/ سئل شيخ الإسلام عن معنى قوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله على النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} الآية [التوبة:117]. والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله، الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه علىهم ـ معصومون من الإقرار على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:72، 73] فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والله ـ تعالى ـ قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عـن آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وغيرهم. فقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقال الخليل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، وقال هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ علىنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وقال موسى: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إليكَ} [الأعراف:155، 156]، وقال تعالى: {َلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 143].
وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ توبة داود وسليمان، وغيرهما من الأنبياء والله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[ سورة النصر].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبَرَد والماء البارد)، وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت،/أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، علانيته وسره، أوله وآخره)، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطئي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة.
وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.
فإذا قال القائل:أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟كان جاهلا؛لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم،فكيف يقال:إنهم لا يحتاجون إليها،فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم.
وإذا قال القائل:فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب،والاستغفار كذلك،/قيل له:الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة،فأما ما حصل منه توبة،فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة،كما قال بعض السلف:كان داود بعد التوبة أحسن منه حالاً قبل الخطيئة،ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر،فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء،وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصاً ولا عيباً،بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا، وأقوي عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم،فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها.
ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَض عُرَي الإسلام عُرْوَة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وقد قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68 ـ 70].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن اللّه يحاسب عبده يوم القيامة، فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها فيقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم يارب، وهو مشفق / من كبارها أن تظهر، فيقول: إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فهنالك يقول: رب، إن لي سيئات ما أراها بَعْدُ.
فالعبد المؤمن إذا تاب وبدَّل اللّه سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه اللّه بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حَفِظَه خير من حِفْظِه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض.
واللّه ـ تعالى ـ يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع، والخشوع للّه والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش، والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشِّبَع والرِّي والعافية والغني والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته، والرغبة فيه وشكر نعمة اللّه علىه، والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وينبغي أن يعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من اللّه، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها.
/ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على اللّه، وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات، فهو أفضل المحبين للّه، وأفضل المتوكلين على اللّه، وأفضل العابدين له، وأفضل العارفين به، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح: (أن الناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم، فيقول: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها، نفسي، نفسي، نفسي. ويطلبونها من نوح فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها، نفسي، نفسي، نفسي. ويطلبونها من الخليل، ثم من موسى، ثم من المسيح فيقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). قال: (فيأتوني، فأنطلق ، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تُسْمَع، وسل تُعْطَ، واشفع تشفع، فأقول: أي رب، أمتي، فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة).
فالمسيح ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بكمال عبوديته للّه، وكمال مغفرة اللّه لـه؛ إذ ليس بين المخلوقين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد،/ ومحض الجود والإحسان من الرب ـ عز وجل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت يارسول اللّه؟ قال: ( ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي اللّه برحمة منه وفضل ).
وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: (يأيها الناس، توبوا إلى ربكم، فو الذي نفسي بيده، إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في إلىوم أكثر من سبعين مرة )، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفـر اللّه في إلىوم مائة مرة)، فهو صلى الله عليه وسلم لكمال عبوديته للّه، وكمال محبته له، وافتقاره إليه، وكمال توبته واستغفاره، صار أفضل الخلق عند اللهّ، فإن الخير كله من اللّه، وليس للمخلوق من نفسه شيء، بل هو فقير من كل وجه، واللّه غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه، فكلما ازداد العبد تواضعاً وعبودية ازداد إلى اللّه قرباً ورفعة، ومن ذلك توبته واستغفاره.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون) رواه ابن ماجه والترمذي.
/ سورة يونس
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصــل
قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]، وقـولـه: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام:96]، وقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] ، وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّي عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]،دليل على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب، فقوله:{لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} إن علق بقوله:{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} كان الحكم مختصاً بالقمر،وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما،ويشهد للأول قوله في الأهلة فإنه موافق لذلك،ولأن كون الشمس ضياء والقمر نوراً،لا يوجب علم عدد السنين والحساب،بخلاف تقدير القمر منازل، فإنه هو الذي / يقتضي علم عدد السنين والحساب،ولم يذكر انتقال الشمس في البروج.
ويؤيد ذلك قوله:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ} الآية [التوبة:36]،فإنه نص على أن السنة هلإلىة،وقوله:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]،يؤيد ذلك،لكن يدل على الآخر قوله:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12].
