الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **
فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق فإن النفوس تأنس بالإثبات فإذا سمع العامي ما يوجب النفي. طرد عن قلبه الإثبات فكان أعظم ضرر عليه وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاوماً لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو وشارعاً في إبطال ما يفتون به. وبيان هذا أن الله تعالى أخر باستوائه على العرش فأنست النفوس إلى إثبات الإله ووجوده قال تعالى: فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس قيل له: ولهذا أقر الشرع مثل هذا فسمع منشداً يقول: وفوق العرش رب العالمينا فضحك. وقال له آخر: أويضحك ربنا فقال: نعم وقال: إنه على عرشه هكذا كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس. وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا فأما إذا ابتدأنا بالعامي الفارغ من فهم الإثبات فقلنا: ليس في السماء ولا على العرش ولا يوصف بيد وكلامه صفة قائمة بذاته وليس عندنا منه شيء ولا يتصور نزوله انمحى من قلبه تعظيم المصحف ولم يتحقق في سره إثبات إله. وهذه جناية عظيمة على الأنبياء توجب نقض ما تعبوا في بيانه ولا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها فإنه يفسده ويصعب صلاحه. فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم ولا يجوز أن يكون محمولاً ولا أن يوصف بملاصقة ومس ولا أن ينتقل. ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يدبره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغالية. ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية وهما: الإقامة والإزاغة. ولا إلى تأويل من قال: يداه نعمتاه لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات. وقد حدثنا بما نعقل. وضربت لنا الأمثال بما نعلم وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه وأصلح ما نقول للعوام: أمروا هذه الأشياء كما جاءت ولا تتعرضوا لتأويلها وكل ذلك يقصد به حفظ الإثبات وهذا الذي قصده السلف. وكان أحمد يمنع من أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق كل ذلك ليحمل على الاتباع وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها. وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه فأضعف في النفوس قوي التعظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو يشير إلى المصحف. ومنع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيماً له. فإذا جاء متحذلق فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع. وينبغي أن يفهم أوضاع الشرع ومقاصد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلام في القدر ونهى عن الاختلاف لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي. فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى وعاقب تزلزل إيمانه بالعدل. وإن قال: لم يقدر ولم يقض تزلزل إيمانه بالقدرة والملك فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء. ولعل قائلاً يقول: هذا منع لنا عن الاطلاع على الحقائق وأمر بالوقوف مع التقليد. فأقول: لا إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل وما أمرت بالتنقير لمعرفة الكنه مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق. فإن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: أرني كيف تحيي فأراه ميتاً حيي ولم يره كيف أحياه لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم يقنع من الناس بنفس الإقرار واعتقاد الجمل. وكذلك كانت الصحابة فما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ولا أنهم قالوا استوى بمعنى استولى ويتنزل بمعنى يرحم. بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس وكفوا كف الخيال بقوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ". ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان: من ربك وما دينك ومن ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة وتعطيل المعطلة ووقف على جادة السلف الأول والله الموفق.
قرأت هذه الآية: وذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر فإن السمع آلة لإدراك المسموعات والبصر آلة لإدراك المبصرات فهما يعرضان ذلك على القلب فيتدبر ويعتبر. فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق وتحمل على طاعة الصانع وتحذر من بطشه عند مخالفته. وإن عني معنى السمع والبصر فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا شغلا بالهوى فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات فيرى وكأنه ما رأى ويسمع وكأنه ما سمع والقلب ذاهل عن ما يتأدب به فيبقى الإنسان خاطئاً على نفسه لا يدري ما يراد به لا يؤثره عنده أنه يبلى ولا تنفعه موعظة تجلى ولا يدري أين هو ولا ما المراد منه ولا إلى أين يحمل وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته ولا يتفكر في خسران آجلته لا يعتبر برفيقه ولا يتعظ بصديقه ولا يتزود لطريقه كما قال الشاعر: الناس في غفلة والموت يوقظهم وما يفيقون حتى ينفد العمر يشيعون أهاليهم بجمعهم وينظرون إلى ما فيه قد قبروا ويرجعون إلى أحلام غفلتهم كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا وهذه حالة أكثر الناس فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات فإنها أقبح الحالات.
