/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} [الزمر: 68]، قال المفسرون: مات من الفزع وشدة الصوت {مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} أخبرنا أبو الفتح محمد بن على الكوفي الصوفي، أنا أبو الحسن على بن الحسن التميمي، ثنا محمد بن إسحاق الرملي، ثنا هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن عَياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سأل جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ}، من الذي لم يشأ الله أن يصْعَقَهم؟ قال: هم الشهداء متقلدين سيوفهم حول العرش. وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء وابن عباس. وقال مقاتل والسدي والكلبي: هو جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت. {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ} [الزمر: 68] يعني: الخلق كلهم قيام على أرجلهم {يَنظُرُونَ} ما يقال لهم، وما يؤمرون به. هذا كلام الواحدي في كتاب [الوسيط] بَينُوا لنا / حقيقة الصُّعُوق، هل يطلق على الموت في حق المذكورين؟ وحقيقة الاستثناء؟
فأجاب:
الحمد لله الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتي الملائكة، وحتي عِزْرائِيل ملك الموت. وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك، وقدرة الله عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب هذا العالم.
والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، وقـال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 26 - 28]، وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26].
والله ـ سبحانه وتعالى ـ قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادر /علي إماتة البشر والجن، ثم إحيائهم، وقد قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ من غير وجه وعن غير واحد من أصحابه ـ أنه قال: (إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة غشي) وفي رواية: (إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا) وفي رواية: (سمعت الملائكة كجر السلسلة على صفوان، فيصعقون،فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا:ماذا قال ربكم؟ قالوا:الحق،فينادون:الحق، الحق).
فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صُعُوق الغشي، فإذا جاز عليهم صُعُوق الغشي جاز عليهم صعوق الموت، وهؤلاء المتفلسفة لا يجَوزون لا هذا ولا هذا، وصُعُوق الغشي هو مثل صعوق موسي ـ عليه السلام ـ قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
والقرآن قد أخبر بثلاث نَفْخات:
نفخة الفَزَع: ذكرها في سورة النمل في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} [النمل: 87].
ونفخة الصعق والقيام: ذكرهما في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يصْعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسي آخذًا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله؟)، وهذه الصعقة قد قيل: إنها رابعة، وقيل: إنها من المذكورات في القرآن، وبكل حال النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسي هل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجزم بكل من استثناه الله لم يمكنا أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بقرب الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر. والله أعلم.
وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليم
/ سورة الشورى
وقال الشيخ ـ رحمه الله:
قد كتبْتُ بعض ما يتعلق بقوله تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إلي قوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 36 - 43]، فمدَحَهم على الانتصار تارة وعلى الصبر أخرى.
والمقصود هنا أن الله لما حَمَدَهم على هذه الصفات؛ من الإيمان والتوكل، ومجانبة الكبائر، والاستجابة لربهم، وإقام الصلاة، والاشتوار في أمرهم، وانتصارهم إذا أصابهم البغي، والعفو والصبر، ونحو ذلك ـ كان هذا دليلًا على أن ضد هذه الصفات ليس محمودًا، بل مذمومًا، فإن هذه الصفات مستلزمة لعدم ضدها؛ فلو كان ضدها محمودًا لكان عدم المحمود محمودًا، وعدم المحمود لا يكون محمودًا إلا أن يخلفه ما هو محمود؛ ولأن حمدها والثناء عليها طلب لها وأمر بها، ولو أنه أمر استحباب، والأمر بالشيء نهي عن ضده قصدًا أو لزوما، وضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجَزَع؛ فلا خير في العجز ولا في الجَزَع كما نجده في حال كثير من الناس، حتي بعض المتدينين إذا ظلموا أو / أرادوا منكرًا فلا هم ينتصرون ولا يصبرون؛ بل يعجزون ويجزعون.
وفي سنن أبي داود، من رواية عوف بن مالك: أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان). لا تعجز عن مأمور ولا تجزع من مقدور.
ومن الناس من يجمع كلا الشرين؛ فَأَمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب. ونَهَي عن العجز، وقال: (إن الله يلوم على العجز)، والعاجز ضد الذين هم ينتصرون، والأمر بالصبر والنهي عن الجزع معلوم في مواضع كثيرة.
وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أمر أُمِرَ بفعله، فعليه أن يفعله / ويحرص عليه، ويستعين الله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله، فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه؛ ولهذا قال بعض العقلاء ـ ابن المقفع أو غيره ـ الأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه. وأمر لا حيلة فيه لا تجزع منه. وهذا في جميع الأمور، لكن عند المؤمن الذي فيه حيلة هو ما أمر الله به وأحبه له، فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له؛ إذ لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد أمره بكل خير فيه له حيلة، وما لا حيلة فيه هو ما أصيب به من غير فعله.
واسم الحسنات والسيئات يتناول القسمين، فالأفعال مثل قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، ومثل قوله تعالى:{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، ومثل قوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [ الشورى: 40]، ومثل قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ} [البقرة: 81]، والمصائب المقدرة خيرها وشرها مثل قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]. إلى آيات كثيرة من هذا الجنس. والله أعلم.
/ سورة الزخرف
وقـال:
فَصــل
قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، يشبه قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57، 58]، فيشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون ضَرب المثل أنهم جعلوا المسيح ابنه، والملائكة بناته، والولد يشبه أباه، فجعلوه لله شبيهًا ونظيرًا، أو يكون المعني في المسيح: أنه مَثَلٌ لآلهتهم؛ لأنه عُبِدَ من دون الله.
فعلي الأول: يكون ضاربه كضارب المثل للرحمن وهم النصارى والمشركون، وعلى الثاني: يكون ضاربه هو الذي عارض به قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، فلما قال ابن الزِّبَعرَي: لأخصمن محمدًا. فعارضه بالمسيح وناقضه به، كان قد ضربه مثلا قاس الآلهة عليه، ويترجح هذا بقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}، فَعُلِم أنهم هم الذين / ضربوه لا النصارى.
فإن [المَثَلَ] يقال على الأصل وعلى الفرع، و[المثل] يقال على المفرد ويقال على الجملة التي هي القياس، كما قد ذكرت فيما تقدم أن ضرب المثل هو القياس؛ إما قياس التمثيل فيكون المثل هو المفرد، وإما قياس الشمول فيكون تسميته ضرب مثلٍ كتسميته قياسًا، كما بينته في غير هذا الموضع، من جهة مطابقة المعاني الذهنية للأعيان الخارجية ومماثلتها لها، ومن جهة مطابقة ذلك المفرد المعين للمعني العام الشامل للأفراد، ولسائر الأفراد؛ فإن الذهن يرتسم فيه معني عام يماثل الفرد المعين، وكل فرد يماثل الآخر، فصار هذا المعني يماثل هذا، وكل منهما يماثل المعني العام الشامل لهما.
وبهذا ـ والله أعلم ـ سمي ضرب مثل وسمي قياسًا، فإن الضرب: الجمع، والجمع في القلب واللسان، وهو العموم والشمول، فالجمع والضرب والعموم والشمول في النفس معني ولفظًا، فإذا ضرب مثلا فقد صيغ عمومًا مطابقًا، أو صيغ مفـردًا مشابهًا، فتدبر هـذا فإنه حسن ـ إن شاء الله.
ولك أن تقول: كل إخبار بمَثَلٍ صوره المخبر في النفس، فهو ضرب / مَثَلٍ؛ لأن المتكلم جمع مثلا في نفسه ونفس المستمع بالخبر المطابق للمُخبِر، فيكون المثل هو الخبر وهو الوصف، كقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، وقوله: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73].
وبَسْطُ هـذا اللفظ واشتماله على محاسن الأحكام والأدلة قد ذكرته في غير هذا الموضع.
/ سورة الأحقَاف
سأل رجل آخر عن قوله تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}
[الأحقاف: 12]، فقال: ما سمعنا ـ بنص القرآن والحديث ـ أن ما قبل كتابنا إلا الإنجيل، فقال الآخر: عيسي إنما كان تبعًا لموسي، والإنجيل إنما فيه توسع في الأحكام، وتيسير مما في التوراة، فأنكر عليه رجل وقال: كان لعيسي شرع غير شرع موسي، واحتج بقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، قال: فما الحكم في قوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الصف: 6]؟ فقال: ليست هذه حُجَّة.