وهذا ـ واللّه أعلم ـ لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب، وما جاءت به الشريعة من اعتبار الشهر والعام الهلإلى دون الشمسي، أن كل ما حَدَّ من الشهر والعام ينقسم في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي، فأما الشهر الهلإلى فهو طبيعي، وسنته عددية.
وأما الشهر الشمسي، فعددي، وسنته طبيعية، فأما جعل شهرنا هلإلىاً فحكمته ظاهرة؛ لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع؛ لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله خلل، ولا يفتقر إلى حساب، بخلاف الاجتماع، فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب، وبخلاف الشهر الشمسي لو ضبط.
وأما السنة الشمسية، فإنها وإن كانت طبيعية، فهي من جنس / الاجتماع ليس أمراً ظاهراً للحس، بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل، وإنما الذي يدركه الحس تقريب ذلك، فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها الربيع أمر ظاهر، بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمي برج كذا، أو محاذاتها لإحدي نقطتي الرأس، أو الذنب، فإنه يفتقر إلى حساب.
ولما كانت البروج اثني عشر، فمتي تكرر الهلإلى اثني عشر، فقد انتقل فيها كلها، فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا، أو شرطاً، إما بأصل الشرع كالصيام والحج، وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء، وصوم الكفارة والنَّذْر، وإما بالشرط كالأجل في الدَّيْن والخيار، والأيمان وغير ذلك.
/ وقال:
هذه تفسير آيات أشكلت حتي لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها.
منها قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء} [يونس: 66]، ظن طائفة أن {ما} نافية، وهو خطأ، بل هي استفهام، فإنهم يدعون معه شركاء، كما أخبر عنهم في غير موضع. فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون؛ لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة.
ولهذا قال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23]، ولو أراد النفي لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء، بل بين أن المشرك لا علم معه إن هو إلا الظن والخَرْصُ [الخَرْصُ: الكذب، وكل قول بالظن. انظر : القاموس المحيط، مادة: خرص]، كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10].
/ سورة هود
وقال:
فصــل
وقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود:17]، وهذا يعم جميع من هو على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه. فالبينة: العلم النافع، والشاهد الذي يتلوه: العمل الصالح، وذلك يتناول الرسول ومن اتبعه إلى يوم القيامة، فإن الرسول على بينة من ربه، ومتبعيه على بينة من ربه.
وقال في حق الرسول: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} [الأنعام:57]، وقال في حق المؤمنين: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد:14]، فذكر هذا بعد أن ذكر الصنفين في أول السورة، فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} الآيات، إلى قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد: 1 - 14].
/وقال أبو الدرْدَاء: لا تهلك أمة حتي يتبعوا أهواءهم، ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدي، وقال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]،فمن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة،والبصيرة هي البينة. وقال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية [الأنعام:122]. فالنور الذي يمشي به في الناس هو البينة والبصيرة، وقال:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [النور: 35].
قال أُبَي بن كعب وغيره: هو مثل نور المؤمن، وهو نوره الذي في قلب عبده المؤمن الناشئ عن العلم النافع، والعمل الصالح، وذلك بينة من ربه. وقال: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22]، فهذا النور الذي هو عليه وشرح الصدر للإسلام هو البينة من ربه، وهو الهدي المذكور في قوله: {أُوْلَـئِكَ على هُدًي مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] واستعمل في هذا حرف الاستعلاء؛ لأن القلب لا يستقر ولا يثبت إلا إذا كان عالمًا موقنًا بالحق، فيكون العلم والإيمان صبغة له ينصبغ بها، كما قال: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، ويصير مكانة له، كما قال:{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 135]، والمكان والمكانة: قد يراد به ما يستقر الشيء علىه، وإن لم يكن محيطًا به كالسقف ـ مثلا ـ وقد يراد به ما يحيط به.
فالمهتدون لما كانوا على هدي من ربهم ونور وبينة وبصيرة، صار / مكانة لهم استقروا علىها، وقد تحيط بهم، بخلاف الذين قال فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ على وَجْهِه} [الحج: 11]، فإن هذا ليس ثابتًا مستقرًا مطمئنًا، بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه، فقد يطمئن إذا أصابه خير، وقد ينقلب على وجهه ساقطًا في الوادي.
