الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **
تفكرت في سبب هداية من يهتدي وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص كما قيل إذا أرادك لأمر هيأك له. فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل فيتلمح الإنسان وجود نفسه فيعلم أن لها صانعاً وقد طالبه بحقه وشكر نعمته وخوفه عقاب مخالفته ولا يكون ذلك بسبب ظاهر. ومن هذا ما جرى لأهل الكهف: وفي التفسير: أن كل واحد منهم ألفى في قلبه يقظة فقال: لا بد لهذا الخلق من خالق فاشتدوا كرب بواطنهم من وقود نار الحذر فخرجوا إلى الصحراء فاجتمعوا عن غير موعد. فكل واحد يسأل الآخر: ما الذي أخرجك. . . . فتصادقوا. ومن الناس من يجعل الخالق سبحانه وتعالى لذلك السبب الذي هو الفكر والنظر سبباً ظاهراً إما من موعظة يسمعها أو يراها فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة ثم ينقسم المتيقظون فمنهم من يغلبه هواه ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده فيعود القهقرى ومنهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين: المقل الأمر بالتقوى والهوى المتقاضي بالشهوات. فمنهم من يغلب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر ويختم له به. ومنهم من يغلب تارة ويغلب أخرى فجراحاته لا في مقتل. ومنهم من يقهر عدوه فيسجنه في حبس فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوساوس. ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا ومذ سلكوا ما وقفوا. فهمهم صعود وترق. كلما عبروا مقاماً إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا. ومنهم من يرقى عن الاحتياج إلى مجاهدة إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده ولا وقع له. وإما لشرف مطلوبه فلا يلتفت إلى عائق عنه. واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام وإنما يقطع بالقلوب. والشهوات العاجلة قطاع الطريق والسبيل كالليل المدلهم. غير أن عين الموفق بصر فرس لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء. والصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة وإنما يتعثر من لم يخلص.
عجبت لمن يعجب بصورته ويختال في مشيته وينسى مبدأ أمره. إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء فإن شئت فقل كسيرة خبز معها تمرات وقطعة من لحم ومذقة من لبن وجرعة من ماء ونحو ذلك طبخته الكبد فأخرجت منه قطرات مني فاستقر في الأنثيين فحركتها الشهوة فصبت في بطن الأم مدة حتى تكاملت صورتها فخرجت طفلاً تتقلب في خرق البول. وأما آخره فإنه يلقى في التراب فيأكله الدود ويصير رفاتاً تسفيه السوافي. وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر ويقلب في أحوال إلى أن يعود فيجمع. هذا خبر البدن. إنما الروح التي عليها العمل فإن تجوهرت بالأدب وتقومت بالعلم وعرفت الصانع وقامت بحقه فما يضرها نقض المركب. وإن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين بل صارت إلى أخس حالة منه.
هيهات أن يجتمع الهم مع التلبيس بأمور الدنيا خصوصاً بالشاب الفقير الذي قد ألف الفقر. فإنه إذا تزوج وليس له شيء من الدنيا اهتم بالكسب أو بالطلب من الناس فتشتت همته وجاءه الأولاد فزاد الأمر عليه. ولا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام. ومن يفكر فهمته ما يأكل وما يأكل أهله وما ترضى به الزوجة من النفقة والكسوة وليس له ذلك فأي قلب يحضر له وأي هم يجتمع هيهات. والله لا يجتمع الهم والعين تنظر إلى الناس والسمع يسمع حديثهم واللسان يخاطبهم والقلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه. فإن قال قائل: فكيف أصنع قلت: إن وجدت ما يكفيك من الدنيا أو معيشة ما تكفيك فاقنع بها وانفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت وإن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسر وتصبر أنت على صورتها وفقرها ولا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته. فإن رزقت امرأة صالحة جمعت همك فذاك وإن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة. وإياك والمستحسنات فإن صاحبهن إذا سلم كعابد صنم وإذا حصل بيدك شيء فانفق بعضه فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك. واحذر كل الحذر من هذا الزمان وأهله فما بقي مواس ولا مؤثر ولا من يهتم لسد خلة ولا من لو سئل أعطى إلا أن يعطي نذراً بتضجر. ومنة يستعبده بها المعطي بقية العمر ويستثقله كل ما رآه أو يستدعي بها خدمته له والتردد إليه. وإنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوماً على المنبر علي ألف دينار وقد ضاق صدري. فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار وقال اقض دينك. فلما عاد وصعد المنبر قال نشكر الله لأبي عمرو فإنه أراح قلبي وقضى ديني. فقام أبو عمرو فقال: أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي وقد شق عليها ما فعلت فإن رأيت أن تتقدم برده فافعل. فلما كان في الليل عاد إليه وقال: لماذا شهرتني بين الناس. فأنا ما فعلت ذلك لأجل الخلق فخذه ولا تذكرني: ماتوا وغيب في التراب شخوصهم والنشر مسك والعظام رميم فالبعد البعد عن من همته الدنيا فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر. فاشتر العزلة بما بيعت فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق وعاد إلى منزله تغير قلبه. فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا واجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق ليخلو القلب بالتفكر في المآب وتتلمح عين البصيرة خيم الرحيل.
كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه أو مرض لبه قصد زيارة بعض الصالحين فانجلى عن نفسه ما أظلم منها. أما اليوم فمتى حصلت ذرة من الصدق لمريد فردته في بيت عزلة ووجد نسيماً من روح العافية ونوراً في باطن قلبه وكاد همه يجتمع وشتاته ينتظم فخرج فلقي من يومأ إليه بعلم أو زهد رأى عنده البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي لا ينفع. ورأى صورته منمس وأهون ما عليه تضييع الأوقات في الحديث الفارغ. فما يرجع المريد عن ذلك الوطن إلا وقد اكتسب ظلمة في القلب وشتاتاً في العزم وغفلة عن ذكر الآخرة فيعود مريض القلب. يتعب في معالجته أياماً كثيرة حتى يعود إلى ما كان فيه. وربما لم يعد لأن المريد فيه ضعف. فالأولى للمريد اليوم أن لا يزور إلا المقابر ولا يفاوض إلا الكتب التي قد حوت محاسن القوم. وليستعن بالله تعالى على التوفيق لمراضيه فإنه إن أراده هيأه لما يرضيه.
تأملت الذين يختارون الحق عز وجل لولايته والقرب منه. فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنه منهم ممن رأيناه. فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة لا عيب في صورته ولا نقص في خلقته. فتراه حسن الوجه معتدل القامة سليماً من آفة في بدنه. ثم يكون كاملاً في باطنه سخياً جواداً عاقلاً غير خب ولا خادع ولا حقود ولا حسود ولا فيه عيب من عيوب الباطن. فذاك الذي يبيه من صغره فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان كأنه في الصبا شيخ ينبو عن الرذائل ويفزع من النقائص ثم لا تزال شجر همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب فهو حريص على العلم منكمش على العمل حافظ للزمان مراع للأوقات ساع في طلب الفضائل خائف من النقائص. ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر ويمنعه من الخطأ إن هم ويستخدمه في الفضائل ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه. ثم ينقسم هؤلاء. فمنهم من تفقه على قدم الزهد والتعبد ومنهم من تفقه على العلم واتباع السنة. ويندر منهم من يجمع الله له الكل ويرقيه إلى مزاحمة الكاملين. وعلامة إثبات الكمال في العلم والعمل الإقبال بالكلية على معاملة الحق ومحبته واستيعاب الفضائل كلها وسناء الهمة في نشدان الكمال الممكن. فلو تصورت النبوة أن تكتسب لدخلت في كسبه. ومراتب هذا الاصطفاء لا يحتملها الوصف لكونه درة الوجود التي لا تكاد تنعقد في الصدف إلا في كل ودود. نسأل الله عز وجل توفيقنا لمراضيه وقربه ونعوذ به من طرده وإبعاده.
