الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
كتاب التفـســير الجـزء الثاني من سورة الأعراف إلي الأحزاب / بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله تعالى: حجة إبليس في قوله: أحدها: أنه ادعى أن النار خير من الطين، وهذا قد يُمنع، فإن الطين فيه السكينة والوقار، والاستقرار، والثبات والإمساك ونحو ذلك، وفي النار الخفة والحدة والطيش، والطين فيه الماء والتراب. الثانى: أنه وإن كانت النار خيرًا من الطين؛ فلا يجب أن يكون / المخلوق من الأفضل أفضل، فإن الفرع قد يختص بما لا يكون في أصله، وهذا التراب يخلق منه من الحيوان والمعادن والنبات ما هو خير منه، والاحتجاج على فضل الإنسان على غيره بفضل أصله على أصله حجة فاسدة احتج بها إبليس، وهى حجة الذين يفخرون بأنسابهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قَصَر به عَمَلُه لم يبلغ به نَسَبه). الثالث: أنه وإن كان مخلوقًا من طين،فقد حصل له بنفخ الروح المقدسة ِ فيه ما شرف به؛فلهذا قال: الرابع: أنه مخلوق بيدى الله ـ تعالى ـ كما قال تعالى: الخامس: أنه لو فُرِض أنه أفضل، فقد يقال: إكرام الأفضل للمفضول ليس بمستنكر. / فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ورضى عنه آمين ـ فقال: الحمد لله، الذى في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس، وهذا حق يقتضى أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها. وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال، بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضًا، لكن لا يرونهم في كل حال، والشياطين هم مَرَدَةُ الإنس والجن، وجميع الجن وَلَد إبليس. والله أعلم.
/ قوله: فَعُلِم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء وذلك لا يكون إلا إذا كان الفعل في نفسه سيئًا، فَعُلِمَ أن كل ما في نفسه فاحشة فإن الله لا يجوز عليه الأمر به، وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء، كما يقوله أكثر العلماء كالتميميين وأبي الخطاب، خلاف قول من يقول: إن ذلك لا يثبت قط إلا بخطاب. وكذلك قوله: وأما في الأمر، فقوله: ومثله قوله في آية الطُّهُور:
/ هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعى الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان؛ فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعى، وطلب كشف ما يضره ودفعه. وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود، لابد أن يكون مالكًا للنفع والضر. ولهذا أنكر ـ تعالى ـ على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا، وذلك كثير في القرآن، كقوله تعالى: وهذا كثير في القرآن، يبين ـ تعالى ـ أن المعبود لا بد أن يكون مالكًا / للنفع والضر، فهو يدعو للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعو خوفًا ورجاءً دعاء العبادة، فَعُلِم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادةٍ مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألةٍ متضمن لدعاء العبادة. وعلى هذا، فقوله: مثال ذلك قوله تعالى: ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى،فمبتدؤه الزوال،ومنتهاه الغروب،واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار. ومثاله أيضًا: تفسير (الغاسق) بالليل، وتفسيره بالقمر، فإن ذلك / ليس باختلاف، بل يتناولهما لتلازمهما؛ فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة. ومن ذلك قوله تعالى: وعلى هذا، فالمراد به نوعى الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهر، أي: ما يعبأ بكم لولا أنكم ترجونه، وعبادته تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه. ومن ذلك قوله تعالى: وروى الترمذى عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ على المنبرـ: (إن الدعاء هو العبادة). ثم قرأ قوله تعالى: /وأما قوله تعالى: أحدها: أنهم قالوا: الثانى: أن الله ـ تعالى ـ فسر هذا الدعاء في موضع آخر، كقوله تعالى: الثالث: أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد، دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا، فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها. وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة. وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، هو دعاء العبادة، والمعنى: اعبدوه وحده، وأخلصوا عبادته، لا تعبدوا معه غيره. /وأما قول إبراهيم ـ عليه السلام: وأما قول زكريا ـ عليه السلام: وأما قوله تعالى: وأما قوله: وأما قوله: إذا عرف هذا، فقوله تعالى: أحدها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي. وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم؛ لأن الملوك لا ترفع / الأصوات عندهم، ومن رفع صوته لديهم مَقَتُوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي؛ فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به. وثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع، الذى هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه، فلا يطاوعه بالنطق. وقلبه يسأل طالبًا مبتهلاً، ولسانه لشدة ذلته ساكتًا، وهذه الحال لا تأتى مع رفع الصوت بالدعاء أصلا. ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص. وخامسها ـ أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما خفض صوته، كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو ـ سبحانه. وسادسها ـ وهو من النكت البديعة جدًا: أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح ـ لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: (ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، [إن الذى تدعونه] أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته). وقد قال تعالى: وقوله تعالى: وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر، فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له، بخلاف من خفض صوته. وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، / فإن الداعى إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولابد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته، فيضعف