الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقَال الشيخ ـ رحمه الله : في بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين وهي الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى المعاد إمكانًا ووقوعًا. وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ هذا الأصل غير مرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأدلة العقلية والسمعية التي يهتدى بها الناس إلى دينهم، وما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأن الذين ابتدعوا أصولًا تخالف بعض ما جاء به هي أصول دينهم، لا أصول دينه. وهي باطلة عقلًا وسمعًا، كما قد بسط في غير موضع. وبين أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدين قاصرون أو مقصرون في معرفة ما جاء به من الدلائل / السمعية والعقلية. فطائفة قد ابتدعت أصولًا تخالف ما جاء به من هذا وهذا. وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه،وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك.ولكن هم ـ مع ذلك ـ لم يتبعوا السنة على وجهها، ولا قاموا بما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية.بل الذي يخبر به من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر، غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به. بل قــد يقولــون مع هذا إنه نفسه لم يكن يعلم معنى ما أخبر به؛ لأن ذلك عندهم هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمـه إلا الله. وأما الأدلة العقلية فقد لا يتصورون أنه أتى بالأصول العقلية الدالة على ما يخبر به، كالأدلة الدالة على التوحيد والصفات. ومنهم من يقر بأنه جاء بهذا مجملًا، ولا يعرف أدلته. بل قد يظن أن ما يستدل به ـ كالاستدلال بخلق الإنسان على حدوث جواهره ـ هو دليل الرسول. وكثير من هؤلاء يعتقدون: أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد،وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم/والكذب. والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك. وينكر على من لم يستدل بها. ويبين أنه بالعقل يعرف المعاد، وحسن عبادته وحده وحسن شكره. وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع. وكثير من الناس يكون هذا في فطرته وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية ـ أتبــاع جهم. وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون ـ يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البِدْعِى. وقد ذكر أبو عبد الله ـ ابن الجد الأعلى ـ أنه سمع أبا الفرج ابن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين: هب البعـثُ لــم تـأتـنا رُسْلـه ** وجاحمة النار لم تُضـــرم أليـس مـن الـواجـب المستَحَـقِ ** حياءُ العباد مــن المنْعِـم؟ فقد صرح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم. وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق ولو لم يكن وعيد، ولا / رسالة أخبرت بجزاء. وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب. وهذا فيـه نزاع قـد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح. ونتيجة فعـل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير مـن النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر. ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة. فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها ـ أن يسلبها. فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد. مع أنه لابد من إرسال رسول يســتحق معه النعيم أو العذاب، فإنــه مــا ثم دار إلا الجنة أو النار.قال تعالى: والمقصود ـ هنا ـ أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن. فإن أول ما أنزل من القرآن: وهذا هو الذي ينبغى. فإن قوله: {اقْرَأْ} أمر بالقراءة، لا بتبليغ الرسالة، وبذلك صار نبيًا. وقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 2]، أمر بالإنذار، وبذلك صار رسولًا منذرًا. ففي الصحيحين من حديث الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال: (اقرأ) قال: (ما أنا بقارئ) قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ) فقلت: (ما أنا بقارئ) (فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ). فقلت: (ما أنا بقارئ) (فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زملوني. زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة ـ وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي) فقالت له خديجة: كلا، والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد / العزى ـ ابن عم خديجة. وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرى، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي. فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. يا ليتنى فيها جذعًا! ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟) قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى.وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي. قال ابن شهاب الزهرى، سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قــال: أخبرنى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث / عن فَتْرَة الوحي: (فبينما أنا أمشى سمعت صوتًا فرفعت بصرى قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْت [جُئِثْتُ: أى ذعرت] حتى هويت إلى الأرض. فجئت أهلى فقلت: زملونى، زملونى، فزملونى. فأنزل الله تعالى: فهذا يبين أن [المدثر] نزلت بعد تلك الفَتْرَة، وأن ذلك كان بعـد أن عاين الملك الذي جاءه بحراء ـ أولا ـ فكان قد رأى الملك مرتين. وهذا يفسر حديث جابر الذي روى من طريق آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير، قال:سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن.قال: فهذا الحديث يوافق المتقدم، وإن [المدثر] نزلت بعد أن هبط من الجبل وهو يمشى، وبعد أن ناداه الملك ـ حينئذ. وقد بين في الرواية الأخرى أن هذا الملك هو الذي جاءه بحراء، وقد بينت عائشة أن {اقْرَأْ} نزلت حينئذ في غار حراء. لكن كأنه لم يكن علم أن {اقًرأ} نزلت ـ حينئذ، بل علم أنه رأى الملك قبل ذلك، وقد يراه ولا يسمع منه. لكن في حديث عائشة زيادة علم، وهو أمره بقراءة {اقْرَأْ}. وفي حديث الزهرى أنه سمى هذا [فَتْرَة الوحي]، وكذلك في حديث عائشة [فَتْرَة الوحي]. فقد يكون الزهري روى حديث جابر بالمعنى، وسمى ما بين الرؤيتين [فترة الوحي] كما بينته عائشة، وإلا فإن كان جابر سماه [فترة الوحي] فكيف يقول: إن الوحي لم يكن نزل؟ وبكل حال، فالزهري عنده حديث عروة، عن عائشة، وحديث أبي سلمة، عن جابر وهو أوسع علمًا وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اختلفا. لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى، فأخبر جابر بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبينت. / والآيات ـ آيات [اقرأ] و[المدثر] ـ تبين ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن ومع دلالة العقل على أن هذا الترتيب هو المناسب. وإذا كان أول ما أنزل وفيها وفي الثانية الدلالة على إمكان النبوة، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. أما الأولى؛ فإنه قال: وقوله: {الْإِنسَانَ} هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين. فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق ـ تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات / يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق. فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء، أو بدلائل أُخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار ـ الدهرية وغيرهم ـ الذين لا يقرون بالنبوات. وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة، وهذه السورة أول ما نزل، وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة، والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق. وذكر ـ سبحانه ـ خلق الإنسان من العلق ـ وهو جمع [عَلَقَة]، وهي القطعة الصغيرة من الدم؛ لأن ما قبل ذلك كان نطفة، والنطفة قد تسقط في غير الرحم كما يحتلم الإنسان، وقد تسقط في الرحم ثم يرميها الرحم قبل أن تصير عَلَقَة. فقد صار مبدأ لخلق الإنسان، وعُلِم أنها صارت علقة ليخلق منها الإنسان. وقد قال في سورة القيامة: وأما هنا، فالمقصود ذكر ما يدل على الخالق تعالى ابتداء فذكر أنه خلق الإنسان من علق، وهو من العلقة ـ الدم، يصير مضغة، وهو قطعة لحم كاللحم الذي يمضغ بالفم، ثم تخلق فتصور، كما قال ـ تعالى ـ وهذا الدليل ـ وهو خلق الإنسان من علق ـ يشترك فيه