أكثر الخلائق على طبع رديء لا تقومه الرياضة. لا يدرون لماذا خلقوا ولا ما المراد منهم. يبذلون العرض دون الغرض ويؤثرون لذة ساعة وإن اجتلبت زمان مرض. يلبسون عند التجارات ثياب محتال في شعار مختال ويلبسون في المعاملات ويسترون الحال. إن كسبوا فشبهة. وإن أكلوا فشهوة. ينامون الليل وإن كانوا نياماً بالنهار. في المعنى ولا نوم إلا بهذه الصورة. فإذا أصبحوا سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير وتبصبص كلب وافتراس أسد وغارة ذئب وروغان ثعلب. ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى لا على عدم التقوى. كيف يفلح من يؤثر ما يراه بعينه على ما يبصره بعقله وما يدركه ببصره أعز عنده مما يراه ببصيرته. تالله لو فتحوا أسماعهم لسمعوا هاتف الرحيل في زمان الإقامة يصيح في عرصات الدنيا: تلمحوا تقويض خيام الأوائل. لكن غمرهم سكر الجهالة فلم يفيقوا إلا بضرب الحد. رأيت بعض المتقدمين سئل عن من يكتسب حلالاً وحراماً من السلاطين والأمراء ثم يبني المساجد والأربطة هل له فيها ثواب فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق وذكر أن له في إنفاق ما لا يملكه نوع حسنة لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيردها عليهم. فقلت: واعجبا! من المتصدين للفتوى الذين لا يعرفون أصول الشريعة. ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولاً فإن كان سلطاناً فما يخرج من بيت المال قد عرفت وجوه مصارفه فكيف يمنع مستحقه ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة ورباط. وإن كان المنفق من الأمراء ونواب السلاطين فإنه يجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال وليس له فيه إلا ما فرض من إيجاب يليق به. فإن تصرف في غير ذلك كان متصرفاً فيما ليس له ولو أذن له ما كان الإذن جائزاً. وإن كان قد أقطع ما لا يقاوم عمله كان ما يأخذه فاضلاً من أموال المسلمين لا حق له فيه. وعلى من أطلقه في ذلك إثم أيضاً. هذا وإذا كان حراماً أو غصباً فكل تصرف فيه حرام والواجب رده على من أخذ منه أو على ورثتهم. فإن لم يعرف طريق الرد كان في بيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم أو يصرف ف أنبأنا أحمد بن الحسين بن البنا قال: أخبرنا محمد بن علي الزجاجي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأسدي قال: أخبرنا علي بن الحسن قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عون الطائي قال: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا موسى بن سليمان قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اكتسب مالاً من مأثم فوصل رحماً أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعاً فقذف به في جهنم. فأما إذا كان الباني تاجراً مكتسباً للحلال فبنى مسجداً أو وقف وقفاً للمتفقهة فهذا مما يثاب عليه. ويبعد من يكتسب الحلال حتى يفضل عنه هذا المقدار أو يخرج الزكاة مستقصاة ثم يطيب قلبه بمثل هذا البناء والنفقة. إذ مثل هذا البنيان لا يجوز أن يكون من زكاة. وأين سلامة النية وخلوص المقصد. ثم إن بناء المدارس يوم مخاطرة. إذ قد انعكف أكثر المتفقهة على علم الجدل وأعرضوا عن علوم الشريعة وتركوا التردد على المساجد واقتنعوا بالمدارس والألقاب. وأما بناء الأربطة فليس بشيء أصلاً لأن جمهور المتصوفة جلوس على بساط الجهل والكسل ثم يدعي مدعيهم المحبة والقرب ويكره التشاغل بالعلم وقد تركوا سيرة سري وعادات الجنيد: واقتنعوا بأداء الفرائض. ورضوا بالمرقعات. فلا تحسن إعانتهم على بطالتهم وراحتهم ولا ثواب في ذلك.
عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد يرجو بذلك قربه من قلوبهم وينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له. فإن رضي عمله ورآه خالصاً لفت القلوب إليه وإن لم يره خالصاً أعرض بها عنه. ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له. ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك. وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة. وإن لم يطلعوا عليها. فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً لأنه غير مقبول عند الخالق ولا عند الخلق لأن قلوبهم قد ألفتت عنه فقد ضاع العمل وذهب العمر. ولقد أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال. أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا حسن بن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج للناس عمله كائناً ما كان. . فليتق الله العبد وليقصد من ينفعه قصده ولا يتشاغل بمدح من عن قليل يبتلى هو. . . وهم.
قدم علينا بعض فقهاء من بلاد الأعاجم وكان قاضياً ببلده فرأيت على دابته الذهب ومعه أتوار الفضة وأشياء كثيرة من المحرمات. فقلت: أي شيء أفاد هذا العلم بل والله قد كثرت عليه الحجج. وأكبر الأسباب قلة علم هؤلاء بسيرة السلف وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يجهلون الجملة ويتشاغلون بعلم الخلاف ويقصدون التقدم بقشور المعرفة وليس يعنيهم ويخالطون السلاطين فيحتاجون إلى التزي بزيهم وربما خطر لهم أن هذا قريب وإن لم يخطر لهم فالهوى غالب بلا صاد. وربما خطر لهم أن يقولوا: هذا يحتمل ويغفر في جانب تشاغلنا بالعلم. ثم يرون العلماء يكرمونهم لنيل شيء من دنياهم ولا ينكرون عليهم. ولقد رأيت من الذين ينتسبون إلى العلم من يستصحب المردان ويشتري المماليك وما كان يفعل هذا إلا من قد يئس من الآخرة. ورأيت من قد بلغ الثمانين من العلماء وهو على هذه الحالة. فالله الله يا من يريد حفظ دينه ويوقن بالآخرة إياك والتأويلات الفاسدة والأهواء الغالبة فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرك الأمر إلى الباقي ولم تقدر على الخروج لموضع إلف الهوى. فإقبل نصحي واقنع بالكسرة وابعد عن أرباب الدنيا فإذا ضج الهوى فدعه لهذا. وربما قال لك: فالأمر الفلاني قريب فلا تفعل فإنه لو كان قريباً يدعو إلى غيره ويصعب التلافي. فالصبر الصبر على شظف العيش والبعد عن أرباب الهوى فما يتم دين إلا بذلك. ومتى وقع الترخص حمل إلى غيره كالشاطىء إلى اللجة. وإنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس ووجه أصبح من وجه وإنما هي أيام يسيرة.
من البحث في الذات من تفكر في عظمة الله عز وجل طاش عقله لأنه يحتاج أن يثبت موجوداً لا أول لوجوده. وهذا شيء لا يعرفه الحس وإنما يقر به العقل ضرورة. وهو متحير بعد هذا الإقرار ثم يرى من أفعاله ما يدل على وجوده ثم تجري في أقداره أمور لولا ثبوت الدليل على وجوده لأوجبت الجحد. فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل وذلك شيء لا يقدر عليه سوى الخالق ويصير العصا حية ثم يعيدها عصا تلقف ما صنعوا ولا يزيد فيها شيء. فهل بعد هذا بيان. فإذا آمنت السحرة تركهم مع فرعون يصلبهم ولا يمنع والأنبياء يبتلون بالجوع والقتل وزكريا ينشر ويحيى تقتله زانية ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول كل عام من يؤويني من ينصرني . فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجود بالأدلة الظاهرة الجلية أن لا يمكن عقله من الاعتراض عليه في أفعاله ولا يطلب لها علة. إذ قد ثبت أنه مالك وحكيم فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله نسبنا ذلك العجز إلى مفهومنا. وكيف لا وقد عجز موسى عليه السلام أن يعرف حكمة خرق السفينة وقتل الغلام فلما بان له حكمة ذلك الفساد في الظاهر أقر. فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق ما جحد العقل جحد موسى يوم الخضر. فمتى رأيت العقل يقول لم فأخرسه بأن تقول له: يا عاجز أنت لا تعرف حقيقة نفسك فما لك والاعتراض على المالك. وربما قال العقل: أي فائدة في الابتلاء وهو قادر أن يثيب ولا بلاء. وأي غرض في تعذيب أهل النار وليس ثم تشف. فقل له: حكمته فوق مرتبتك فسلم لما لا تعلم فإن أول من اعترض بعقله إبليس رأى فضل النار على الطين فأعرض عن السجود. وقد رأيتنا خلقاً كثيراً وسمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة لأنهم يحكمون العقول على فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل أو أن تطلب له جواب اعتراض وقل له سلم تسلم فإنك لا تدري غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك. هذا أصل عظيم متى فات الآدمي أخرجه الاعتراض إلى الكفر.