وكذلك فرق بين من أسس بنيانه على تقوي من الله ورضوان، وبين من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، وكذلك الذين كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها، وشواهد هذا كثير.
فقد تبين أن الرسول ومن اتبعه على بينة من ربهم وبصيرة، وهدي ونور، وهو الإيمان الذي في قلوبهم، والعلم والعمل الصالح، ثم قال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17]، والضمير في {مِّنْهُ} عائد إلى الله ـ تعالى ـ أي: ويتلو هذا الذي هو على بينة من ربه شاهد من الله،والشاهد من الله، كما أن البينة التي هو علىها المذكورة من الله ـ أيضًا.
وأما قول من قال: (الشاهد) من نفس المذكور وفسره بلسانه، أو بعلى بن أبي طالب، فهذا ضعيف؛ لأن كون شاهد الإنسان منه لا يقتضي أن يكون الشاهد صادقًا، فإنه مثل شهادة / الإنسان لنفسه، بخلاف ما إذا كان الشاهد من الله، فإن الله يكون هو الشاهد، وهذا كما قيل في قوله: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، إنه على فهذا ضعيف؛ لأن شهادة قريب له قد اتبعه على دينه ولم يهتد إلا به لا تكون برهانًا للصدق، ولا حجة على الكفر، بخلاف شهادة من عنده علم الكتاب الأول فإن هؤلاء شهادتهم برهان ورحمة، كما قال في هذه السورة: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، وقال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقال: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس:94] وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114]، وهذا الشاهد من الله هو القرآن.
ومن قال: إنه جبريل، فجبريل لم يقل شيئًا من تلقاء نفسه، بل هو الذي بلغ القرآن عن الله، وجبريل يشهد أن القرآن منزل من الله، وأنه حق، كما قال:{لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إليكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، والذي قال هو جبريل. قال: يتلوه، أي: يقرؤه، كما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، أي : إذا قرأه جبريل فاتبع ما قرأه. وقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5].
ومن قال: الشاهد لسانه، وجعل الضمير المذكور عائدًا على القرآن ولم يذكر؛ لأنه جعل البينة هي القرآن، ولو كانت البينة هي القرآن / لما احتاج إلى ذلك، وقد قال: على بينة من ربه، فقد ذكر أن القرآن من الله، وقد علم أنه نزل به جبريل على محمد ، وكلاهما بلغه وقرأه، فقوله: {وَيَتْلُوهُ} جبريل أو محمد، تكرير لافائدة فيه؛ ولهذا لم يذكر مثل ذلك في القرآن.
وأيضًا، فكونه على القرآن لم نجد لذلك نظيرًا في القرآن؛ فإن القرآن كلام الله واحد لا يكون علىه، وإذا كان المراد على الإيمان بالقرآن والعمل به، فهذا الذي ذكرناه: إن البينة هي الإيمان بما جاء به الرسول، وهو إخباره أنه رسول الله. وأن الله أنزل القرآن علىه. ولما أنزلت هذه السورة وهي مكية، لم يكن قد نزل من القرآن قبلها إلا بعضه، وكان المأمور به حينئذ هو الإيمان بما نزل منه، فمن آمن حينئذٍ بذلك ومات على ذلك كان من أهل الجنة.
وأيضًا، فتسمية جبريل شاهدًا، لا نظير له في القرآن، وكذلك تسمية لسان الرسول شاهدًا، وتسمية على شاهدًا، لا يوجد مثل ذلك في الكتاب والسنة، بخلاف شهادة الله؛ فإن الله أخبر بشهادته لرسوله في غير موضع، وسمي ما أنزله شهادة منه في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ} [البقرة:140]، فدل على أن كلام الله الذي أنزله وأخبر فيه بما أخبر شهادة منه.
/وهو ـ سبحانه ـ يحكم ويشهد، ويفتي ويقص، ويبشر ويهدي بكلامه، ويصف كلامه بأنه يحكم ويفتي، ويقص ويهدي، ويبشر وينذر، كما قال: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127]، { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء: 176]، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وقال: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصلينَ} [الأنعام:57]، وقال: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وكذلك سمي الرسول هاديًا فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشوري: 52]، كما سماه بشيرًا ونذيرًا، وسمي القرآن بشيرًا ونذيرًا، فكذلك لما كان هو يشهد للرسول والمؤمنين بكلامه الذي أنزله، وكان كلامه شهادة منه، كان كلامه شاهدًا منه، كما كان يحكم ويفتي، ويقص ويبشر وينذر.