فأجاب شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
قد أخبر الله في القرآن أن عيـسي قال لــهم: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، فَعُلِمَ أنه أحل البعض دون الجميع، وأخبر عن المسيح أنه عَلَّمَه التوراة والإنجيل بقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران: 48].
ومـن المعلوم أنـه لـولا أنه مُتَّبِـعٌ لبعض ما في التوراة لم يكن تَعَلُّمُها / له منة، ألا تري أنا نحـن لم نؤمـر بحفـظ التـوراة والإنجيـل، وإن كان كثيرا من شرائع الكتابين يوافق شـريعـة القـرآن، فهـذا وغيره يبين ما ذكره علماء المسلمين من أن الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلـة، وأكثر الأحكام يتَّبِـعُ فيها مـا في التوراة؛وبهذا يحصل التغاير بين الشرعتين.
ولهذا كان النصارى متفقين على حفظ التوراة وتلاوتها، كما يحفظون الإنجيل؛ ولهذا لما سمع النجاشي القرآن، قال: إن هذا والذي جاء به موسي ليخرج من مشكاة واحدة، وكذلك ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه قال ـ: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسي.
وكذلك قالت الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30]، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48] أي: موسي ومحمد، وفي القراءة الأخرى: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي: التوراة والقرآن.
وكذلك قال: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} إلى قوله: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 91، 92]، فهذا ـ وما أشبهه مما فيه اقتران التوراة بالقرآن وتخصيصها بالذكر ـ يبين ما ذكروه من أن التوراة هي الأصل، والإنجيل تَبَعٌ لها في كثير من الأحكام، وإن كان مغايرًا لبعضها.
فلهذا يذْكَرُ الإنجيل مع التوراة والقرآن في مثل قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 2، 3]، وقال: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]، فيذكر الثلاثة تارة، ويذكر القرآن مع التوراة وحدها تارة؛ لسر، وهو: أن الإنجيل من وجه: أصل، ومن وجه: تبع؛ بخلاف القرآن مع التوراة؛ فإنه أصل من كل وجه، بل هو مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وإن كان موافقًا للتوراة في أصول الدين، وكتبه من الشرائع. والله أعلم.
/ سورة ق
سُئل ـ رحمه الله ـ عن قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}
[ق: 30]، ما المزيد ؟
فأجاب:
قد قيل: إنها تقول: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} أي: ليس في مُحْتَمَلٌ للزيادة. والصحيح: أنها تقول: {هّلً مٌن مَّزٌيد } على سبيل الطلب، أي: هل من زيادة تزاد في؟ والمزيد ما يزيده الله فيها من الجن والإنس، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال جهنم يلقْي فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتي يضع رب العزة فيها قدمه). ويروي: (عليها قدمه فَينزوِي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط).
فإذا قالت: حسبي حسبي، كانت قد اكتفت بما أُلْقِي فيها، ولم تقل بعد ذلك: هل من مزيد، بل تمتلئ بما فيها لانزواء بعضها إلى بعض، فإن الله يضَيقُها على من فيها لسعتها، فإنه قد وعدها ليملأنها / من الجِنَّة والناس أجمعين، وهي واسعة فلا تمتلئ حتي يضيقها على من فيها.
قال: (وأما الجنة: فإن الله ينشئ لها خلقًا فيدخلهم الجنة). فبين أن الجنة لا يضيقها ـ سبحانه ـ بل ينشئ لها خلقًا فيدخلهم الجنة؛ لأن الله يدخل الجنة من لم يعمل خيرًا؛ لأن ذلك من باب الإحسان. وأما العذاب بالنار: فلا يكون إلا لمن عصي، فلا يعذب أحدًا بغير ذنب. والله أعلم .
/ سورة المجادلة
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
فصـــــل
قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، خص ـ سبحانه ـ رَفْعَه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، وهم الذين استشهد بهم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
وأخبر أنهم هم الذين يرَون ما أنزل إلى الرســول، هــو الحق بقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، فدلَّ على أن تَعَلُّم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها، كما قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء} [يوسف: 76].
قال زيد بن أسلم: بالعلم. فَرَفعُ الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان، فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة / منهم، وأرفع قدرًا في قلوب الأمة، فهذا كُرْز بن وَبرَة [هو كرز بن وبرة الحارثي، أبو عبد الله، تابعي، من أهل الكوفة، يضرب به المثل في التعبد، دخل جرجان غازيا مع يزيد بن المهلب سنة 98هـ. ثم سكنها، وتوفي بها سنة 728م]، وكَهْمَس، وابن طارق، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع.