جميع الناس. فإن الناس هم المستدلون، وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية. فالإنسان هوالدليل وهو المستدل، كما قال تعالى: / وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه، ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بنى جنسه. فيستدل به على المبدأ والمعاد، كما قال تعالى: وكذلك قال زكريا لما تعجب من حصول ولد ـ على الكبر ـ فقال: وقال ـ سبحانه ـ وذكر بعد الخلق التعليم ـ الذي هو التعليم بالقلم، وتعليم الإنسان ما لم يعلم. فخص هذا التعليم الذي يستدل به على إمكان النبوة. ولم يقل ـ هنا: [هدى]، فيذكر الهدى العام المتناول للإنسان / وسائر الحيوان، كما قال في موضع آخر: وليس جعل الإنسان نبيًا بأعظم من جعله العَلَقَة إنسانًا، حيًا، عالمًا، ناطقًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، قد علم أنواع المعارف، كما أنه ليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته. والقادر على المبدأ كيف لا يقدر على المعاد؟ والقادر على هذا التعليم كيف لا يقدر على ذاك التعليم وهو بكل شيء عليم، ولا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء؟ وقال ـ سبحانه ـ أولا: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}،فأطلق التعليم والمعلــم، فلـم يخـص نوعًا من المعلمين. فيتناول تعليم الملائكة وغيرهم من الإنس والجـن، كمـا تنــاول الخلـق لهم كلهم. وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه يقتضى تعليم الخط،والخط يطابق اللفظ وهو البيان والكلام. ثم اللفظ يدل على المعانى المعقولة التي في القلب فيدخل فيه كل علم في القلوب. وكل شيء له حقيقة في نفسه ثابتة في الخارج عن الذهن، ثم / يتصوره الذهن والقلب، ثم يعبر عنه اللسان، ثم يخطه القلم. فله وجود عينى، وذهنى، ولفظى، ورسمى. وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان. لكن الأول هو هو، وأما الثلاث، فإنها مثال مطابق له. فالأول هو المخلوق، والثلاثة معلمة. فذكر الخلق والتعليم ليتناوب المراتب الأربع، فقال: وقد تنازع الناس في الماهيات هل هي مجعولة أم لا؟ وهل ماهية كل شيء زائدة على وجوده؟ كما قد بُسِطَ هذا في غير هذا الموضع وبين الصواب في ذلك، وأنه ليس إلا ما يتصور في الذهن، ويوجد في الخارج. فإن أريد الماهية ما يتصور في الذهن. وبالوجود ما في الخارج، أو بالعكس، فالماهية غير الوجود إذا كان ما في الأعيان مغايرًا لما في الأذهان. وإن أريد بالماهية ما في الذهن، أو الخارج، أو كلاهما، وكذلك بالوجود، فالذي في الخارج من الوجود هو الماهية الموجودة في الخارج وكذلك ما في الذهن من هذا هو هذا، ليس في الخارج شيئان: / وهو ـ سبحانه ـ علم ما في الأذهان وخلق ما في الأعيان، وكلاهما مجعول له. لكن الذي في الخارج جعله جعلا خلقيًا. والذي في الذهن جعله جعلا تعليميًا. فهو الذي وقوله:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يدخل فيه تعليم الملائكة الكاتبين، ويدخل فيه تعليم كتب الكتب المنزلة. فعلم بالقلم أن يكتب كلامه الذي أنزله كالتوراة والقرآن،بل هو كتب التوراة لموسى. وكون محمد كان نبيًا أميًا هو من تمام كون ما أتى به معجزًا خارقًا للعادة، ومن تمام بيان أن تعليمه أعظم من كل تعليم، كما قال تعالى: وهذا الكلام الذي أنزل عليه هو آية وبرهان على نبوته، فإنه لا يقدر عليه الإنس والجن.
وقد بسطنا في غير هذا الموضع طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة وأن كل طريق تتضمن ما يخالف السنة فإنها باطلة في العقل كما هي مخالفة للشرع. والطريق المشهورة ـ عند المتكلمين ـ هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام. وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع،وأنها مخالفة للشرع والعقل. وكثير من الناس يعلم أنها بدعة في الشرع، لكن لا يعلم فسادها في العقل. وبعضهم يظن أنها صحيحة في العقل والشرع، وأنها طريقة إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ وقد بين فساد هذا في غير موضع. والمقصود ـ هنا ـ أن طائفة من النُظَّار ـ مثبتة الصفات ـ أرادوا / سلوك سبيل السنة ولم يكن عندهم إلا هذه الطريق. فاستدلوا بخلق الإنسان، لكن لم يجعلوا خلقه دليلا كما في الآية، بل جعلوه مستدلا عليه. وظنوا أنه يعرف بالبديهة والحس حدوث أعراض النطفة. وأما جواهرها فاعتقدوا