ولما قيل لعلى بن أبي طالب: حَكَّمتَ مخلوقًا. قال: ما حكَّمتُ مخلوقًا، وإنما حكمتُ القـرآن. فإن الذي يحكم به القرآن هو حكم الله، والذي يشهد به القرآن هو شهادة الله ـ عز وجـل ـ قال عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم ـ وقد كان إمامًا، وأخذ التفسير عن أبيه زيد، وكان زيد إمامًا فيه، ومالك وغيره أخذوا عنه التفسير، وأخذه عنه عبد الله / بن وَهْب [هو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري، أحد الأثبات والأئمة الأعلام، وصاحب التصانيف، طلب العلم وله سبع عشرة سنة، صحب مالكًا عشرين سنة وصنف الموطأ الكبير والصغير وحدث بمائة ألف حديث، ولد سنة 521هـ، وتوفي في شعبان سنة 791هـ] صاحب مالك، وأصْبَغ بن الفرج [هو أبو عبد الله أَصْبَغ بن الفرج بن سعيد بن نافع، الأموي، مفتي الديار المصرية وعالمها، المالكي، وثقه أحمد ابن عبد الله، وقال ابن معين: (كان من أعلم خلق الله برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة، متي قالها مالك، ومن خالفه فيها)، وله مصنفات، ولد بعد سنة 051هـ، وتوفي في سنة 522هـ] الفقيه، قال:ـ في قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود:17] ـ قال رسول الله: (كان على بينة من ربه) والقرآن يتلوه شاهد ـ أيضًا ـ لأنه من الله.
وقد ذكر الزَجَّاج فيما ذكره من الأقوال: ويتلو رسول الله القرآن، وهو شاهد من الله. وقال أبو العإلىة: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}: هو محمد، {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}: القرآن، قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، ومجاهد، وأبي صالح، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضحاك، وقتادة، والسدِّي، وخَصِيف، وابن عُيينَةَ نحو ذلك. وهذا الذي قالوه صحيح، ولكن لا يقتضي ذلك أن المتبعين له ليسوا على بينة من ربهم، بل هم على بينة من ربهم.
وقد قال الحسن البصري: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} قال: المؤمن على بينة من ربه، ورواه ابن أبي حاتم، وروي عن الحسين بن على{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} يعني: محمدًا شاهد من الله، وهي تقتضي أن يكون الذي على البينة من شهد له.
وقول القائل: من قال: هو محمد، كقول من قال: هو جبريل، فإن كلاهما بلَّغ القرآن، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس،/ فاصطفي جبريل من الملائكة، واصطفي محمدًا من الناس. وقال في جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، وقال في محمد: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] وكلاهما رسول من الله، كما قال: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 1 ـ 3] فكلاهما رسول من الله بلغ ما أرسل به، وهو يشهد أن ما جاء به هو كلام الله، وأما شهادتهم بما شهد به القرآن فهذا قدر مشترك بين كل من آمن بالقرآن، فإنه يشهد بكل ما شهد به القرآن؛ لكونه آمن به، سواء كان قد بلغه أو لم يبلغه.
ولهذا كان إيمان الرسول بما جاء به غير تبليغه له، وهو مأمور بهذا وبهذا وله أجر على هذا وهذا، كما قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، ولهذا كان يقول: أشهد أني عبد الله ورسوله، فشهادة جبريل ومحمد بما شهد به القرآن من جهة إيمانهما به، لا من جهة كونهما مرسلين به، فإن الإرسال به يتضمن شهادتهما أن الله قاله، وقد يرسل غير رسول بشيء، فيشهد الرسول أن هذا كلام المرسل وإن لم يكن المرسل صادقًا ولا حكيمًا، ولكن علم أن جبريل ومحمدًا يعلمان أن الله صادق حكيم، فهما يشهدان بما شهد الله به.
وكذلك الملائكة والمؤمنون، يشهدون بأن ما قاله الله فهو حق /،وأن الله صادق حكيم، لا يخبر إلا بصدق،ولا يأمر إلا بعدل {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام:115].
فقد تبين أن شهادة جبريل ومحمد هي شهادة القرآن، وشهادة القرآن هي شهادة الله ـ تعالى ـ والقرآن شاهد من الله، وهذا الشاهد يوافق ويتبع ذلك الذي على بينة من ربه، فإن البينة والبصيرة والنور والهدي الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قد شهد القرآن المنزل من الله بأن ذلك حق.