وكذلك ترى كثيرًا ممن لبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره ممن لا يدانيه في ذلك من أهل العلم والإيمان أعظم في القلوب، وأحلي عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة وصفائها، وخُلُوصَها من شهوات النفوس، وأكدار البشرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك، وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول،وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده ومحبته، وأن يكون الدين كلــه لله، فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعـد: 36]، وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} الآية [يونس: 58]. ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مَفرُوح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه.
فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايتـه لعبـده، ورحمته له، وحلمه عـنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل مُحِب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا / في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف.
هذا في باب معرفة الأسماء والصفات. وأما في باب فهم القرآن فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنــائه بمعانــي القــرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضــه على القرآن، فإن شـهد له بالتزكية قَبِلَه، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفــة على مراد ربه من كلامه.
ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك. فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ {أأنذرتهم}، وضم الميم من {عليهم} ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك. وكذلك مراعاة النغم، وتحسين الصوت.
وكذلك تتبع وجوه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.
/ وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم.
وكذلك تأويل القرآن على قول من قَلَّدَ دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتي يجعل القرآن تبعًا لمذهبه، وتقوية لقول إمامه، وكلٌّ محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره.
وكذلك يظن من لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وينزه عنه، بل الكافي في ذلك: عقول الحيارى والمُتَهَوِّكين [المتهوكون: المتحيرون] الذين كل منهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة. وهؤلاء أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله تعالى. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
/ سورة الطلاق
وقــال:
فصــل
وأما قوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، فقـد بين فيها: أن المتقي يـدفع الله عنـه المضرة، بما يجعلـه لـه من المخرج، ويجلب له مـن المنفعـة، بما ييسـره له مـن الرزق، والرزق اسم لكل ما يغتَذي به الإنسان، وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخـرة. وقـد قـال بعضهم: مـا افتقـر تقي قـط، قالـوا: ولم؟ قـال: لأن الله يقول: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .
وقول القائل: قد نري من يتقي وهو محروم. ومن هو بخلاف ذلك وهو مرزوق.
فجوابه:أن الآية اقتضت أن المتقي يرزق من حيث لا يحتسب،ولم تدل على أن غير المتقي لا يرزق، بل لابد لكل مخلوق من الرزق، قال الله تعالى:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] حتي / إن ما يتناوله العبد من الحرام هو داخل في هذا الرزق، فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة، ويرزقون رزقا حسنًا، وقد لا يرزقون إلا بتكلف، وأهل التقوي يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون،ولا يكون رزقهم بأسباب محرمة،ولا يكون خبيثًا، والتَّقِي لا يحرم ما يحتاج إليه من الرزق، وإنما يحمَى من فضول الدنيا، رحمة به وإحسانًا إليه،فإن توسيع الرزق قد يكون مضرة على صاحبه، وتقديره يكون رحمة لصاحبه.
قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} [الفجر: 15 - 17] أي: ليس الأمر كذلك، فليس كل من وسع عليه رزقه يكون مكرمًا، ولا كل من قُدِرَ عليه رزقه يكون مهانًا، بل قد يوسع عليه رزقه إملاء واستدراجا، وقد يقدر عليه رزقه حماية وصيانة له، وضيق الرزق على عبد من أهل الدين قد يكون لما له من ذنوب وخطايا، كما قال بعض السلف: إن العبد لَيحرَم الرزق بالذنب يصيبه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب).
وقد أخبر الله تعالى أن الحسنات يذهِبن السيئات، والاستغفار سبب للرزق والنعمة، وأن المعاصي سبب للمصائب والشدة، فقال تعالى:/{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} إلى قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:1 ـ 3]، وقال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} إلى قوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 ـ 12]، وقال تعالى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16، 17]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]،وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: 9]، وقال تعالى:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، وقال تعالى:{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42، 43].
وقد أخبر الله ـ تعالى ـ في كتابه: أنه يبتلي عباده بالحسنات والسيئات؛ فالحسنات هي النعم، والسيئات هي المصائب؛ ليكون العبد صَبَّارًا شكورًا. وفي الصحيح عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سـراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له).