أن الأجسام كلها مركبة من الجواهر المنفردة، وأن خلق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر بجمعها وتفريقها، ليس هو إحداث عين. فصاروا يريدون أن يستدلوا على أن الإنسان مخلوق. ثم إذا ثبت أنه مخلوق قالوا: إن له خالقًا. واستدلوا على أنه مخلوق بدليل الأعراض، وأن النطفة والعلقة والمضغة لا تنفك من أعراض حادثة، إذ كان عندهم جواهر تجمع تارة وتفرق أخرى، فلا تخلو عن اجتماع وافتراق، وهما حادثان. فلم يخل الإنسان عن الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. وهذه هي الطريقة التي سلكها الأشعرى في: (اللمع في الرد على أهل البدع)، وشرحه أصحابه شروحًا كثيرة. وكذلك في: [رسالته إلى أهل الثغر]. وذكر قوله تعالى: وهذه الطريقة هي مقتضية من كون الأجسام كلها كذلك. وتلك هي الطريقة المشهورة التي يسلكها الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين المنتسبين إلى المذاهب الأربعة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، كما ذكرها القاضى، وابن عقيل، وغيرهما. وذكرها أبو المعالى الجوينى، وصاحب [التتمة]، وغيرهما. وذكرها أبو الوليد الباجى [هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجىبىُّ لمالكى الأندلسى الباجى، من علماء الأندلس، صنف كتبًا كثيرة منها ـ المنتقى ـ وهو أحد أئمة المسلمين، توفي بالمرية ليلة الخميس بين العشاءين 19 رجب سنة 474هـ ودفن بالرِّباط على ضفة البحر]، وأبو بكر بن العربي، وغيرهما. وذكرها أبو منصور الماتريدي، والصابونى [هو أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل الصابوني الحافظ الواعظ المفسر، لقبه أهل السنة فيها ـ أى في بلاد خراسان ـ بشيخ الإسلام، ولد عام 373، ومات في نيسابور عام 449هـ، يجيد الفارسية إجادته العربية، له كتاب ـ عقيدة السلف]. وغيرهما. لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنســان ظنًا أن هــذه طريقة القرآن. وطولوا في ذلك ودققوا حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة، لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض، لا حدوث جواهر. وزعموا أن كل ما يحدثــه الله من السحاب، والمطر، والــزرع، والثمــر، والإنسان والحيوان، فإنما يحدث فيه أعراضًا، وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها. / وزعموا أن أحدًا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة، ولا بضرورة العقل، وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا. فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر، وتلك الجواهر لم تخل من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض. ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وهذا بنوه على أن الأجسام المركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، وقالوا: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض. وجمهور العقلاء من السلف، وأنواع العلماء، وأكثر النظار، يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد، ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، ويقولون بأن الرب لا يزال يحدث الأعيان، كما دل على ذلك القرآن. ولهذا كانت هذه الطريق باطلة عقلا وشـرعًا، وهي مكابرة للعقل فإن كون الإنسان مخلوقًا محدثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس. وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن، وأن عينه حدثت كما قال تعالى: ليس هذا مما يستدل عليه، فإنه أبين وأوضح مما يستدل به عليه لو كان صحيحًا. فكيف إذا كان باطلًا. وقولهم: إن الحادث أعراض فقط، وإنه مركب من الجواهر الفردة، قولان باطلان لا يعلم صحتهما. بل يعلم بطلانهما. ويعلم حدوث جوهر الإنسان وغيره من المادة التي خلق منها، وهي العلق كما قال: وكونه مركبًا من جواهر فردة ليس صحيحًا. ولو كان صحيحًا لم يكن معلومًا إلا بأدلة دقيقة لا تكون هي أصل الدين الذي هو مقدمات أولية. فإن تلك المقدمات يجب أن تكون بينة أولية، معلومة بالبديهة. فطريقهم تضمن جحد المعلوم، وهو حدوث الأعيان الحادثة، وهذا معلوم للخلق؛ وإثبات ما ليس بمعلوم، بل هو باطل، وأن الإحداث لها إنما هو جمع وتفريق للجواهر، وأنه إحداث أعراض فقط. ولهذا كان استدلالهم بطريقة الجواهر والأعراض على هذا الوجه مما أنكره عليهم أئمة الدين، وبينوا أنهم