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته وصنفت في ذلك كتاباً سميته بذم الهوى. وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة وأنهم اختلفوا. فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس. وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق. إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحه ههنا. وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد. فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها إما بالفكر في المحبوب أو بالمخالطة له تسلت أنفسهم وتعلقت بمطلوب آخر. فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة العامي عن عيوبها إلا جامد واقف. فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم بل يوقفوا الطبع تتبع حادي فإذا علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر بل ربما ملوا ميلاً شديداً إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين كالظريف مع الظريف والفطن مع الفطن فيوجب ذلك المحبة. فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم بل يوقفوا إبل الطبع تتبع حادي الفهم فإن للهمم متعلقاً لا تجده في الدنيا لأنه يروم ما لا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص فإذا تلمح عيوبها نفر. وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارىء فهو مانع لها من الوقوف مع سواه. وإن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره. وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها كما قالت رابعة: ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بامرأة فأعجبته فخطبها إلى أبيها فزوجه وجاء به إلى المنزل وألبسه غير خلقانه. فلما جن الليل صاح الفقير: ثيابي ثيابي. فقدت ما كنت أجده فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة. وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل وأهل الأنفة من الرذائل. وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مثانتها. ومثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم وبلعه. ويذهل عن الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة وينسى عند بلع الرضاب استحالته عن الغذاء وفي تغطية تلك الأحوال مصالح. إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم هذا الإحساس من غير طلب له في غالب أحوالهم فينغص عليهم لذيذ العيش ويوجب الأنفة من رذالة الهوى. وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق وعلى قدر وجمود الذهن يقوى القلق قال المتنبي: ومجموع ما أردت شرحه. أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن. وسبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص وعيوبه أو في طلب ما هو أم منه. وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها وتتنقل في معبر الاعتبار. فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين وغفلتهم عن المقامين يوجب أسرهم وقسرهم وحيرتهم.
عرض لي أمر لي يحتاج إلى سؤال الله عز وجل ودعائه فدعوت وسألت. فأخذ بعض أهل الخير يدعو معي فرأيت نوعاً من أثر الإجابة. فقالت لي نفسي: هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك فقلت لها: أما أنا فإني أعرف من نفسي من الذنوب والتقصير ما يوجب منع الجواب غير أنه يجوز أن يكون أنا الذي أجبت لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي إذ معي انكسار تقصيري ومعه الفرح بمعاملته. وربما كان الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج على أنني أنا وهو نطلب من الفضل لا بأعمالنا فإذا وقفت أنا على قدم الانكسار معترفاً بذنوبي. وقلت أعطوني بفضلكم فما لي في سؤالي شيء أجبت به. فلا تكسريني أيتها النفس فيكفيني كسر علمي بي لي. ومعي من العلم الموجب للأدب والاعتراف بالتقصير وشدة الفقر إلى ما سألت ويقيني بفضل المطلوب عنه ما ليس مع ذلك العابد فبارك الله في عبادته. فربما كان اعترافي بتقصيري أوفى.
قرأت من غرائب العلم وعجائب الحكم على بعض من يدعي العلم فرأيته يتلوى من سماع ذلك ولا يطلع على غوره ولا يشرئب إلى ما يأتي فصرفت عن إسماعه شيئاً آخر وقلت: إنما يصلح مثل هذا لذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء. ثم أخذت من هذه إشارة هي إنه لو كان هذا يفهم ما جرى ومدحني لحسن ما صنعت لعظم قدره عندي ولأريته محاسن مجموعاتي وكلامي. ولكني لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه وصدفت بنظري إليه. وكانت الإشارة: أن الله عز وجل قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب وأحكم الترتيب ثم عرضها على الألباب فأي لب أوغل في النظر مدح على قدر فهمه فأحبه المصنف وكذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم فمن فتشه بيد الفهم. وحادثه في خلوة الفكر. استجلب رضى المتكلم به وحظى بالزلفى لديه. ومن كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات صرف عن ذلك المقام. قال الله عز وجل:
دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل وأطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك فعارضني وسواس من إبليس فقال: ثم ماذا أليس الموت فما الذي ينفع طول الحياة. فقلت له: يا أبله. لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث. أليس في كل يوم يزيد علمي ومعرفتي فتكثر ثمار غرسي فأشكر يوم حصادي. أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة لا والله لأني ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم. وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة واطلعت على علوم زاد بها قدري وتجوهرت بها نفسي. ثم زاد غرسي لآخرتي وقويت تجارتي في إنقاذ المباضعين من المتعلمين وقد قال الله لسيد المرسلين: وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزيد المؤمن من عمره إلا خيراً. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة. فيا ليتني قدرت على عمر نوح فإن العلم كثير وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع.
قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب وإن كانت لا تساكنها لأنها لما انفردت لمعرفتها انفرد لها بتولي أمورها. فإذا تعرضت بالأسباب محي أثر الأسباب: وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف عليهما السلام حتى قال: " وأَخَاف أَنْ يأكلَهُ فلما جاء أوان الفرج خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح وكذلك قول يوسف عليه السلام للساقي: ومن هذا قصة مريم عليها السلام: ومن هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا ن حيث لا يحتسب. والأسباب طريق ولا بد من سلوكها. والعارف لا يساكنها غير أنه يجلى له من أمرها ما لا يجلى لغيره من أنها لا تساكن وربما عوقب إن مال إليها وإن كان ميلاً لا يقبله غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب وتأمل عقبى سليمان عليه السلام لما قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً ولم يقل: إن شاء الله. فما حملت إلا واحدة جاءت بشق غلام. ولقد طرقتني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب بالا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة ومداراته بكلمة. فبينما أنا أفكر في تلك الحال دخل علي قارىء فاستفت فتفاءلت بما يقرأ فقرأ: فبهت من إجابتي على خاطري وقلت لنفسي: اسمعي فإنني طلبت النصر في هذه المداراة فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم فاتني ما ركنت لأجله من النصر. فيا طوبى لمن عرف المسبب وتعلق به فإنها الغاية القصوى فنسأل الله أن يرزقنا.
المؤمن لا يبالغ في الذنوب وإنما يقوى الهوى وتتوقد نيران الشهوة فينحدر. وله مراد لا يعزم المؤمن على مواقعته ولا على العود بعد فراغه. ولا يستقصي في الانتقام إن غضب وينوي التوبة قبل الزلل. وتأمل إخوة يوسف عليهم السلام. فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف فقالوا: ثم عزموا على الإنابة فقالوا: فلما خرجوا به إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد. فقال كبيرهم: والسبب في هذه الأحوال أن الإيمان في قمع النفوس يكون على حسب قوته فتارة يردها عند الهم وتارة يضعف فيردها عند العزم وتارة عن بعض الفعل فإذا غلبت الغفلة ووقع الذنب فتر الطبع فنهض الإيمان للعمل فينقص بالندم أضعاف ما التذ.