و{وَيَتْلُوهُ} معناه: يتبعه، كما قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة:121]، أي: يتبعونه حق اتباعه، وقال: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2]، أي: تبعها، وهذا قَفَاه إذا تبعه. وقد قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، فهذا الشاهد يتبع الذي على بينة من ربه، فيصدقه ويزكيه، ويؤيده ويثبته، كما قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} [النحل: 102]، وقال:{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عليكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، وقال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22].
وقد سمي الله القرآن سلطانًا في غير موضع، فإذا كان السلطان المنزل من الله يتبع هذا المؤمن، كان ذلك مما يوجب قوته وتسلطه علمًا وعملاً، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}
[الإسراء:82]، /{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الآية [التوبة: 124].
وقال جُنْدُب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، فهم كانوا يتعلمون الإيمان، ثم يتعلمون القرآن. وقال بعضهم في قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور:35]، قال: نور القرآن على نور الإيمان، كما قال: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشوري:52]، وقـال السُّدِّي في قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
فتبين أن قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [هود:17]، يعني هدي الإيمان، {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي من الله، يعني: القرآن شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه، وقال: {وَيَتْلُوه} لأن الإيمان هو المقصود؛ لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان وزيادته.
ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه ويدخل به الجنة، والقرآن بلا إيمان لا ينفع في الآخرة؛ بل صاحبه منافق؛ كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُتْرجَّة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر/، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها).
ولهذا جعل الإيمان بينة، وجعل القرآن شاهدًا؛ لأن البينة من البيان،و(البينة):هي السبيل البينة،وهي الطريق البينة الواضحة، وهي ـ أيضًا ـ ما يبين بها الحق،فهي بينة في نفسها مبينة لغيرها،وقد تفسر بالبيان وهي الدلالة والإرشاد، فتكون كالهدي،كما يقال: فلان على هدي وعلى علم،فيفسر بمعنى المصدر والصفة والفاعل.ومنه قوله:{أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه:133]،أي: بيان ما فيها أو يبين ما فيها،أو الأمر البين فيها. وقد سُمِّي الرسول بينة كما قال:{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} [البينة:1، 2]، فإنه يبين الحق، والمؤمن على سبيل بينة ونور من ربه،والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له، فهو يشهد للمؤمن بما هو علىه،وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله؛لأن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال،كما في الصحيحين عن حُذَيْفَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة).
وأيضًا، فالإيمان ما قد أمر الله به.
وأيضًا، فالإيمان إنما هو ما أخبر به الرسول، وهذا أخبر به الرسول لكن الرسول له وحيان: وحي تكلم الله به يتلي، ووحي لا يتلي فقال:/ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} الآية [الشوري: 52]، وهو يتناول القرآن والإيمان. وقيل : الضمير في قوله: {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشوري:52]، يعود إلى الإيمان، ذكر ذلك عن ابن عباس. وقيل: إلى القرآن. وهو قول السُدِّي، وهو يتناولهما، وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه، وهو الوحي الذي جاء بالإيمان والقرآن.
فقد تبين أن كلاهما من الله نور وهدي منه، هذا يعقل بالقلب، لما قد يشاهد من دلائل الإيمان، مثل دلائل الربوبية والنبوة، وهذا يسمع بالآذان، والإيمان الذي جعل للمؤمن هو مثل ما وعد الله به في قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، أي: أن القرآن حق، فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن، وهو مثل ما فعل من نصر رسوله والمؤمنين يوم بدر، وغير يوم بدر. فإنه آيات مشاهدة، صدقت ما أخبر به القرآن ـ ولكن ـ المؤمنون كانوا قد آمنوا قبل هذا.
وقيل: نزول أكثر القرآن الذي ثبت الله به لنبيه وللمؤمنين؛ ولهذا قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] فهو يشهد لرسوله بأنه صادق بالآيات الدالة على نبوته، وتلك آمن بها المؤمنون ثم أنزل من القرآن شاهدًا له، ثم أظهر آيات معاينة تبين لهم أن القرآن حق.