مبتدعون في ذلك، بل / بينوا ضلالهم شرعًا وعقلاً، كما بسط كلام السلف والأئمة عليهم في غير هذا الموضع، إذ هو كثير. فالقرآن استدل بما هو معلوم للخلق من أنه: فأنكـروا المعلـوم بالعقل، ثم الشرع، وادَّعوا طريقًا معلومة بالعقل وهي باطلة في العقل، والـشرع. فضاهـوا الذيـن قال الله فيهم: وكذلك في إثبات النبوات وإمكانها، وفي إثبات المعاد وإمكانه، عدلوا عن الطريق الهادية ـ التي توجب العلم اليقينى التي هدى الله بها عباده ـ إلى طريق تورث الشك والشبهة والحيرة. ولهذا قيل: غاية المتكلمين المبتدعين الشك، وغاية الصوفية المبتدعين الشطح. ثم لها لوازم باطلة مخالفة للعقل والشرع، فألزموا لوازمها التي أوجبت لهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات. وتكلموا / في دلائل النبوة والمعاد، ودلائل الربوبية بأمور، وزعموا أنها أدلة وهي عند التحقيق ليست بأدلة. ولهذا يطعن بعضهم في أدلة بعض. وإذا استدلوا بدليل صحيح فهو مطابق لما جاء به الرسول وإن تنوعت العبارات. ولهذا قد يستدل بعضهم بدليل ـ إما صحيح وإما غير صحيح ـ فيطعن فيه آخر، ويزعم أنه يذكر ما هو خير منه، ويكون الذي يذكره دون ما ذكره ذاك. وهذا يصيبهم كثيرًا في الحدود، يطعن هؤلاء في حد هؤلاء، ويذكرون حدًا مثله أو دونه. وتكون الحدود كلها من جنس واحد، وهي صحيحة إذا أريد بها التمييز بين المحدود وغيره. وأما من قال: إن الحدود تفيد تصوير ماهية المحدود، كما يقوله أهل المنطق، فهؤلاء غالطون ضالون، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع. وإنما الحد مُعرَّف للمحدود، ودليل عليه، بمنزلة الاسم، لكنه يفصل ما دل عليه الاسم بالإجمال، فهو نوع من الأدلة، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع. إذ المقصود ـ هنا ـ التنبيه على الفرق بين الطريق المفيــد للعلم واليقين ـ كالتي بينها القرآن ـ وبين ما ليس كذلك من طرق أهل البدع الباطلة شرعًا وعقلًا.
وهؤلاء الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام اضطربوا كثيرًا،كما قد بسط في مواضع.ولابد لكل منهم مع مخالفته للشرع المنزل من السماء إلى أن يخالف ـ أيضًا ـ صريح العقل ويكابر، فيكون ممن لا يسمع ولا يعقل. فإن القول له لوازم، فإذا كان باطلًا فقد يستلزم أمورًا باطلة ظاهرة البطلان. وصاحبه يريد إثبات تلك اللوازم، فيظهر مخالفته للحس والعقل. كالذين أثبتوا الجواهر المنفردة وقالوا: إن الحركات في نفسها لا تنقسم إلى سريع وبطىء، إذ كانت الحركة عندهم منقسمة كانقسام المتحرك، وكذلك الزمان وأجزاء الزمان. والحركة والمتحرك عندهم واحد لا ينقسم فإذا كان المتحركان سواء وحركة أحدهما أسرع قالوا: إنما ذاك لتخلل السكنات. وادعوا أن الرحا والدولاب وكل مستدير إذا تحرك فإن زمان حركة المحيط والطوق الصغير واحد مع كثرة أجزاء المحيط، فيجب أن تكون حركتها أكثر، فيكون زمانها أكثر، وليس هو بأكثر، / فادَّعوا أنها تنفك ثم تتصل. وهذه مكابرة من جنس (طفرة النَّظَّام) [هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ البصرى النظام، مــن أئمة المعتــزلة قــال الجاحــظ: الأوائل يقولون: في كل سنة رجل لا نظير له، فإن صح ذلك فأبو إسحاق من هؤلاء الضلال وصدق فيما قال ـ رأس الفرقة النظامية ـ قد ألفت كتب في الرد على ضلاله وكفــره، وفي لســان الميزان: أنه متهم بالزندقــة]. وكذلك الذين قالوا: بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس وما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم. فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون. وكذلك لون السماء، والجبال، والخشب، والورق، وغير ذلك. ومما ألجأهم إلى هـذا، ظنهم أنهما لو كانـا باقيين لم يمكـن إعـدامهما، فـإنهم حـاروا في إفناء الله الأشـياء إذا أراد أن يفنيها، كما حـاروا في إحداثها. وحيرتهم في الإفـناء أظهـر. هـذا يقول: يخلق فناء لا في محل، فيكون ضدًا لها، فتفنى بضدها. وهذا يقول: يقطع عنها الأعراض مطلقًا، أو البقاء الذي لا تبقى إلا به، فيكون فناؤها لفوات شرطها. ومن أسباب ذلك ظنهم، أو ظن من ظن منهم، أن الحوادث لا تحتاج إلى الله إلا حال إحداثها، لا حال بقائها، وقد قالوا: إنه قادر على إفنائها. فتكلفوا هذه الأقوال الباطلة. وهؤلاء لا يحتجون على بقاء الرب بافتقار العالم إليه، بل بأنه قديم، وما وجب قدمه امتنع عدمه. وإلا فالباقى