ممن يقول: اخرج إلى المقابر فاعتبر بأهل البلى. ولو فطن علم أنه مقبرة يغنيه الاعتبار بما فيها عن غيرها. خصوصاً من قد أوغل في السن فإن شهوته ضعفت وقواه قلت والحواس كلت والنشاط فتر والشعر أبيض. فليعتبر بما فقد وليستغن عن ذكر من فقد فقد استغنى بما عنده عن التطلع إلى غيره. .
العقل فقدت لذة الدنيا فتضاءل الجسم وقوي السقم واشتد الحزن. لأن العقل كلما تلمح العواقب أعرض عن الدنيا والتفت إلى ما تلمح ولا لذة عنده بشيء من العاجل. ولهذا لا يقدر على مخالطة الخلق لأنهم كأنهم من غير جنسه كما قال الشاعر: ما في الديار أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خلٌ نجاريه فصل حقائق البعث ادعى الطبائعيون أن مادة الموجودات الماء والتراب والنار والهواء فإذا كان في القيامة أذهب الأصول ثم أعاد الله الحيوان ليعلم أنها كانت بالقدرة لا عن تأثير الكليات. أقول: من قدح في البعث فقد بالغ في القدح في الحكمة. ومن قال: الروح عرض فقد جحد البعث لأن العرض لا يبقى والأجساد تصير تراباً فإن وجد شيء فهو ابتداء خلق. كلا والله بل يعيد النفس بعينها روحاً وجسداً بدليل إعادة مذكوراتها: " قال قائلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ". وعزته إن لطفه في البداية لدليل على النهاية. حنن الوالدين وأجرى اللبن في الثدي وأنشأ الأطعمة وأطلع العقل على العواقب. أفيحسن أن يقال بعد هذا التدبير إنه يهمل العالم بعد الموت فلا يبعث أحداً!. أترى من أحب أن يعرف فأنشأ الخلق وقال: كنت كنزاً لا أعرف فأحببت أن أعرف: يؤثر أن يعدمهم فيجهل قدره. سبحان من أعمى أكثر القلوب عن معرفته.
سبحان من ظهر لخلقه حتى لم يبقى خفاء ثم خفي حتى كأنه لا ظهور. أي ظهور أجلى من هذه المصنوعات التي تنطق كلها بأن لي صانعاً صنعني ورتبني على قانون الحكمة. خصوصاً هذا الآدمي الذي أنشأه من قطرة وبناه على أعجب فطرة ورزقه الفهم والذهن واليقظة والعلم وبسط له المهاد وأجرى له الماء والريح وأنبت له الزرع ورفع له من فوقه السماء فأوقد له مصباح الشمس بالنهار وجاء بالظلمة ليسكن إلى غير ذلك مما لا يخفى. وكله ينطق بصوت فصيح يدل على خالقه. وقد تجلى الخالق سبحانه بهذه الأفعال فلا خفاء. ثم بعث الرسل فقراء من الدنيا ضعاف الأبدان فقهر بهم الجبابرة وأظهر على أيديهم من وكل ذلك ينطق بالحق وقد تجلى سبحانه بذلك لعباده. ثم يأتي موسى عليه السلام إلى البحر فينفرق فلا يبقى شك في أن الخلق فعل هذا. ويكلم عيسى عليه السلام الميت فيقوم. ويبعث طيراً أبابيل تحفظ بيته فيهلك قاصديه. وهذا أمر يطول ذكره كله يدل على تجلي الخالق سبحانه بغير خفاء. فإذا ثبت عند العقلاء ذلك من غير ارتياب ولا شك ثم جاءت أشياء كأنها تستر الظاهر مثل ما سبق من تسليط الأعداء على الأولياء. إذا ثبت التجلي بأدلة لا تحتمل التأويل علمت أن لهذا الخفاء سراً لا نعلمه يفترض على العقل فيه التسليم للحكيم. فمن سلم سلم ومن اعترض هلك.
قد يدعي أهل كل مذهب الاجتهاد في طلب الصواب وأكثرهم لا يقصد إلا الحق فترى الراهب يتعبد ويتجوع واليهودي يذل ويؤدي الجزية. وصاحب كل مذهب يبالغ فيه ويحتمل الضيم والأذى طلباً للهدى وتحصيل الأجر - في اعتقاده - ومع هذا فيقطع العقل بضلال الأكثرين. وهذا قد يشكل. وإنما كشفه أنه ينبغي أن يطلب الهدى بأسبابه ويستعمل الاجتهدا بالإبانة. فأما من فاتته الأسباب أو فقد بعض الآلات فلا يقال له مجتهد. فاليهود والنصارى بين عالم قد عرف صدق نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه يجحد إبقاء لرئاسته فهذا معاند وبين مقلد لا ينظر بعقله فهذا مهمل فهو يتعبد مع إهمال الأصل وذاك لا ينفع وبين ناظر منهم لا ينظر حق النظر فيقول: في التوراة أن ديننا لا ينسخ. ونسخ الشرائع لاختلاف الأزمنة حق ولكنه يقول النسخ بداء ولا ينظر في الفرق بينهما فينبغي أن ينظر حق النظر. ومن هذا الجنس تعبد الخوارج مع اقتناعهم بعلمهم القاصر وهو قولهم: لا حكم إلا لله ولم يفهموا أن التحكيم من حكم الله فجعلوا قتال علي رضي الله عنه وقتله مبنياً على ظنهم الفاسد. ولما نهب مسلم بن عقبة المدينة وقتل الخلق قال: إن دخلت النار بعد هذا إنني لشقي. فظن بجهله أنهم لما خالفوا بيعة يزيد يجوز استباحتهم وقتلهم. فالويل لعامي قليل العلم لا يتهم نفسه في واقعة ولا يذاكر من هو أعلم منه بل يقطع بظنه ويقدم. وهذا أصل ينبغي تأمله فقد هلك في إهماله خلق لا تحصى. وقد رأينا خلقاً من العوام إذا وقع لهم واقعة لم يقبلوا فتوى:
للنفس ذخائر في البدن منها الدم والمني وأشياء تتقوى بها. فإذا فقدت الذخائر ولم يبق منها شيء ذهبت. ومن ذخائرها التقوي بالمال والجاه وما يوجب الفرح. فهذا فقدت ذلك وكانت عزيزة ذات أنفة أحرجت. وقد يهجم عليها الخوف فلا تجد ذخيرة من الرجاء يقاومه فتذهب. ويغلب عليها الفرح فلا تجد من الحزن ما يقاومه فتذهب. فاجتهد في حفظ ذخائرها وخصوصاً الشيخ فإنه ينبغي له أن لا يفرح بإخراج الدم ولا بإخراج المني وإن وجد شبقاً إلا أن يكون الشب زائداً في الحد فيخرج المؤذي في كل حين. وليحفظ ذو الأنفة على نفسه حشمته بأن لا يقف في موقف يعاب به فإنه يتمتع بذخيرة العز والأنفة ويضاد النفس وجود غير ذلك. وكذلك ينبغي أن يستعد لآخر عمره بالمال مخافة أن يحتاج فيذل أو يسعى وقد كلت الآلة. ولأن يخلف لعدوه أولى من أن يحتاج إلى صديقه. ولا يلتفت إلى من يذم المال فإنهم الحمقى الجهال الذين اتكلوا على خبز الراحة فاستطابوا الكسل والدعة ولم يأنفوا من تناول الصدقة ولا من التعرض للسؤال. وقد كان لكل نبي معاش ولجميع الصحابة. وخلفوا أموالاً كثيرة فافهم هذا الأصل ولا تلتفت إلى كلام الجهال.