أفضل الأشياء التزيد من العلم فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافياً استبد برأيه وصار تعظيمه لنفسه مانعاً له من الاستفادة. والمذاكرة تبين له خطأه وربما كان معظماً في النفوس فلم يتجاسر على الرد عليه. ولو أنه أظهر الاستفادة لأهديت إليه مساويه فعاد عنها. ولقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني أنه قال: إن الله تعالى يعلم جمل الأشياء ولا يعلم التفاصيل ولا أدري أي شبهة وقعت في وجه هذا المسكين حتى قال هذا. وكذلك أبو حامد حين قال: النزول التنقل والاستواء مماسة. وكيف أصف هذا بالفقه أو هذا ولو أنه ترك تعظيم نفسه لرد صبيان الكتاب رأيه عليه فبان له صدقهم. ومن هذا الفن أبو بكر بن مقسم: فإنه عمل كتاب الاحتجاج للقراء فأتى فيه بفوائد إلا أنه أفسد علمه بإجازته أن يقرأ به ثم تفاقم ذلك منه حتى أجاز ما يفسد المعنى مثل قوله تعالى: فقال: يصلح أن يقال هنا نجياً أي خلصوا كراماً براء من السرقة. وهذا سوء فهم للقصة فإن الذي نسب إلى السرقة فظهرت معه ما خلص فما الذي ينفع خلاصهم. وإنما سيقت القصة ليبين أنهم أنفردوا وتشاوروا فيما يصنعون وكيف يرجعون إلى أبيهم وقد احتبس أخوهم. فأي وجه للنجاة ها هنا. ومن تأمل كتابه رأى فيه من هذا الجنس ما يزيد على الإحصاء من هذا الفن القبيح ولو أنه أصغى إلى علماء وقته: وترك تعظيم نفسه لبان له الصواب. غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب نعوذ بالله من ذلك. تأملت قوله عز وجل: وهو أنهم لما وهبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام وعلموا أنها لا تصلح للعبادة فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء. كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم. فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب فقد جهلوا قدر الموهوب وغفلوا عن وهب. وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليست ملكاً لهم. فعلى هذا كل متعبد ومجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة وقوة الفهم والعقل صواباً فوقع على المطلوب فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس. ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار فقالوا: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا فقال كل منهم: فعلت كذا وكذا. وهؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم فبه توسلوا إليه. وإن كانوا لاحظوا أفعالهم فلمحوا جزاءها ظناً منهم أنهم هم الذين فعلوا فهم أهل غيبة لا حضور ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة. وربما احتقر أهل المعاصي وتشمخ عليهم. وهذه غفلة عن طريق السلوك وربما أخرجت. ولا أقول لك خالط الفساق احتقاراً لنفسك بل اغضب عليهم في الباطن وأعرض عنهم في الظاهر ثم تلمح جريان الأقدار عليهم فأكثرهم لا يعرف لمن عصى. وجمهورهم لا يقصد العصيان بل يريد موافقة هواه وعزيز عليه أن يعصى. وفيهم من غلب عليه تلمح العفو والحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو. وهذه كلها ليست باعتذار لهم ولكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى واعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم لأنك تعرف من تعصي وتعلم ما تأتي. بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع ووصل المقطوع. فالعجب ممن يدل بخير علمه وينسى من أنعم ووفق.
جهال المتكلمين اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد لا خلل فيه ولا دخل وكذلك كل الشرائع. مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام فتأملوا الفعل الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر فنسبوا الفاعل إلى الإلهية. ولو تأملوا ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات وهذا القدر يكفي في عدم صلاح إلهيته فيعلم حينئذ أن ما جرى على يديه فعل غيره. وقد يؤثر ذلك في الفروع. مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوا عشرين يوماً ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم. ومن هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول والفروع وقد قارب الضلال في أمتنا هذه المسالك وإن كان عمومهم قد حفظ من الشرك والشك والخلاف الظاهر الشنيع لأنهم أعقل الأمم وأفهمها. غير أن الشيطان قارب بهم ولم يطمع في إغراقهم وإن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلال. فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم: جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل قيل في صفته: فقال بعد البيان: تركتكم على بيضاء نقية. فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه ولم يرضوا بطريقة أصحابه فبحثوا ثم انقسموا. فمنهم: من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها فإن القرآن والحديث يثبتان