حال بقائه لا يحتاج إلى الرب عندهم. / وهؤلاء شر من الذين سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فضرب الله لهم المثل بالقارورتين لما أرق موسى ليالى، ثم أمره بإمساك القارورتين فلما أمسكهما غلبه النوم فتكسرتا. فبين الله له لو أخذته سنة أو نوم لتدكدك العالم. وعلى رأى هؤلاء: لو أخذته سنة أو نوم لم يعدم الباقى. لكن منهم من يقول: هو محتاج إلى إحداث الأعراض متوالية؛ لأن العرض عنده لا يبقى زمانين. فمن هذا الوجه يقول: إذ لو أخذته سنة أو نوم لم تحدث الأعراض التي تبقى بها الأجسام، لا لأن الأجسام في نفسها مفتقرة إليه في حال بقائها عنده. وكذلك يقولون: إن الإرادة لا تتعلق بالقديم، ولا بالباقى. وكذلك القدرة عندهم لا تتعلق بالباقى، ولا العجز يصح أن يكون عجزًا عن الباقى والقديم عندهم؛ لأن العجز عندهم إنما يكون عجزًا عما تصح القدرة عليه. وهؤلاء يقولون: علة الافتقار إلى الخالق مجرد الحدوث. وآخرون من المتفلسفة يقولون: هو مجرد الإمكان، ويدَّعون أن القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هو مفتقر إلى الصانع. فهذا يدعى أن الباقى المحدث لا يفتقر، وهذا يدعى أن الباقى القديم يفقتر وكلا القولين / فاسد، كما قد بسط في مواضع. والحـق أن كل ما سوى الله حادث، وهو مفتقر إليه دائمًا. وهو يبقيه ويعدمه،كما ينشئه ويحدثـه، كما يحدث الحوادث من التراب وغيره ثم يفنيها ويحيلها إلى التراب وغيره. وهـؤلاء ادعى كثير منهم أن كـل مـا سوى الله يعدم ثم يعاد، وبعضهم قال: هذا ممكن، لكنه موقوف على الخبر، والخبر لم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات. وهذا هو المعاد عندهم. وهذا لم يـأت بـه كتاب ولا سنة، ولا دل عليه عقل. بل الكتاب والسنة يبين أن الله يحيل العالم من حال إلى حـال، كما يشـق السماء، ويجعـل الجبال كالعهـن، ويكـور الشمس، إلى غير ذلك مما أخـبر الله في كتابـه ـ لم يخـبر أن جميع الأشياء تعدم ثم تعاد. ثم منهم من يقول: إنها تعدم بعد ذلك لامتناع وجود حوادث لا آخر لها، كما تقوله الجهمية. وهذا مما أنكره عليهم السلف والأئمة، كما قد ذكر في غير هذا الموضع. وهؤلاء إنما قالوا هذا طردًا لقولهم بامتناع دوام جنس الحوادث، وقالوا: ما وجب أن يكون له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء، كما قد بسط هذا وبين فساد هذا الأصل.
وهو ـ سبحانه ـ تارة يذكر خلق الإنسان مجملًا، وتارة يذكره مفصلا، كقوله: ومن الناس من يقول: لم دخلت لام التوكيد في الموت ـ وهو مشاهد ـ ولم تدخل في البعث ـ وهو غيب ـ فيحتاج إلى التوكيد؟ وذلك ـ والله أعلم ـ أن المقصود بذكر الموت والبعث هو الإخبار بالجزاء والمعاد، وأول ذلك هو الموت. فنبه على الإيمان بالمعاد، والاستعداد لما بعد الموت. وهو إنما قال: [تبعثون] ـ فقط ـ ولم يقل:[تجازون]، لكـن قـد علـم أن البعث للجزاء. وأيضًا، ففيه تنبيه على قهر الإنسان وإذلاله. يقول: بعـد هـذا / كـله إنك تموت، فترد إلى أسفل سافلين، إلا الذين آمنـوا وعملوا الصالحات، كما قال: وهذا الرد هو بالموت. فإنه يصير في أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال: وفي قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} قولان؛ قيل: الهرم. وقيل: العذاب بعد الموت، وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعًا. فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين. والناس نوعان: فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين، والمؤمن في عليين. وأما القـول الأول ففيه نظـر. فـإنـه ليس كل مـن سـوى المؤمنـين يهـرم فيـرد إلى أسـفل سافلـين. بل كثـير مـن الكفار يمـوت قبـل الهـرم، وكثير مـن المؤمنـين يهـرم، وإن كان حـال المؤمـن في الهـرم أحسـن حالا مـن الكافـر، فكذلك في الشباب حـال المؤمـن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف. ولهذا قال بعضهم: إن الاستثناء منقطع على هذا القول، وهو ـ أيضًا ـ / ضعيف. فإن المنقطع لا يكون في الموجب، ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أى استثناء شاء أنه منقطع. وأيضًا ـ فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول، والمؤمنون بعض نوع الإنسان. وقد فسر ذلك بعضهم ـ على القول الأول ـ بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز. قال إبراهيم