رأيت في زهاد زماننا من الكبر وحفظ الناموس ورتبة الجاه في قلوب العامة ما كدت أقطع به أنهم أهل رياء ونفاق. فترى أحدهم يلبس الثوب الذي يرى بعين الزهد ويأكل أطايب الطعام ويتكبر على أبناء الجنس ويصادق الأغنياء ويباعد الفقراء ويحب الخطاب بمولانا ويمشي بحاجبه ويضيع ولو أنه لبس ثوباً يخلطه بالفقهاء لذهب الجاه ولم يبق له متعلق. ولو أن أفعاله ناسبت ثيابه لهان الأمر لكنهم بهرجوا على من لا يخفى أمرهم عليه من الخلق فكيف الخالق سبحانه وتعالى.
دين كثيراً ما أعيد هذا المعنى الذي أنا ذاكره في هذا الكتاب بعبارات شتى. ينبغي للمؤمن أن يتشاغل بمعاشه ويرفق في نفقته. فإنه قد كان للعلماء شيء من بيت المال ورفق من الإخوان ومعونة من العوام. فانقطع الكل وبقي المتشاغل بالعلم أو التعبد مسكيناً خصوصاً ذا العائلة. وما رأينا مثل هذا الزمان القبيح فما بقي من يومأ إليه بمعونة ولا باستقراض فيحتاج الإنسان المؤمن أن يدخل في مداخل لا تليق به وأن يتعرض بما لا يصلح. فينبغي تقليل العائلة وتقويت القوت وترقيع الخلق. وإن أمكن معاش فهو أولى من التشاغل بالتعبد والتعلم لفضول العلم وإلا ضاع الدين في مداخل لا تصلح أو التعرض لبذل نذل. ينبغي للعاقل أن يحترز غاية ما يمكنه فإذا جرى القدر مع احترازه لم يلم. والاحتراز ينبغي من كل شيء يكن وقوعه وأخذ العدة لذلك واجب وهذا يكون في كل حال فقد قص رجل ظفره فجار عليه فخبثت يداه فمات. ومر شيخنا أحمد الحربي وهو راكب بمكان ضيق فتطأطأ على السرج فانعصر فؤاده فمرض فمات. وكان يحيى بن نزار شيخاً يحضر مجلس قد طرق عليه ثقل الأذن فاستدعى طرقياً فمص أذنه فجرى شيء من مخه فمات. وانظر إلى احتراز رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر على حائط مائل فأسرع. وينبغي أن يحترز بالكسب في زمن شبابه ادخاراً لزمن شيبه. ولا ينبغي أن يثق بمعامل إلا بوثيقة. وليبادر بالوصية مخافة أن يطرقه الموت. ويحترز من صديقه فضلاً عن عدوه. ولا يثق بمودة من قد آذاه هو فإن الحقد في القلوب قلما يزول. وليحترز من زوجته فربما أطلعها على سره ثم طلقها فيتأذى بما تفعل به. وقد كان ابن أفلح الشاعر يكاتب رئيساً في زمن المسترشد فعلم بذلك بوابه واتفق أنه صرف فهذه المذكرات أمثلة تبنه على ما لم يذكر. وأهم الكل أن يحترز بأخذ العدة وتحقيق التوبة قبل أن يهجم ما لا يؤمن هجومه. وليحذر من لص الكسل فإنه محتال على سرقة الزمان.
تأملت خصومات الملوك وحرص التجار ونفاق المتزهدين فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس. وإذا تفكر العاقل في ذلك علم أن أمر الحسيات قريب يندفع بأقل شيء وأن الغاية منه لا يمكن نيلها. وإن بالغ عاد بالأذى على نفسه فناله من الضر أضعاف ما ناله من اللذة كمن يأكل كثيراً أو ينكح كثيراً. فالسعيد من اهتم لحفظ دينه وأخذ من ذلك بمقدار الحاجة. واعجباً هذا الملبوس إذا كان وسطاً خدم وإن كان مرتفعاً خدم. فإن نظر اللابس إليه معجباً به فإن الله لا ينظر إليه حينئذ. والمشروب إن كان حراماً فعقابه أضعاف لذته. وهتكة العرض بين الناس عقاب آخر. وإن كان مباحاً فالشره فيه يؤذي البدن. وأما المنكوح فمداراة المستحسن يؤذي فوق كل أذى. ومقاساة المستقبح أشد أذى فعليك بالتوسط. وتفكر في أحوال السلاطين كيف قتلوا ظلماً وكم ارتكبوا حراماً وما نالوا إلا يسيراً من لذات الحس. فانقشع غيم العمر عن حسرات الفضائل الفائتة وحصول العقاب. فليس في الدنيا أطيب عيشاً من منفرد عن العالم بالعلم. فهو أنيسه وجليسه قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة لا عن تكلف ولا تضييع دين وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها. والتحف بالقناعة باليسير إذ لم يقدر على الكثير. فوجدته يسلم دينه ودنياه. واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ويفرجه في البساتين فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة. ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط. تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود وهو حرصهم على الكتابة خصوصاً المحدثين فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا ويفهموا فيذهب العمر وقد عروا عن العلم إلا اليسير. فمن وفق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة والحفظ. وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد. والموفق من طلب المهم فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل وجمهور العلوم الفقه. وفي الناس من حصل له العلم وغفل عن العمل بمقتضاه وكأنه ما حصل شيئاً نعوذ بالله من الخذلان.
ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم. ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يفتكر فتعرض على نفسه الأحوال وكأنه شاور. وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره. خصوصاً فيما يوجبه الغضب فإنه ينزقه طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم. وكم من غضب فقتل وضرب ثم لما سكن غضبه بقي طول دهره في الحزن والبكاء والندم. والغالب في القاتل أنه يقتل فتفوته الدنيا والآخرة. فكذلك من عرضت له شهوة فاستعجل لديها ونسي عاقبتها. فكم من ندم يتجرعه في باقي عمره. وعتاب يستقبله من بعد موته وعقاب لا يؤمن وقوعه. كل ذلك للذة لحظة كانت كبرق. فالله الله التثبت التثبت في كل الأمور والنظر في عواقبها. خصوصاً الغضب المثير للخصومة وتعجيل الطلاق.