/ فالقرآن وافق الإيمان، والآيات المستقبلة وافقت القرآن والإيمان؛ ولهذا قال: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود: 17] فقوله: {وَمِن قَبْلِهِ}: يعود الضمير إلى الشاهد الذي هو القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} الآية [الأحقاف: 10]، ثم قال: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} الآية. فقوله: {وَمِن قَبْلِهِ} الضمير يعود إلى القرآن. أي: من قبل القرآن، كما قاله ابن زيد. وقيل: يعود إلى الرسول، كما قاله مجاهد، وهما متلازمان.
وقوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} فيه وجهان: قيل: هو عطف مفرد، وقيل: عطف جملة. قيل: المعنى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}، ويتلوه ـ أيضًا ـ من قبله كتاب موسى، فإنه شاهد بمثل ما شهد به القرآن، وهو شاهد من الله، وقيل: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} جملة، ولكن مضمون الجملة فيها تصديق القرآن، كما قال في الأحقاف.
وقوله تعالى:{أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يدل على أن قوله:{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} تتناول المؤمنين،فإنهم آمنوا بالكتاب الأول والآخر،كما تتناول النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك يعود إليهم الضمير، فإنهم مؤمنون به بالشاهد من الله، فالإيمان به إيمان بالرسول والكتاب الذي قبله.
/ ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]، وروي الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه إلا وجدت تصديقه في كتاب الله، حتي بلغني أنه قال: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار)، قال سعيد: فقلت: أين هذا في كتاب الله؟ حتي أتيت على هذه الآية: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قال: الأحزاب: هي الملل كلها.
وقوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي كل من كان على بينة من ربه، فإنه يؤمن بالشاهد من الله، والإيمان به إيمان بما جاء به موسى، قال:{أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وهم المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم من أصحابه وغيرهم إلى قيام الساعة، ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، والأحزاب هم: أصناف الأمم، الذين تحزبوا وصاروا أحزابًا، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5].
وقد ذكر الله طوائف الأحزاب في مثل هذه السورة وغيرها ، وقد قال تعالى عن مكذبي محمد صلى الله عليه وسلم :{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} [ص:11] ،وهم الذين قال فيهم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ علىهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32] ، وقال عن أحزاب النصارى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الآيات [ مريم: 37].
وأما من قال: الضمير في قوله:{أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعود على أهل الحق قال: إنه موسى وعيسى ومحمد. فإنه إن أراد بهم من كان مؤمنًا بالكتابين قبل نزول القرآن، فلم يتقدم لهم ذكر، والضمير في قوله: {بِهِ} مفرد، ولو آمن مؤمن بكتاب موسى دون الإنجيل بعد نزوله وقيام الحجة عليه به لم يكن مؤمنًا.
وهذان القولان حكاهما أبو الفرج ولم يسم قائلهما، والبغوي وغيره لم يذكروا نزاعًا في أنهم من آمن بمحمد، ولكن ذكروا قولاً أنهم من آمن به من أهل الكتاب، وهذا قريب. ولعل الذي حكي قولهم أبو الفرج أرادوا هذا، وإلا فلا وجه لقولهم.
ومن العجب، أن أبا الفرج ذكر بعد هذا في الأحزاب أربعة أقوال :
أحدها: أنهم جميع الملل، قاله سعيد بن جبير.
/والثاني: اليهود والنصارى، قاله قتادة.
والثالث: قريش، قاله السدي.
والرابع: بنو أمية وبنو المغيرة، قال: ـ أي: أبي طلحة بن عبد العزي ـ قاله مقاتل.
وهذه الآية تقتضي أن الضمير يعود إلى القرآن في قوله:{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ}، وكذلك: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أنه القرآن، ودليله قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} [هود: 17]، وهذا هو القرآن بلا ريب، وقد قيل: هو الخبر المذكور، وهو أنه من يكفر به من الأحزاب، وهذا ـ أيضًا ـ هو القرآن، فعلم أن المراد هو الإيمان بالقرآن، والكفر به باتفاقهم، وأنه من قال في أولئك أنهم غير من آمن بمحمد لم يتصور ما قال.
وقد تقدم في قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} وجهان: هل هو عطف جملة أو مفرد؟ لَكنْ الأكثرون على أنه مفرد. وقال الزجاج: المعنى: وكان من قبل هذا كتاب موسى. دليل على أمر محمد، فيتلون كتاب موسى عطفًا على قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي: ويتلو كتاب موسى؛ لأن موسى وعيسى بُشِّرا بمحمد في التوراة والإنجيل، ونُصِّبَ إماما على الحال.