الإله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس كقوله تعالى: وكل هذه الأشياء - وإن كان ظاهرها يوجب تخايل التشبيه - فالمراد منها إثبات موجود فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها قطع ذلك بقوله: ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر. وقد قصد الشرع تقرير وجوده فقال: وأثبته في القلوب بقوله تعالى: فقال قوم من هؤلاء: مخلوق فأسقطوا حرمته من النفوس وقالوا: لم ينزل ولا يتصور نزوله وكيف تنفصل الصفة عن الموصوف وليس في المصحف إلا حبر وورق فعادوا على ما تعب الشارع في إثباته بالمحو. كما قالوا: إن الله عز وجل ليس في السماء ولا يقال استوى على العرش ولا ينزل إلى السماء الدنيا بل ذاك رحمته فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها وليس هذا مراد الشارع. وجاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا: الله على العرش ولم يقنعوا بقوله: ودفن لهم أقوام من سلفهم دفائن ووضعت لهم الملاحدة أحاديث فلم يعلموا ما يجوز عليه مما لا يجوز فأثبتوا بها صفات - جمهور الصحيح منها آت على توسع العرب - فأخذوه هم على الظاهر فكانوا في ضرب المثل كجحا فإن أمه قالت له: احفظ الباب فقلعه ومشى به فأخذ ما في الدار فلامته أمه. فقال: إنما قلت احفظ الباب وما قلت احفظ الدار. ولما تخايلوا صورة عظيمة على العرش أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش مثل قوله: ومن أتاني يمشي أتيته هرولة. فقالوا: ليس المراد به دنو الاقتراب وإنما المراد قرب المنزل والحظ. وقالوا في قوله تعالى: هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات. فهم يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. ويسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات فإنه قد أضاف إليه النفخ والروح. وأثبتوا خلقه باليد فلو قالوا خلقه بقدرته لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي صفة تولي بها خلق آدم دون غيره. فأي مزية كانت تكون لآدم. فشغلهم النظر في فضيلة آدم عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به. فإنه لا يجوز عليه المس ولا العمل بالآلات وإنما آدم أضافه إليه. فقالوا نطلق على الله تعالى اسم الصورة لقوله: خلق آدم على صورته. وفهموا هذا الحديث وهو قوله عليه السلام: إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك ولا وجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته. فلو كان المراد به الله عز وجل لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم لأن الحديث كذا جاء - ولا وجهاً أشبه وجهك - ورووا حديث خولة بنت حكيم: وإن آخر وطئة وطئها الله بوج. وما علموا النقل ولا السير وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اشدد وطأتك على مضر وأن المراد به آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج. وهي غزاة حنين. فقالوا: نحمل الخبر على ظاهره وأن الله وطىء ذلك المكان. ولا شك أن عندهم أن الله تعالى كان في الأرض ثم صعد إلى السماء وكذلك قالوا في قوله: إن الله لا يمل حتى تملوا. قالوا: يجوز أن الله يوصف بالملل فجهلوا اللغة وما علموا أنه لو كانت جلبت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا والمعنى لا يمل وإن ملوا. وقالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي الرحمن. فقالوا - الحقو - صفة ذات وذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت. وعمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبد الله بن عمرو. وقال: خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر. فقالوا: نثبت هذا على ظاهره. ثم أرضوا العوام بقولهم ولا نثبت جوارح فكأنهم يقولون فلان قائم وما هو قائم. فاختلف قولهم هل يطلق على الله عز وجل أنه جالس أو قائم كقوله تعالى: وهؤلاء أخس فهما من جحا لأن قوله قائماً بالقسط لا يراد به القيام وإنما هو كما يقال: الأمير قائم بالعدل. وإنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها فالحذر من هؤلاء فما لهم فقه ولا عبادة. وإنما الطريق طريق السلف على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال فلا ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه. ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل: هذا من الراوي لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه. فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. فهذا أصل يجب البناء عليه فلا هو يهولنك ذكر معظم في النفوس. وكان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم وإنا أدخل أقوام فهي ما تأذينا به. جهال الزهاد ولقد أدخل المتزهدون في الدين ما ينفر الناس منه حتى إنهم يرون أفعالهم فيستبعدون الطريق. وأكثر أدلة هذه الطريق القصاص فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم وهو لا يحسن الوضوء كلموه بدقائق الجنيد وإشارات الشبلي فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية وترك الكسب للعائلة ومناجاة الحق في خلوة على زعمه. مع كونه لا يعرف أركان الصلاة ولا أدبه العلم ولا قوم أخلاقه شيء من مخالطة العلماء. فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الاصطبل. فإن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا أشباحاً يظنهم الملائكة ثم يطأطىء رأسه ويمد يده للتقبيل. فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع وقعد في زاوية فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه. فلو قيل له عد مريضاً قال: ما لي عادة. فلعن الله عادة تخالف الشريعة. فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه لا التي عليها الفقهاء فيقعون في الضلال. ومن المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا. ثم يتفاوت جهالهم فمنهم من سلك مذهب الإباحة ويقول الشيخ لا يعارض وينهمك في المعاصي. ومنهم: من يحفظ ناموسه فيفتي بغير علم لئلا يقال: الشيخ لا يردي. ولقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمة الله عليه: أن الشريف الدحالي - وكان يقصد فيزار ويتبرك به - حضر عنده يوماً فسئل أبو حكيم - هل تحل المطلقة ثلاثاً إذا ولدت ذكراً - قال: فقلت لا والله فقال لي الشريف: اسكت فوالله لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة. وحكى لي الشيخ أبو حكيم أن جد آذاد الحداد وكان يتوسم بالعلم جاءت إليه امرأة فزوجها من رجل ولم يسأل عن انقضاء العدة فاعترضها الحاكم وفرق بينها وبين الزوج وأنكر على المزوج. فلقيته المرأة. فقالت: يا سيدي أنا امرأة لا أعلم فكيف زوجتني فقال: دعي حديثهم ما أنت إلا طاهرة مطهرة. وحدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين ويقول والله ما سهوت ولكن أفعله احترازاً فقال له الفقيه: قد بطلت صلاتك كلها لأنك زدت سجوداً غير مشروع. أثر المتصوفة ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصوفة فإنهم سلكوا طرقاً أكثرها تنافي الشريعة وأهل التدين منهم يقللون ويخفقون. وهذا ليس بشرع حتى إن رجلاً كان قريباً من زماني يقال له كثير دخل إلى جامع المنصور وقال. عاهدت الله عهداً ونقضته فقد ألزمت نفسي أن لا تأكل أربعين يوماً. فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام ثم في العشر الرابع أشرف على الموت. قال: فما انقضت حتى تفرغ فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشاً كنشيش المقلاة ثم مات فانظروا إلى هذا المسكين وما فعله به جهله. ومنهم من فسخ لنفسه في كل ما يحب من التنعم واللذات واقتنع من التصوف بالقميص والفوطة والعمامة اللطيفة ولم ينظر من أين يأكل ولا من أين يشرب وخالط الأمراء من أرباب الدنيا ولباس الحرير وشراب الخمور حفظاً لماله وجاهه. ومنهم أقواماً عملوا سننا لهم تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت. ومنهم من أكب على سماع الغناء والرقص واللعب ثم انقسم هؤلاء فمنهم من يدعي العشق فيه ومنهم من يقول بالحلول ومنهم يسمع على وجه الهوى واللعب. وكلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام. وهذا الشرح يطول وقد صنفت كتباً ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى منها تلبيس إبليس. والمقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهماً له فأنت تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتترك بنيات الطريق ولا تقلد في دينك الرجال. فإن فعلت فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى. واحذر جمود النقلة وانبساط المتكلمين وجموع المتزهدين وشره أهل الهوى ووقوف العلماء ومن أيده الله تعالى بلطفه رزقه الفهم وأخرجه عن ربقة التقليد وجعله أمة وحده في زمانه لا يبالي بمن عبث ولا يلتفت إلى من لام. قد سلم زمامه إلى دليل واضح السبيل. عصمنا الله وإياكم من تقليد المعظمين وألهمنا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه درة الوجود ومقصود الكون صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ورزقنا اتباعه مع أتباعه.
اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: فتارة فقر وتارة غنى وتارة عز وتارة ذل وتارة يفرح الموالي وتارة يشمت الأعادي. فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال وهو تقوى الله عز وجل فإنه إن استغنى زانته وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر وإن عوفي تمت النعمة عليه وإن ابتلى حملته ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه. لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير والتقوى أصل السلامة حارس لا ينام يأخذ باليد عند العثرة ويوافق على الحدود. ولازم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة وفي المرض إلا العافية.