سألني سائل قد قال بعض الحكماء: من لم يحترز بعقله هلك بعقله فما معنى هذا فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى ثم اتضح. وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه. فالاحتراز من العقل بالعقل هو أن ينظر فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسماً ولا شبهاً لشيء. بلغني عن بعض الكرماء أن رجلاً سأله فقال: أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا وكذا فقال: مرحباً بمن يتوسل إلينا بنا ثم قضى حاجته. فأخذت من ذلك إشارة فناجيت بها فقلت: أنت الذي هديته من زمن الطفولة وحفظته من الضلال وعصمته عن كثير من الذنوب وألهمته طلب العلم لا بفهم لشرف العلم لموضع الصغر ولا بحب والده - لموت الوالد - ورزقته فهماً لتفقهه وتصنيفه وهيأت له أسباب جمعه وقمت برزقه من غير تعب منه ولا ذل للخلق بالسؤال وحاميت عنه الأعداء فلم يقصده جبار وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم التي لا تكاد تجتمع في شخص وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك وحسن العبارة ولطفها في الدلالة عليك ووضعت له في القلوب القبول حتى أن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله ولا يشكون فيه ويشتاقون إلى كلامه ولا يدركهم الملل منه وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح وآنسته في خلوته بالعلم تارة وبمناجاتك أخرى وإن ذهبت أعد لم أقدر على إحصاء عشير العشير فيا محسناً إلي قبل أن أطلب لا تخيب أملي فيك وأنا أطلب. فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك. سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض والمتوسط منهم يندر. منهم من يغضب فيقتل ويضرب. ومنهم من هو أبله بقوة الحلم لا يؤثر عنده السب. ومنهم شره يتناول كل ما يشتهي. ومنهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها. وكذلك سائر الأشياء المحمود منها المتوسط. فالمنفق كل ما يجد مبذر والبخيل يخبىء المال ويمنع نفسه حظها. ومعلوم أن المال لا يراد لنفسه بل للمصالح فإذا بذر الإنسان فيه احتاج إلى بذل وجهه ودينه ومنة البخلاء عليه وهذا لا يصلح. ولأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه. وفي الناس من يبخل ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال. فربما مات أحدهم هزالاً وهو لا ينفقه فيأخذه الغير ويندم المخلف. ولقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد ذكرته لتعتبر به. فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر عن شيخه عبد المحسن الصوري قال: كان بصور تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين وجوزة فيدخل إلى غرفته وقت المغرب فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزع ثوبه. وفي زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين ويأكلهما. فبقي على هذا مدة فمات فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفاً. ورأيت أن رجلاً من كبار العلماء قد مرض فاستلقى عند بعض أصدقائه ليس له من يخدمه ولا يرفقه وهو يتضرر به فلما مات وجدوا بين كتبه خمسمائة دينار. وحدثني أبو الحسن الراندسي قال: مرض رجل عندنا فبعث إلي فحضرت فقال: قد ختم القاضي على مالي فقلت: إن شئت قمت وفتحت الختم وأعطيتك الثلث تفرقه وتعمل به ما تشاء. فقال: لا والله ما أريد أن أفرقه بل أريد مالي يكون عندي فقلت: ما يعطونك وأنا آخذ لك الثلث كي تكون حراً فيه. فقال: لا أريد فمات وأخذ ماله. قال: وجاء رجل فحدثني بعجيبة قال: مرضت حماتي فقالت لي: أريد أن تشتري لي خبيصاً فاشتريت لها وكانت ملقاة في صفة ونحن في صفة أخرى. فجاءني ولدي الصغير وقال: يا سيدي إنها تبلع الذهب فقمت وإذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه. فأمسكت يدها وزجرتها عن هذا. فقالت: أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي فقلت: ما أفعل فقالت: إحلف لي فحلفت فأعطتني باقي الذهب ثم ماتت فدفنتها. فلما كان بعد أشهره مات لنا طفل فحملناه إليها وأخذت معي خرقة خام وقلت للحفار: اجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة فجئت بها إلى البيت وتركتها في أجانة وصببت عليها الماء وحركتها فأخرجت ثمانين ديناراً أو نحوها كانت قد ابتلعتها. وحكى لي صديق لنا أن رجلاً مات ودفن في الدار ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة مقيرة. فسئل أهله عنها فقالوا: هو قير هذه اللبنة وأوصى أن تترك تحت رأسه في قبره وقال: إن اللبن يبلى سريعاً وهذه لموضع القار لا تبلى. فأخذوها فوجدوها رزينة فكسرها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولاها أصحاب التركات. وبلغني أن رجلاً كان يكنس المساجد ويجمع ترابها ثم ضربه لبناً فقيل له هذا لأي شيء فقال: هذا تراب مبارك وأريد أن يجعلوه على لحدي فلما مات جعل على لحده ففضل منه لبنات فرموها في البيت فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير. فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده وكله مملوء دنانير. ولقد مات بعض أصدقائنا وكنت أعلم له مالاً كثيراً وطال مرضه فما أطلع أهله على شيء ولا أكاد أشك أنه من شحه وحرصه على الحياة ورجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه خوفاً أن يؤخذ فيحيا هو وقد أخذ المال. وما يكون بع هذا الخزي شيء. وحدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن. قال: كان فلان له ولدان ذكران وبنت وله ألف دينار مدفونة. فمرض مرضاً شديداً فاحتوشته أهله فقال لأحد ابنيه لا تبرح من عندي. فلما خلا به قال له إن أخاك مشغول باللعب بالطيور وإن أختك لها زوج تركي ومتى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب وأنت على سيرتي وأخلاقي ولي في الموضع الفلاني ألف دينار فإذا أنا مت فخذها وحدك. فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الأب فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلا يفعل فمرض الولد فأشفى فجعل الأب يتضرع إليه ويقول: ويحك خصصتك بالمال دونهم فتموت فيذهب المال ويحك لا تفعل فما زال به حتى أخبره بمكانه فأخذه ثم عوفي الولد ومضت مدة فمرض الأب فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال وبالغ فلم يخبره ومات وضاع المال. فسبحان من أعدم هؤلاء العقول والفهوم إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب فأخذت أعتب. ثم انتبهت لنفسي فقلت: وما ينفع العتاب فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء. فهممت بمقاطعتهم ثم تفكرت فرأيت الناس بي معارف وأصدقاء في الظاهر وإخوة مباطنين فقلت لا تصلح مقاطعتهم. إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة. فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف وعاملتهم معاملة المعارف ومن الغلط أن فقد قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك. وجمهور الناس اليوم معارف ويندر فيهم صديق في الظاهر فأما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يطمع فيه. وما رأى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته. فدع الطمع في الصفا. وخذ عن الكل جانباً وعاملهم معاملة الغرباء. وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره. وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك. وقد قال الفضيل بن عياض: إذا أردت أن تصادق صديقاً فأغضبه فإن رأيته كما ينبغي فصادقه. وهذا اليوم مخاطرة لأنك إذا أغضبت أحداً صار عدواً في الحال. والسبب في نسخ حكم الصفا أن السلف كان همتهم الآخرة وحدها فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا. والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب فإن رأيت متملقاً في باب الدين فأخبره تقله. رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس. وتأملت على الآدمي حالة عجيبة وهو أن تكون معه امرأة لا بأس بها إلا أن قلبه لا يتعلق بمحبتها تعلقاً يلتذ به. ولذلك سببان أحدهما أن تكون غير غاية في الحسن والثاني أن كل مملوك مكروه والنفس تطلب ما لا تقدر عليه. فتراه يضج ويشتهي شيئاً يحبه أو امرأة يعشقها ولا يدري أن إنما يطلب قيداً وثيقاً يمنع القلب من التصرف في أمور الآخرة أو في أي علم أو عمل ويخبطه في تصريف الدنيا فيبقى ذلك العاشق أسير المعشوق همه كله معه. فالعجب لمطلق يؤثر القيد ومستريح يؤثر التعب. فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ فالويل له لا قرار له ولا سكون. وإن كانت من المتبرجات اللواتي لا يؤمن فسادهن فذاك هلاكه بمرة. فلا هو إن نام يلتذ بنومه ولا إن خرج من الدار يأمن محنة. وإن كانت تريد نفقة واسعة وليس له فكم يدخل مدخل سوء لأجلها. وإن كانت تؤثر الجماع وقد علت سنه فذاك الهلاك العظيم. وإن كانت تبغضه فما بقيت من أسباب تلفه بقية فيكون هذا ساعياً في تلف نفسه كما قال القائل: نحب القدود ونهوى الخدود ونعلم أنا نحب المنونا وهذا على الحقيقة كعابد صنم. فليتق الله من عنده امرأة لا بأس بها وليعرض عن حديث النفس ومناها فما له منتهى. ولو حصل له غرضه كما يريد وقع الملل وطلب ثالثة. ثم يقع الملل ويطلب رابعة وما لهذا آخر. إنما يفيده ذلك في العاجلة تعلق قلبه وأسر لبه فيبقى كالمبهوت. فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبه فإن جرت فرقة أو آفة فتلك الحسرات الدائمة إن بقي أو التلف عاجلاً. وأين المستحسن المصون الدين القنوع بمن يحبه هذا أقل من الكبريت الأحمر. فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم. ولا يلتفت إلى سواد الهوى وغاية المنى يسلم.
إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل ويجب على العاقل ألا يرى لنفسه عملاً أو يعجب به. وذلك بأشياء: منها أنه وفق لذلك العمل ومنها أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها. ومنها أنه إذ لوحظت عظمة المخدوم احتقر كل علم وتعبد. هذا إذا سلم من شائبة وخلص من غفلة فأما والغفلات تحيط به فينبغي أن يغلب الحذر من رده ويخاف العتاب على التقصير فيه فيشتغل عن النظر إليه. وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون قالوا: ما عبدناك حق عبادتك. والخليل عليه السلام يقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما منكم من ينجيه عمله قالوا ولا أنت قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته. وأبو بكر رضي الله عنه يقول: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله. وعمر رضي الله عنه يقول: لو أن لي طلاع الأرض لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر. وابن مسعود يقول: ليتني إذا مت لا أبعث. وعائشة رضي الله عنها تقول: ليتني كنت نسياً منسياً. وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع. وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بها. فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة وأخرج له كل ليلة رمانة وسأل الله تعالى أن يميته في سجوده. فإذا حشر قيل له ادخل الجنة برحمتي قال: بل بعملي فيرون جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي فيقول: يا رب برحمتك. وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحيي من ذكره وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه. فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة. إنما لو كان مباحاً فتركه كان فيه ما فيه. ولو فهم لشغله خجل الهمة عن الإدلال كما قال يوسف عليه السلام: " وما أُبَرِّىءُ نفسي ". والآخر ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقي أبويه اللبن. وفي هذا البر أذى للأطفال ولكن الفهم عزيز. وكأنهم لما أحسنوا - فيما ظنوا - قال لسان الحال: أعطوهم ما طلبوا فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا. ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه. وفهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر. ويوجب مساكنه الذل. فتأمله فإنه أصل عظيم.
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها. وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة وكأنهم قد قطعوا على ذلك. وهذا أمر غائب ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها. ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقول: اشفع لنا فيقول: ذنبي. وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي وإلى إبراهيم وإلى موسى وإلى عيسى فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقية. ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد على خوف منها. ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: واسوأتاه منك وإن عفوت. فأف والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له. فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً. وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة. وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
نعوذ بالله من سوء الفهم وخصوصاً من المتسمين بالعلم. روى أحمد في مسنده أنه تنازع أبو عبد الرحمن السلمي وحيان بن عبد الله فقال أبو عبد الرحمن لحيان: قد علمت ما الذي حدا صاحبك يعني علياً قال ما هو قال قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وينبغي أن يعلم أن معنى الحديث: لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت فقد غفرت لكم. فأما غفران ما سيأتي فلا يتضمنه ذلك أتراه لو وقع من أهل بدر وحاشاهم الشرك - إذ ليسوا بمعصومين - أما كانوا يؤاخذون به فكذلك المعاصي. ثم لو قلنا: إنه يتضمن غفران ما سيأتي فالمعنى أن مآلكم إلى الغفران. ثم دعنا من معنى الحديث كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه فعل ما لا يجوز اعتماداً على أنه سيغفر له حوشي من هذا. وإنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال فكان على الحق. ولا يختلف العلماء أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل أحداً إلا والحق مع علي. كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أدر معه الحق كيفما دار. فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطاً قبيحاً حمله عليه أنه كان عثمانياً. . .
تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق والرياء وهم يدعون الإخلاص. منها أنهم يلزمون زاوية فلا يزورون صديقاً ولا يعودون مريضاً ويدعون أنهم يريدون الانقطاع وإنما هي إقامة نواميس ليشار إليهم بالانقطاع إذ لو مشوا بين الناس زالت هيبتهم. وما كان الناس كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشتري الحاجة من السوق وأبو بكر رضي الله عنه يتجر في البز. وأبو عبيدة بن الجراح يحفر القبور وأبو طلحة أيضاً وابن سيرين يغسل الموتى وما كان عند القوم إقامة ناموس. وأصحابنا يلزمون الصمت بين الناس والتخشع والتماوت وهذا هو النفاق. فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار وبين الناس ويبكي بالليل. وقد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد ويصلي فيجتمع الناس فيصلون بصلاته ليلاً ونهاراً وقد شاع هذا له فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة. والنبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة التطوع: " اجعلوا هذه في البيوت ". وفي أصحابنا من يظهر الصوم الدائم ويتقوت بقول الناس: " فلان ما يفطر أصلاً ". وهذا الأبله ما يدري أنه لأجل الناس يفعل ذلك لولا هذا كان يفطر والناس يرونه يومين أو ثلاثة حتى يذهب عنه ذلك الاسم ثم يعود إلى الصوم. وقد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يترك عنده من الطعام ما يأكله الأصحاء. ورأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس ويقرأ المعوذتين والمعنى قد ختمت!!!. وفيهم من يأخذ الصدقات وهو غني ولا يبالي أخذ من الظلمة أو من أهل الخير ويمشي إلى الأمراء يسألهم وهو يدري من أين حصلت أموالهم. فالله الله في إصلاح النيات فإن جمهور هذه الأعمال مردود. قال مالك بن دينار: وقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى. وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته وهو التفات القلوب إليه. فإنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب ولم يلتفت إليه أحد والمخلص محبوب. فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه لما فعل. وكم رأينا من يلبس الصوف ويظهر النسك لا يلتفت إليه وآخر يلبس جيد الثياب ويبتسم والقلوب تحبه. نسأل الله عز وجل إخلاصاً يخلصنا ونستعيذ به من رياء يبطل أعمالنا إنه قادر.
أن يخفى على الإنسان مراد التكليف فإنه موضوع على عكس الأغراض. فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض. فإن دعا وسأل بلوغ غرض تعبد الله بالدعاء. فإن أعطى مراده شكر وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض وليقل لنفسه: من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه وربما اعترض في الباطن أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر ودعائي لم يستجب. وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة. ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر. هذا آدم طاب عيشه في الجنة وأخرج منها. ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده والخليل ابتلى بالنار وإسماعيل بالذبح ويعقوب بفقد الولد. ويوسف بمجاهدة الهوى وأيوب بالبلاء وداود وسليمان بالفتنة وجميع الأنبياء على هذا. وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم. فالدنيا وضعت للبلاء فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا كما قيل: طبعت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وها هنا تتبين قوة الإيمان وضعفه فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك وليقل قد قيل لسيد الكل ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل وإنما هو لمصلحة لا يعلمها وليؤجر الصابر عن أغراضه وليعلم الله الذين سلموا ورضوا. ثم إن زمن الابتلاء مقدار يسير والأغراض مدخرة تلقى بعد قليل وكأنه بالظلمة قد انجلت وبفجر الأجر قد طلع. ومتى ارتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه اقتضى إيمانه أن يريد ما يريد ويرضى بما يقدر إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية في المعنى. وهذا أصل ينبغي أن يتأمل ويعمل عليه في كل غرض انعكس.
