت لذته وبقيت آفاته دائمة كفاه ذلك زاجراً عن مثله خصوصاً الذنوب التي تتصل آثارها مثل أن يزني بذات زوج فتحمل منه فتلحق بالزوج فيمنع الميراث أهله ويأخذه من ليس من أهله وتتغير الأنساب والفرش ويتصل ذلك أبداً وكله شؤم لحظة. فنسأل الله عز وجل توفيقاً يلهم الرشاد ويمنع الفساد إنه قريب مجيب. تأملت سبب تخليط العقائد فإذا هو الميل إلى الحس وقياس الغائبات على الحاضر. فإن أقواماً غلب عليهم الحس فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده ونسوا أنه قد ظهر بأفعاله. وأن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل. فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد وفيها غرس وبناء علم أنه لا بد من غارس إذ الغرس لا يكون بنفسه ولا البناء. ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع ثم قاسوه على أحواله فشبهوا حتى إن قائلهم يقول: في قوله: ينزل إلى السماء ينتقل ويستدل بأن العرب لا تعرف النزول إلا الانتقال. وضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق كثير في ذاته. فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب ويرضى. ونسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء. وضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن نسبوا فعله إلى ضد الحكمة تعالى عن ذلك. ومن رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول: إعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات وصفاته ليست كالصفات وأفعاله لا تقاس بأفعال الخلق. أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتاً إلا أن تكون جسماً وذاك يستدعي سابقة تأليف وهو منزه عن ذلك لأنه المؤلف وإما أن يكون جوهراً فالجوهر متحيز وله أمثال وقد جل عن ذلك أو عرضاً فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره وقد تعالى عن ذلك. فإذا أثبتنا ذاتاً قديمة خارجة عما يعرف فليعلم أن الصفات تابعة لتلك الذات فلا يجوز لنا أن نقيس شيئاً منها على ما نفعله ونفهمه بل نؤمن به ونسلمه. وكذلك أفعاله فإن أحدنا لو فعل فعلاً يجتلب به نفعاً ولا يدفع عنه ضراً عد عابثاً. وهو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه ولا لرفع ضر إذ المنافع لا تصل إليه والمضار لا تتطرق عليه. فإن قال قائل: إنما خلق الخلق لينفعهم: قلنا: يبطله إنه خلق منهم للكفر وعذبهم. ونراه يؤلم الحيوان والأطفال ويخلق المضار وهو قادر أن لا يفعل ذلك. فإن قال قائل: إنه يثيب على ذلك. قلنا: وهو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيراً فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك لأنه قادر أن يغنيه بلا جراح. ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من الجوع والقتل مع قدرة الناصر ثم يسأل أمه فلا يجاب ولو كان المسؤول بعضنا قلنا لم تمنع ما لا يضرك. والذي يوجب علينا التسليم أن حكمته فوق العقل فهي تقضي على العقول والعقول لا تقضي عليها. ومن قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن. فإنهم قالوا: كيف يأمر بشيء ويقضي بامتناعه ولو أن إنساناً إلى داره ثم أقام من يصد الداخل لعيب. ولقد صدقوا فيما يتعلق بالشاهد. فأما من أفعاله لا تعلل ولا يقاس يشاهد فإنا لا نصل إلى معرفة حكمته. فإن قال قائل: فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه. قلنا: لا منافاة لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم وأنه مالك والحكيم لا يفعل شيئاً إلا الحكمة غير أن الحكمة لا يبلغها العقل. ألا ترى أن الخضر خرق سفينة وقتل شخصاً فأنكر عليه موسى عليهما السلام بحكم العلم ولم يطلع على حكمة فعله فلما أظهر له الحكمة أذعن ولله المثل الأعلى. فإياك إياك أن تقيس شيئاً من أفعاله على أفعال الخلق أو شيئاً من صفاته أو ذاته سبحانه وتعالى فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الاستواء اعتماداً وأول القوم إبليس فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة فنسي أنه إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له والعقد الذي منحه فنسي أن الواهب أعلم ولقد رأيت لابن الرومي اعتراضاً على من يقول بتخليد الكفار في النار. قال: إن ذلك التأبيد مزيد من الانتقام ينكره العقل وينبغي كل ما يقوله العقل ولا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل وتخليد الكفار لا غرض فيه للمعذب ولا للمعذب فلا يجوز أن يكون. فقلت العجب من هذا الذي يدعي وجود العقل ولا عقل عنده. وأول ما أقول له: أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار أم لم يصح. فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة وصحة القرآن فما وجه ذكر الفرع مع جحد الأصل. وإن قال قد ثبت عندي فواجب عليه أن يتمحل لإقامة العذر إلا أن يقف في وجه المعارضة. وإنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد وقد بينا أن ذات الحق كالذوات وأن صفته لا كالصفات وأن أفعاله لا تعلل. ولو تلمح شيئاً من التعليل لخلود الكفار لبان إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم لإظهار صدق الوعيد. فإنه قال: من كفر بي خلدته في العذاب ولا جناية كالكفر ولا عقوبة كدوام الإحراق فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد. ومن الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار. وقد قال سبحانه وكم من قلق في صدر وحنق على أبي جهل فيما فعل وكم من غم في قلب عمار وأمه سمية وغيرهم من أفعال الكفار بهم فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل الإيمان. ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض وذكر المعذب بما لا يحسن فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم واعتراضهم فيهم يعذبون لذلك. ودليل كفرهم
ينبغي للمؤمن بالله سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا أن لا يعترض على الله فإن المتكلمين أعرضوا عن السنن وتكلموا بآرائهم فما صفى لهم شرب بدليل اختلافهم. وكذلك إضمار القياس فإنهم لما أعلموه جاءت أحاديث تعكر عليهم. والصواب التعليل لما يمكن والتسليم لما يخفى. وكذلك سؤال الحق سبحانه فإذا دعاه المؤمن ولم ير إجابة سلم وفوض وتأول للمنع. فيقول: ربما يكون المنع أصلح وربما يكون لأجل ذنوبي وربما يكون التأخير أولى وربما لم يكن هذا مصلحة. وإذا لم يجد تأويلاً لم يختلج في باطنه نوع اعتراض بل يرى أنه قد تعبد بالدعاء فإن أنعم عليه فبفضل وإن لم يجب فما لك يفعل ما يشاء. على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أعراض الدنيا التي إذا ردت كان أصلح. فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق والرضى بتدبيره وإن أساء. فمتى أقبلت عليه أقبل على إصلاح شأنك. وإذا عرفت أنه كريم فلذ به ولا تسأل. ومتى أقبلت على طاعاته فمحال أن يجود صانع وينصح في العمل ثم لا يعطى الأجرة. والله إني لأتخايل دخول الجنة ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص في نعيم متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى. فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه. ومعلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الاجتهاد ههنا. فواعجبا من مضيع لحظة يقع فيها. فتسبيحة تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم وظلها. فيا أيها الخائف من فوت ذلك شجع قلبك بالرجاء. ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية. فإنه من ساعة خروج الروح لا بل قبل خروجها تنكشف المنازل لأصحابها. فيهون سير المجذوب للذة المنتقل إليه. ثم الأرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة. فكل الآفات والمخافات في نهار الأجل وقد اصفرت شمس العمر. فالبدار البدار قبل الغروب ولا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل فتذاكر العواقب فإذا فرغ ذلك المجلس فالنظر في سير المجدين فإنه يعود مستجلباً للفكر منها شتى الفضائل ومتى أرادك لشيء هيأك له. فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا من العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض الفهم وعلل العقل. والعزلة عن الشر حمية والحمية سبب العافية.
|