تأملت أمراً عجيباً وأصلاً ظريفاً وهو انهيال الابتلاء على المؤمن. وعرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها. وخصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة. فقلت: سبحان الله ههنا بين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين. والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام فبالله عليكم يا إخواني تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان يكون. وقيسوا بين تلك الحالة وحالة آدم عليه السلام ثم زنوا بميزان العقل عقبى تلك الخطيئة وثمرة هذا الصبر. واجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى. وإن اللذات لتعرض على المؤمن فمتى لقيها في صف حربه وقد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب هزم. وكأني أرى الواقع في بعض أشراكها ولسان الحال يقول له قف مكانك أنت وما اخترت لنفسك. فغاية أمره الندم والبكاء. فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش. وكم من شخص زلت قدمه فما ارتفعت بعدها. ومن تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا: ومن تدبر أحوالهم قاس ما بينهم وبين أخيهم من الفروق. وإن كانت توبتهم قبلت لأنه ليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح. ورب عظم هيض لم ينجبر فإن جبر فعلى وهى. فتيقظوا إخواني لعرض المشتهيات على النفوس واستوثقوا من لجم الخيل. وانتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة. فربما مد الوادي فراح بالركب.
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه فإن كان راضياً بالأقدار غير قنوط من فضل الله عز وجل فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ لأن هناك يصلح الإيمان ويهزم الشيطان وهناك تبين مقادير الرجال. وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى: وكذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً وطال الأمر عليه لم ييأس من الفرج فأخذ ولده الآخر ولم ينقطع أمله من فضل ربه: وكذلك قال زكريا عليه السلام: فإياك أن تستطيل مدة الإجابة وكن ناظراً إلى أنه المالك وإلى أنه الحكيم في التدبير والعالم بالمصالح وإلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك وإلى أنه يريد أن يرى تضرعك وإلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك إلى غير ذلك. وإلى أنه يبتليك بالتأخير لتحارب وسوسة إبليس. وكل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله وتوجب الشكر له إذ أهلك بالبلاء للالتفات إلى سؤاله وفقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله.
لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا باجتلاب المصالح ودفع المؤذي ركب فيه الهوى ليكون سبباً لجلب النافع. والغضب ليكون سبباً لدفع المؤذي. ولولا الهوى في المطعم ما تناول الطعام فلم يقم بدنه فجعل له إليه ميل وتوق. فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق وكذلك في المشرب والملبس والمنكح. وفائدة المنكح من وجهين أحدهما: إبقاء الجنس وهو معظم المقصود والثاني: دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها. ولولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد ففات النسل وآذى المحتقن. فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود وأما الجاهدون فإنهم مالوا مع الشهوة والهوى ولم يفهموا مقصود وضعها فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه وفاتهم ما خلقوا لأجله وأخرجهم هواهم إلى فساد المال وذهاب العرض والدين ثم أداهم إلى التلف. وكم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ليحرك طبعه بالمستجد فما كان بأسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتعجل تلفه. وكذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه وبمن يحبه. فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا ولم تخلق لنفس الالتذاذ وإنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها رشد إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمة أوفى حظاً من الآدمي منها. فطوبى لمن فهم حقائق الوضع ولم يمل به الهوى عن فهم حكم المخلوقات.
من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة. ولقد تفكرت في أقوام أعرفهم يقرون بالزنا وغيره فأرى من تعترهم في الدنيا مع جلادتهم ما لا يقف عند حد. وكأنهم قد ألبسوا ظلمة فالقلوب تنفر عنهم. فإن اتسع لهم شيء فأكثره من مال الغير وإن ضاق بهم أمر أخذوا يتسخطون على القدر. هذا وقد شغلوا بهذه الأوساخ عن ذكر الآخرة. ثم عكست فتفكرت في أقوام صابروا الهوى وتركوا ما لا يحل. فمنهم من قد أينعت له ثمرات الدنيا من قوت مستلذ ومهاد مستطاب وعيش لذيذ وجاء عريض فإن ضاق بهم أمر وسعه الصبر وطيبه الرضى ففهمت بالحال معنى قوله تعالى: " إِنَّهُ
|