رأيت خلقاً من العلماء والقصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة السلاطين لينالوا من أموالهم وهم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون الدنيا من وجهها ولا يخرجونها في حقها. فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح وهبه لشاعر. وربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة آلاف. هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات. وأول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه وقد رأى بعض الصالحين رجلاً عالماً يخرج من دار يحيى بن خالد البرمكي فقال: أعوذ بالله من علم لا ينفع. كيف ألم تر المنكرات ولا تنكر وتتناول من طعامهم الذي لا يكاد يحصل إلا بظلم فينطمس قلبك وتحرم لذة المعاملة للحق سبحانه ثم لا يقدر لك أن يهتدي بك أحد. بل ربما كان فعل هذا سبباً لإضلال الناس وصرفهم عن الاقتداء به فهو يؤذي نفسه ويؤذي أميره لأنه يقول: لولا أنني على صواب ما صحبني ولأنكر علي. ويؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه الأمير صواب وتارة بأن الدخول عليه والسكوت عن الإنكار جائز. أو يحبب إليهم الدنيا ولا خير والله في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة. وأنا أفتدي أقواماً صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من شراب الرضى وبقيت أذكارهم تروي فتروى صدأ القلوب وتجلو صداها. هذا الإمام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط ولا يقبل مال سلطان. هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل ويرد على المعتصم ألف دينار. هذا بشر الحافي يشكو الجوع فيقال له يصنع لك حساء من دقيق فيقول: أخاف أن يقول الله لي هذا الدقيق من أين لك. بقيت والله أذكار القوم وما كان الصبر إلا غفوة يوم. ومضت لذات المترخصين وبليت الأبدان ووهن الدين. فالصبر الصبر يا من وفق ولا تغبطن من اتسع له أمر الدنيا. فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقاً في باب الدين. ولا ترخص لنفسك في تأويل فعمرك في الدنيا قليل: وسواء إذا انقضى يوم كسرى في سرور ويوم صابر كسره ومتى ضجت النفس لقلة صبر فاتل عليها أخبار الزهاد فإنها ترعوي وتستحي وتنكسر إن كانت لها همة أو فيها يقظة. ومثل لها بين ترخص علي بن المديني وقبوله مال ابن أبي داود وصبر أحمد. وكم بين الرجلين والذكرين. وانظر ما يروى عن كل واحد منهما وما يذكران به. وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد: سلم لي ديني. تأملت أحوال الناس فرأيت جمهورهم منسلاً من ربقة العبودية. فإن تعبدوا فعادة أو فيما لا ينافي أغراضهم منافاة تؤذي القلوب. فأكثر السلاطين يحصلون الأموال من وجوه ردية وينفقونها في وجوه لا تصلح. وكأنهم قد تملكوها وليست مال الله الذي إذا غزا أحدهم - باسمه - فغنم الأموال اصطفاها لنفسه وأعطاها أصحابه كيف اشتهى. والعلماء لقوة فقرهم وشدة شرههم يوافقون الأمراء وينخرطون في سلكهم. والتجار على العقود الفاسدة والعوام في المعاصي والإهمال لجانب الشريعة. فإن فات بعض أغراضهم فربما قالوا ما نريد نصلي لا صلى الله عليهم. وقد منعوا الزكاة وتركوا الأمر بالمعروف. فمن الناس من يغره تأخير العقوبة ومنهم من كان يقطع بالعفو وأكثرهم متزلزل الإيمان فنسأل الله أن يميتنا مسلمين.
من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب فما مثله إلا كمثل الماء إذا ضرب في فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال فإذا لم يقدر على الحلال ترخص في تناول الشبهات فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام. فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب اجتهد في التعفف عن النكاح وتقليل النفقة إذا حصل الأولاد والقناعة باليسير. فأما من ليس له كسب كالعلماء والمتزهدين فسلامتهم ظريفة إذ قد انقطعت موارد السلاطين عنهم ومراعاة العوام لهم فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال. فمن قدر منهم على كسب بالنسخ وغيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة والقناعة باليسير. فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام لأنه يأخذ من الظلمة خصوصاً بحجة التنمس والتزهد. ومن كان له منهم مال فليجتهد في تنميته وحفظه فما بقي من يؤثر ولا من يقرض. وقد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال فمن حفظه حفظ دينه. ولا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال فما هذا وقته. واعلم أنه إذا لم يجتمع الهم لم يحصل العلم ولا العمل ولا التشاغل بالفكر في عظمة الله. وقد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام. وكان يصلهم فيفضل عنهم. وفيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب وسفيان وابن المبارك وكان همه مجتمعاً وقد قال سفيان في ماله: لولاك لتمندلوا بي!!. وفقدت بضاعة لابن المبارك فبكى وقال: هو قوام ديني. وكان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون. وكان ابن المبارك يبعت إلى الفضل وغيره وكان الليث بن سعد يتفقد الأكابر فبعث إلى مالك ألف دينار وإلى ابن لهيعة ألف دينار وأعطى منصور ابن عمار ألف دينار وجارية بثلاثمائة دينار. وما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى انمحاق ذلك فقلت عطايا السلاطين وقل من يؤثر من الإخوان. إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع عض الزمان. فأما زماننا هذا فقد انقبضت الأيدي كلها حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء والزهاد أن يعمل همه ليلاً ونهاراً في وجوه الكسب وليس من شأنه هذا ولا يهتدي له. فقد رأينا الأمر أحوج إلى التعرض للسلاطين والترخص في أخذ ما لا يصلح وأحوج المتزهدين فالله الله يا من يريد حفظ دينه قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك وخفف العلائق مهما أمكنك واحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك وافهم ما قد شرحته فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها: إن كان عندك إيمان فاصبري وإن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك. فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير وجهه وفي المنمسين ذهب دينهم وزالت دنياهم. وتفكري في العلماء الصادقين كأحمد وبشر اندفعت الأيام وبقي لهم حسن الذكر. وفي الجملة " من يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ".
شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال: ما أقدر على فراقها لأمور منها كثرة دينها علي وصبري قليل ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى وفي كلمات تعلم بغضي لها. فقلت له: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها! فينبغي أن تخلو بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك فتبالغ في الاعتذار والتوبة. فأما التضجر والأذى لها فما ينفع كما قال الحسن بن الحجاج: عقوبة من الله لكم فلا تقابلوا عقوبته بالسيف وقابلوها بالاستغفار. واعلم أنك في مقام مبتلي ولك أجر بالصبر فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال الفرج حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها. ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع ولا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر: وقد روينا أن جندياً نزل يوماً في دار أبي يزيد فجاء أبو يزيد فرآه فوقف وقال لبعض أصحابه: أدخل إلى المكان الفلاني فاقلع الطين الطري فإنه من وجه فيه شبهة فقلعه فخرج الجندي. وأما أذاك للمرأة فلا وجه له لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا. وقد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض وقال اللهم اغفر لي الذنب الذي سلطت هذا به علي. قال الرجل: وهذه المرأة تحبني زائداً في الحد وتبالغ في خدمتي غير أن البغض لها مركوز في طبعي. قلت له: فعامل الله سبحانه بالصبر عليها فإنك تثاب. وقد قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك. قال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبي. فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان إني قد هويتك وأنا أسألك بالله أن تتزوجني. فأحضرت أباها - وكان فقيراً - فزوجني منها وفرح بذلك. فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة. وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج فأقعد حفظاً لقلبها ولا أظهر لها من البغض شيئاً وكأني على جمر الغضا من بغضها. فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قلبها. قلت له: فهذا عمل الرجال وأي شيء ينفع ضجيج المبتلى بالتضجر وإظهار البغض. وإنما طريقه ما ذكرته لك من التوبة والصبر وسؤال الفرج. وبالغ فإن وقع فرج فشيء كأنه ليس في الحساب وإلا فاستعمال الصبر على القضاء عبادة. وتكلف إظهار المودة لها وإن لم تكن في قلبك تثبت على هذا. وليس القيد ذنباً فيلام إنما ينبغي التشاغل مع من قيدك به والسلام.