/ قلت: قد تقدم أن الشاهد يتلو على من كان على بينة من ربه، أي: يتبعه شاهدًا له بما هو عليه من البينة. وقوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} كمن لم يكن، قال الزجاج: وترك المعادلة؛ لأن فيما بعده دليلاً علىه، وهو قوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24]، قال ابن قتيبة: لما ذكر قبل هذه الآية قومًا ركنوا إلى الدنيا وأرادوها، جاء بهذه الآية، وتقدير الكلام: أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟ فاكتفي من الجواب بما تقدم إذ كان دليلاً علىه، وقال ابن الأنباري: إنما حذف لانكشاف المعنى، وهذا كثير في القرآن.
قلت: نظير هذه الآية من المحذوف: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، كمن ليس كذلك، وقد قال بعد هذا: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} ، وهذا هو القسم الآخر المعادل لهذا الذي هو على بينة من ربه، وعلى هذا يكون معناها أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم، ويكون ـ أيضًا ـ معناها:{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي: بصيرة في دينه، كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهذا كقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية [الأنعام: 122]. وكقوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد:14] وقوله:{أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي} الآية [يونس:35].
والمحذوف في مثل هذا النظم قد يكون غير ذلك، كقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] أي: تجعلون له من ينشأ في الحلية، ولابد من دليل على المحذوف، وقد يكون المحذوف مثل أن يقال: أفمن هذه حاله يذم أو يطعن عليه أو يعرض عن متابعته، أو يفتن أو يعذب، كما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} [فاطر: 8].
وقد قيل في هذه الآية: أن المحذوف: { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} فرأى الباطل حقًا، والقبيح حسنًا، كمن هداه الله فرأي الحق حقًا والباطل باطلاً والقبيح قبيحًا والحسن حسنًا، وقيل: جوابه تحت قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، لكن يرد عليه أن يقال: الاستفهام ما معناه إلا أن تقدر. أي: هذا تقدر أن تهديه، أو ربك؟ أو تقدر أن تجزيه كما قال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عليه وَكِيلًا} [الفرقان:43]. ولهذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} [فاطر: 8]. وكما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍ} الآية [الجاثية:23]. وعلى هذا يكون معناها كمعنى قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14].
وعلى هذا، فالمعنى هنا: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} يذم ويخالف ويكذب ونحو ذلك، كقوله: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ} [الأنعام: 57]، وحذف جواب / الشرط، وكقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [العلق: 11 ـ 13].
فقد تبين أن معنى الآية من أشرف المعاني وهذا هو الذي ينتفع به كل أحد، وأن الآية ذكرت من كان على بينة من ربه، من الإيمان الذي شهد له القرآن، فصار على نور من ربه وبرهان من ربه على مادلت عليه البراهين العقلية والسمعية، كما قال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174]، فالنور المبين المنزل يتناول القرآن. قال قتادة: بينة من ربكم، وقال الثَّوْرِي: هو النبي صلي الله عليه وسلم، وقال البغوي: هذا قول المفسرين ولم أجده منقولاً عن غير الثاني، ولا ذكره ابن الجوزي عن غيره.
وذكر في البرهان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحجة. والثاني: أنه الرسول. وذكر أنه القرآن عن قتادة. والذي رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بالإسناد الثابت أنه بينة من الله، والبينة والحجة تتناول آيات الأنبياء التي بعثوا بها، فكل ما دل على نبوة محمد صلي الله عليه وسلم فهو برهان. قال تعالي: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} [القصص: 32]، وقال لمن قال: لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصاري، قل: هاتوا برهانكم.
ومحمد هو الصادق المصدوق، قد أقام الله على صدقه براهين كثيرة /وصار محمد نفسه برهانًا. فأقام من البراهين على صدقه؛ فدليل الدليل دليل، وبرهان البرهان برهان، وكل آية له برهان، والبرهان اسم جنس لا يراد به واحد،كما في قوله: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 111، والنمل: 46]، ولو جاؤوا بعده ببراهين كانوا ممتثلين.
والمقصود أن ذلك البرهان يعلم بالعقل أنه دال على صدقه، وهو بينة من الله، كما قال قتادة، وحجة من الله، كما قال مجاهد والسُّدي: المؤمن على تلك البينة، ويتلوه شاهد من الله وهو النور الذي أنزله مع البرهان. والله أعلم.