الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
وكذبوا.. ففي القرآن المكي، وفي أوائل الدعوة، قال الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].. {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} [سبأ: 28] ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء!{والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون}..فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحساباً وجزاء، يؤمنون بأن الله لابد مرسل للناس رسولاً يوحي إليه؛ ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به؛ بل إنهم ليجدون داعياً يدعوهم إلى هذا التصديق. كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم، ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله؛ وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة.. فهي طبيعة نفس.. متى صدقت بالآخرة واستيقنتها، صدقت بهذا الكتاب وتنزيله، وحرصت على الصلة بالله وطاعته.. وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته.ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب.. مشهد الظالمين.. (أي المشركين) الذين يفترون على الله الكذب، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له. أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن.. مشهد هؤلاء الظالمين- الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم- وهم في غمرات الموت، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب، ويطلبون أرواحهم. والتأنيب يجبه وجوههم، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم.{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون}..وقد ورد عن قتادة وابن عباس- رضي الله عنهم- أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي؛ وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وادعوا أن الله أوحى إليهم. أما الذي قال سأنزل مثلما أنزل الله- أو قال أوحي إلي كذلك- ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لما نزلت الآية التي في المؤمنون: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه. فلما انتهى إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت عليّ»فشك عبدالله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إلي كما أوحى إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال! فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين. فذلك قوله: {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}.. (رواه الكلبي عن ابن عباس)..والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين (أي المشركين) مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب. الظالمون في غمرات الموت وسكراته- ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب- والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب، وهم يطلبون أرواحهم للخروج! وهم يتابعونهم بالتأنيب:{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون}..وجزاء الاستكبار العذاب المهين، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح.. وكله مما يضفي على المشهد ظلالاً مكروبة، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق!ثم في النهاية، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى، الذي كذبوا عليه، وها هم أولاء بين يديه، يواجههم في موقف الكربة والضيق:{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}!فما معكم إلا ذواتكم مجردة؛ ومفردة كذلك. تلقون ربكم أفراداً لا جماعة. كما خلقكم أول مرة أفراداً، ينزل أحدكم من بطن أمه فرداً عريان أجرد غلبان!ولقد ند عنكم كل شيء، وتفرق عنكم كل أحد؛ وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه؛{وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم}..تركتم كل شيء من مال وزينة، وأولاد ومتاع، وجاه وسلطان.. كله هناك متروك وراءكم، ليس معكم شيء منه، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير!{وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء}..هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم، وتقولون: إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم كالذي كانوا يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} سواء كانوا ناساً من البشر كهاناً أو ذوي سلطان؛ أو كانوا تماثيل من الحجر، أو أوثاناً، أو جناً أو ملائكة، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة، ويجعلون له شركاً في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة.فأين؟ أين ذهب الشركاء والشفعاء؟{لقد تقطع بينكم}..تقطع كل شيء. كل ما كان موصولاً. كل سبب وكل حبل!{وضل عنكم ما كنتم تزعمون}..وغاب عنكم كل ما كنتم تدّعونه من شتى الدعاوى. ومنها أولئك الشركاء، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب!إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزاً عنيفاً. وهو يشخص ويتحرك؛ ويلقي ظلاله على النفس، ويسكب إيحاءاته في القلب، ظلاله الرعيبة المكروبة، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة..إنه القرآن.. إنه القرآن..
.تفسير الآيات (95- 110): {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها.. في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق؛ وعن الروعة الباهرة، التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها: وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة.. إنها في كل لمحة منها، وفي كل موقف، وفي كل مشهد، تمثل الروعة الباهرة.. الروعة التي تبده النفس، وتشده الحس، وتبهر النفس أيضاً، وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهوراً!... وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال، مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها، حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها، في المجرى المتصل المتدفق.وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة، تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا.. مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد.. وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة، وبالحيوية الدافقة، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي، وبالتجمع والاحتشاد، ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة..... الخ... الخ...إن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس، على أتمها وأوفاها.. إن القارئ يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقاً هي ومدلولاتها في التماع ولألاء. وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس، كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها. والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها، ويهدفان إليها!إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقة لامعة رائعة تجيء من المجهول! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ..والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول. يتناسق معه في قوة الانبثاق، وفي شدة اللألاء.وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة، يتابعها الحس في بهر! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعاً مرة أخرى مع موجة جديدة.. كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل!وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة. والمشاهد تتوالى- وكدت أقول: تتواثب- من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء..والجمال هو السمة البارزة هنا.. الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة.. المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية. والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي، وفي دلالتها. والمدلولات أيضاً- على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة- تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية.. فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء!ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه}.فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر.. للنظر والتملي والاستمتاع الواعي.ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي، حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع.. إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع.. فيتحدث عنه- سبحانه- حديثاً لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتها: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}..وبعد، فنحن- في هذا الدرس- أمام كتاب الكون المفتوح، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة. فلا يقفون أمام خوارقه وآياته، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه.. وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود، كأنما نهبط إليه اللحظة، فيقفنا أمام معالمه العجيبة، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين!ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار.. خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد.. لا ندري كيف انبثقت، ولا ندري من أين جاءت- إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله. لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها!وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة.. الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة.. وهي خارقة لا يعدلها شيء مما يطلبه الناس من الخوارق.. وهي تتم في كل يوم وليلة. بل تتم في كل ثانية ولحظة..وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية.. من نفس واحدة.. وأمام تكاثرها بتلك الطريقة.وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات.. وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة، والزروع النامية، والثمار اليانعة. وهي حشد من الحيوات والمشاهد، ومجال للتأمل والريادة. لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح.وها هو ذا الوجود كله، جديداً كأنما نراه أول مرة. حياً يعاطفنا ونعاطفه، متحركاً تدب الحركة في أوصاله، عجيباً يشده الحواس والمشاعر. ناطقاً بذاته عن خالقه. دالاً بآياته على تفرده وقدرته..وعندئذ يبدو الشرك بالله- والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض- غريباً غريباً على فطرة هذا الوجود وطبيعته. وشائهاً شائهاً في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله. وتسقط حجة الشرك والمشركين، في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب..والمنهج القرآني- في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية؛ وفي بيانه لموقف العبودية منها؛ يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون، وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة، وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه، وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك.. يجعل من هذه الحقائق مؤثراً موحياً. وبرهاناً قوياً على ضرورة ما يدعو إليه البشر: من العبودية لله وحده، وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده.وكذلك يجيء في السياق- بعد استعراض صفحة الوجود؛ وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان- الدعوة إلى عبادة الله وحده، أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها، في حياة العباد كلها؛ وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة، واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها.وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}.. نموذجاً للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة، بإفراد الألوهية لله وحده، مع تقرير أنه- سبحانه- {خالق كل شيء}.. {وهو على كل شيء وكيل}..
|