لا ريب أن القلب المؤمن بالإله سبحانه وبأوامره يحتاج إلى الانعكاف على ذكره وطاعته وامتثال أوامره وهذا يفتقر إلى جمع الهم. وكفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتاً للهم المجتمع. فينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه لينفرد قلبه بذكر الله سبحانه وتعالى وإنفاذ أوامره والتهيؤ للقائه. وذلك إنما يحصل بقطع القواطع والامتناع عن الشواغل. وما يمكن قطع القواطع جملة فينبغي أن يقطع ما يمكن منها. وما رأيت مشتتاً للهم مبدداً للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في طلب كل شيء تشتهيه وذلك لا يوقف على حد فيه فيذهب مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة وما يشبه هذه الأشياء. فيا له من شتات لا جامع له يذهب العمر ولا ينال بعض المراد منه. والثاني: مخالطة الناس خصوصاً العوام والمشي في الأسواق فإن الطبع يتقاضى بالشهوات وينسى الرحيل عن الدنيا ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة والراحة. فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو بالعبادة. ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة وتضيع الساعات في غير شيء. فمن أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة بحيث لا يسمع صوت أحد فحينئذ يخلو القلب بمعارفه ولا تجد النفس رفيقاً مثل الهوى يذكرها ما تشتهي. فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق كما تتهوى للضفدع لحظة ثم تعود إلى الماء فهذه طريق السلامة. فتأمل فوائدها تطب لك.
وقد كان هذا في الجاهلية ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ". ومعناه أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهاليكم وتنسبونه إلى الدهر والله تعالى هو الفاعل لذلك. فتعجبت كيف علم أهل الأسقام بهذه الحال وهم على ما كان أهل الجاهلية عليه ما يتغيرون حتى ربما اجتمع الفطناء الأدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم شغل إلا ذم الدهر. وربما جعلوا الله الدنيا ويقولون: فعلت وصنعت وحتى رأيت لأبي القاسم الحريري يقول: ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى عن الرشد في أنحائه ومقاصده تعاميت حتى قيل إني أخو عمي ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده وقد رأيت خلقاً يعتقدون أنهم فقهاء وفهماء ولا يتحاشون من هذا. وهؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان فذاك لا اختيار له ولا مراد ولا يعرف رشداً من ضلال ولا ينبغي أن يلام. فإنه زمان مدبر لا مدبر فيتصرف فيه ولا يتصرف بأحد. وما يظن بعاقل أن يشير إلى أن هذا المذموم المعرض عن الرشد السيء الحكم هو الزمان. فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام ونسبوا هذه القبائح إلى الصانع فاعتقدوا فيه قصور الحكمة وفعل ما لا يصح كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم. وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام ولا فعل صلاة. بل هم شر من الكفار لا أصلح الله لهم شأناً ولا هداهم إلى رشاد.
ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا مع العلم بقصر العمر وأنا زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا. فيا قصير العمر اغتنم يومي مني وانتظر ساعة النفر وإياك أن تشغل قلبك بغير ما خلق له. واحمل نفسك على المبر واقمعها إذا أبت ولا تسرح لها في الطول فما أنت إلا في مرعى. وقبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه.
قد قررت هذا المعنى في هذا الكتاب وهو الأمر بحفظ السر والحذر من الانبساط فيما لا يصلح بين يدي الناس. فرب منبسط - بين يدي من يظنه صديق - يقول في صديق أو في سلطان يحسب أنه لا يهتم في ذلك فيكون سبب هلاكه ذاك. فأوصى السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير أن يحترز من الناس وأن لا يقول في الخلق كلمة لا تصلح للخلق. ولا يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين فقد عم الخبث.
تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات. فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية. فإن الغافل يقول سبحان الله عادة والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله. ولو أن إنسان تفكر في رمانة فنظر في تصفيف حبها وحفظه بالأغشية لئلا يتضاءل وإقامة الماء على عظم العجم وجعل الغشاء عليه يحفظه وتصوير الفرخ في بطن البيضة والآدمي في حشا الأم إلى غير ذلك من المخلوقات أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق فقال: سبحان وما تزال أفكارهم تجول فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققة وكذلك يتفكرون في قبائح ذنوب قد تقدمت فيوجب ذلك الفكر وقلق القلب وندم النفس فيثمر ذلك أن يقول قائلهم: أستغفر الله. فهذا هو التسبيخ والاستغفار. فأما الغافلون فيقولون ذلك عادة وشتان ما بين الفريقين.
لا يصفو التعبد والتزهد والاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع الكلي عن الخلق بحيث لا يبصرهم ولا يسمع كلامهم إلا في وقت ضرورة كصلاة جمعة أو جماعة ويحترز في تلك الساعات منهم. وإن كان عالماً يريد نفعهم وعدهم وقتاً معروفاً واحترز في الكلام معهم. وأما من يمشي في الأسواق اليوم ويبيع ويشتري مع هذا العالم المظلم ويرى المنكرات والمستهجنات فما يعود إلى البيت إلا وقد أظلم القلب. فلا ينبغي للمريد أن يكون خروجه إلا إلى الصحراء والمقابر. وقد كان جماعة من السلف يبيعون ويشترون ويحترزون ومع هذا ما صفا لصافيهم وقت قال أبو الدرداء: زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فاخترت العبادة. وقد جاء في الحديث: الأسواق تلهي وتلغي. فمن قدر على الحمية النافعة واضطر إلى المخالطة والكسب للعائلة فليحترز احتراز الماشي في الشوك وبعيد سلامته.
من رزق قلباً طيباً ولذة مناجاة فليراع حاله وليحترز من التغيير. وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى. وكنت قد رزقت قلباً طيباً ومناجاة حلوة فأحضر بعض أرباب المناصب إلى طعامه فما أمكن خلافه. فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد ورأيت العقوبة في الحال واستمرت مدة وغضبت على قلبي وفقدت كل ما كنت أجده. فقلت: واعجباً لقد كنت في هذا كالمكره فتفكرت وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة ولكن التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة. فقالت النفس: ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام. فلما تناولت بالتأويل لقمة واستحليتها بالطبع لقيت الأمرين بفقد القلب فاعتبروا يا أولي الأبصار.
همة المؤمن متعلقة بالآخرة فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة وكل من شغله شيء فهمته شغله. ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته والنجار إلى السقف والبناء إلى الحيطان والحائك إلى النسيج المخيط. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور وإن رأى لذة ذكر الجنة فهمته متعلقة بما ثم وذلك يشغله عن كل ما تم. وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة وأن بقاءه لا ينقطع ولا يزول ولا يعتريه منغص فيكاد إذا تخايل نفسه متقلباً في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحاً ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاء وفقد محبوب وهجوم الموت ومعالجة غصصه. ويعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا فهو يتخير الأجود ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتور. ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة فيتنغص عيشه ويقوى قلقه فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها فقلبه هائم في بيداء العشوق تارة وفي صحراء الخوف أخرى فما يرى البنيان. فإذا نازله الموت قوي ظنه بالسلامة ورجا لنفسه النجاة فيهون عليه. فإذا نزل إلى القبر وجاءه من يسألونه قال بعضهم لبعض: دعوه فما استراح إلا الساعة. نسأل الله عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل وتمنعنا من اختيار الرذائل فإنه إن وفق وإلا فلا نافع.
لقد اعتبرت على مولاي سبحانه وتعالى أمراً عجيباً وهو أنه تعالى لا يختار لمحبته والقرب منه إلا الكامل صورة ومعنى. ولست أعني حسن التخاطيط وإنما كمال الصورة اعتدالها والمعتدلة ما تخلو من حسن فيتبعها حسن الصورة الباطنة وهو كمال الأخلاق وزوال الأكدار ولا يرى في باطنه خبثاً ولا وقد كان موسى عليه السلام كل من رآه يحبه وكان نبينا صلى الله عليه وسلم كالقمر ليلة البدر. وقد يكون الولي أسود اللون لكنه حسن الصورة لطيف المعاني. فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام في كمال الخلق والخلق يكون عمله ويكون تقريبه إلى الحضرة بحسب ذلك. فمنهم كالخادم على الباب ومنهم حاجب ومنهم مقرب ويندر من يتم له الكمال. ولعله لا يوجد في مائة سنة منهم غير واحد. وهذه حكاية ما تحصل بالاجتهاد بل الاجتهاد يحصل منها. لأنه إذا وقع تماماً حث على الجد على قدر نقصائه. وهذا لا حيلة في أصله إنما هو جبلة وإذا أرادك لأمر هيأك له.
|