النخعى: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل، وهو قوله: فيقال: وهذا ـ أيضًا ـ ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر، كما في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم). وفسره بعضهم بما روى عن ابن عباس أنه قال: من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى أرذل العمر. فيقال: هذا مخصوص بقارئ القرآن، والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرؤوا القرآن أو لم / يقرؤوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها). وأيضًا، فيقال: هرم الحيوان ليس مخصوصًا بالإنسان،بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم. وأيضًا، فالشيخ ـ وإن ضعف بدنه ـ فعقله أقوى من عقل الشاب. ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردًا إلى أسفل سافلين. فإنه ـ سبحانه ـ إنما يصف الهرم بالضعف كقوله: وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين، لا في عليين،كما قال تعالى: ومما يبين ذلك قوله: وأيضًا، فإنه ـ سبحانه ـ أقسم على ذلك بأقسام عظيمة ـ بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين. وهي المواضع التي جاء منها محمد، والمسيح، وموسى، وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين. وهذا الإقْسَام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل أحد، بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالإقسام. فإن إقسام الله هو على أنباء الغيب. وفي نفس المقسم به ـ وهو إرسال هؤلاء الرسل ـ تحقيق للمقسم عليه ـ وهو الثواب والعقاب بعد الموت ـ لأن الرسل أخبروا به. وهو يتضمن ـ أيضًا ـ الجزاء في الدنيا، كإهلاك من أهلكهم من الكفار. فإنه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا. وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصى، كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه. / وقوله: فتضمنت السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم. والإقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم. فإن موضع الإنسان إذا عظم لأجله كان هو أحق بالتعظيم. ولهذا يقال في المكاتبات: [إلى المجلس، والمقر ـ ونحو ذلك ـ السامي، والعالي]، ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه. فلما قال: وفي قوله: {يُكَذِّبُكَ} قولان. قيل: هو خطاب للإنسان، كما قال مجاهد وعكرمة، ومقاتل، ولم يذكر البغوى غيره. قال عكرمة، يقول: فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك. وعن مقاتل: / فما الذي يجعلك مكذبًا بالجزاء، وزعم أنها نزلت في عَيَّاش بن أبي ربيعة. والثاني أنه خطاب للرسول ـ وهذا أظهر ـ فإن الإنسان إنما ذكر مخبرًا عنه لم يخاطب. والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن، والخطاب في هذه السور له، كقوله: والإنسان إذا خوطب، قيل له: وأيضًا، فبتقـدير أن يكون خطابًا للإنسان يجب أن يكون خطابًا للجنس، كقوله: وأيضًا، فإن قوله: / لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال: وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل. ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للإنسان، وفسر معنى قوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ}: فما يجعلك مكذبًا. وعبارة آخرين: فما يجعلك كذابًا. قال ابن عطية: وقال جمهور من المفسرين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابًا بالدين ـ تجعل لله أندادًا، وتزعم أن لا بعث ـ بعد هذه الدلائل؟ قلت: وكلا القولين غير معروف في لغة العرب، أن يقول: [كذبك، أي: جعلك مكذبًا]، بل [كذبك: جعلك كذابًا]. وإذا قيل: [جعلك كذابًا]، أى: كاذبًا فيما يخبر به، كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم، وهذا يقول: / جعلك كاذبًا بالدين، فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد، وهذا ضد الذي ينكر. ذاك جعله مكذبًا بالدين، وهذا جعله كاذبًا بالدين. والأول فاسد من جهة العربية، والثاني فاسد من جهة المعنى. فإن الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر. والكافر كذب به، لم يكذب هو به. وأيضًا، فلا يعرف في المخبر أن يقال: [كذبت به]، بل يقال: [كذبته]. وأيضًا، فالمعروف في [كذبه]، أي نسبه إلى الكذب، لا أنه جعل الكذب فيه. فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة، بل المعروف خلافه. وهو لم يقل: [فما يكذبك]، ولا قال: [فما كذبك]. ولهذا كان علماء العربية على القول الأول. قال ابن عطية: واختلف في المخاطب بقوله: {فما يكذبك}، فقال قتادة، والفراء، والأخفش: هو محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله له: [فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث ـ وهو الدين ـ بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت]؟ قال: ويحتمل أن يكون الدين على هذا التأويل جميع شرعه ودينه. / قلت: وعلى أن المخاطب محمد صلى الله عليه وسلم في المعنى قولان: أحدهما قول قتادة، قال: وكذلك ذكـره المهْدَوى: قلت:هـذا القـول المنقـول عـن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم،كما روى الناس ـ ومنهم ابن أبي حاتم ـ عن الثورى، عن منصور قال:قلت لمجاهد: وقـد أحسن مجاهـد في تنزيـه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال له: {فَمَا يُكَذِّبُكَ}، أى: استيقن، ولا تكـذب. فإنـه لو قيـل له: [لا تكذب] / لكان هذا من جنس أمره بالإيمان والتقوى، ونهيه عما نهي الله عنـه. وأمـا إذا قيـل: واللفظ الذي رأيته منقولًا بالإسناد عن قتادة ليس صريحًا فيه، بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الإنسان. فإنه قال: لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فهذا المعنى باطل. فلا يقال للرسول: [فأى شيء يجعلك مكذبًا بالدين؟] وإن ارتأت به النفس، لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده. ولهذا استعاذ منه مجاهد. والصواب ما قاله الفَرَّاء، والأخْفَش، وغيرهما. وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وغيره من العلماء كما تقدم. وكذلك ذكره أبو الفرج ابن الجوزي عن الفراء، فقال: إنه خطاب / للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء. قال: وأما [الدين] فهو الجزاء. قلت: وكذلك قال غير واحد، كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي: ومن تفسير العوفي عن ابن عباس: أي بحكم الله. قلت: قال: [بحكم الله] لقوله: وعلى هذا، قوله: {فَمَا} وصف للأشخاص. ولم يقل: [فمن]؛ لأن [ما] يراد به الصفات دون الأعيان، وهو المقصود، كقوله: وقوله: {بّعًد }، قد قيل: إنه [بعد ما ذكر من دلائل الدين]. / وقد يقال: لم يذكر إلا الإخبار به، وأن الناس نوعان: في أسفل سافلين، ونوع لهم أجر غير ممنون؟ فقد ذكر البشارة والنذارة، والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين. فمن كذبك بعد هذا، فحكمه إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه. وقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} ليس نفيًا للتكذيب، فقد وقع. بل قد يقال: إنه تعجب منه، كما قال: وقد يقال: إن هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه، كما يقال: [من فلان؟] و[من يقول هذا إلا جاهل؟]. لكنه ذكره بصيغة [ما] فإنها تدل على صفته، وهي المقصودة، إذ لا غرض في عينه. كأنه قيل: [فأي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين؟ فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين]. وقوله: / والقرآن لا تنقضي عجائبه. والله ـ سبحانه ـ بين مراده بيانًا أحكمه، لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة. فإن هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي. منها: أن قوله: وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع، وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله: فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب، فقال: وأيضًا، فإنه لا ذنب له في ذلك، والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه؛ ولهذا قال: لكن ـ هنا ـ ذكر الخسر فقط، فوصف المستثنين بأنهم تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الإيمان والصلاح. وهناك ذكر أسفل سافلين، وهو العذاب، والمؤمن المصلح لا يعذب، وإن كان قد ضيع أمورًا خسرها، لو حفظها لكان رابحًا غير خاسر. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود ـ هنا ـ أنه ـ سبحانه ـ يذكر خلق الإنسان مجملًا ومفصلًا. وتارة يذكر إحياءه، كقوله تعالى: فإن خلق الحياة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة، والنعمة، والحكمة.
|