أثر الدعاء، ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة. وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها ـ دَقَّت أو جَلَّت ـ ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد. وقد قال يعقوب ليوسف ـ عليهما السلام: / وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء،والمحبة والإقبال على الله ـ تعالى ـ فهو من عظيم الكنوز التى هى أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين، وهذه فائدة شريفة نافعة. وعاشرها: أن الدعاء هو ذِكْرٌ للمدعو ـ سبحانه وتعالى ـ متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه. فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمى دعاء لتضمنه للطلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الدُّعاء الحمدُ لله) فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب، فالحامد طالب للمحبوب، فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذى هو دونه. والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه، وقد قال تعالى: وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف؛ فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولابد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛ لأنها توجب التوانى والانبساط، وربما آلت بكثير من الجُهَّال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله، ومحبته له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقـد حدثنى رجل أنه أنكر على بعض هؤلاء خُلْوَة له ترك فيها الجمعة، فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شىء من ماله فإن الجمعة تسقط؟ فقال له: بلى. فقال له: فقلب المريد أعز عليه من عشرة دراهم ـ أو كما قال ـ وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه. فقال له: هذا غرور بك، الواجب الخروج إلى أمر الله ـ عز وجل ـ فتأمل هذا الغرور العظيم، كيف أدى إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة. /وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته؛ ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حرورى، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما كَلَّها[أي أتعبها وأثقلها. انظر: المصباح المنير، مادة: كلل] شىء، كالخائف الذى معه سوط يضرب به مطيته؛ لئلا تخرج عن الطريق، والرجا حاد يحدوها يطلب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذى يسوقها، فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصى يردها إذا حادت عن الطريق، خرجت عن الطريق وضلت عنها. فما حُفِظَت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث، فسد فسادًا لا ىُرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شىء من هذه ضعف إيمانه بحسبه، فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخِيفَة بالذكر، والخُفْية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخُفْية بالدعاء والخِيفة بالذكر أيضًا، وذكر الطمع الذى هو الرجاء في آية الدعاء؛ لأن الدعاء مبنى عليه، فإن الداعى ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه،لم تتحرك نفسه لطلبه، إذ طلب ما لا طمع له فيه ممتنع، وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف /إليه، فذكر في كل آية ما هو اللائق بها من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور. وقوله تعالى: وعلى هذا، فالاعتداء في الدعاء، تارة بأن يسأل ما لايجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات، وتارة يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، ويسأله بأن يطلعه على غيبه، أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولدًا من غير زوجة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله. وفسر الاعتداء برفع الصوت ـ أيضًا ـ في الدعاء. وبعد، فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء بالدعاء مرادًا / بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شىء، دعاءً كان أو غيره، كما قال تعالى: وعلى هذا،فيكون أمر بدعائه وعبادته، وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان،وهم يدعون معه غيره،فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانًا، فإن أعظم العدوان الشرك،وهو وضع العبادة في غير موضعها،فهذا العدوان لابد أن يكون داخلا في قوله تعالى: ومن الاعتداء أن يعبده بما لم يشرع، ويثنى عليه بما لم يثن به على نفسه، ولا أذن فيه، فإن هذا اعتداء في دعائه الثناء والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب. وعلى هذا، فتكون الآية دالة على شيئىن: أحدهما: محبوب للرب ـ سبحانه ـ وهو الدعاء تضرعًا وخُفْيَة. الثانى: مكروه له مسخوط وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه وندب إليه، وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر، والتحذير /، وهو لا يحب فاعله، ومن لا يحبه الله فأي خير يناله؟ وقوله تعالى: وقوله تعالى: وبالجملة، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره، أو مُطَاعٍ مُتَّبِع غير الرسول صلى الله عليه وسلم، هو أعظم الفساد / في الأرض، ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، وبالأمر بالتوحيد، ونهى عن فسادها بالشرك به، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن تدبر أحوال العالم، وجد كل صلاح في الأرض؛ فسببه توحيد الله وعبادته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقَحْط وتسليط عدو وغير ذلك؛ فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله. ومن تدبر هذا حق التدبر، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه، وفي غيره عمومًا وخصوصًا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى: وفصل الجملتين بجملتين: إحداهما: خبرية ومتضمنة للنهى، وهى قوله: /والثانية: طلبية، وهى قوله تعالى: ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضاده، أمر بدعائه خوفًا وطمعًا؛ لتعلق قوله: ولما كان قوله: ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية، عقب ذلك بقوله تعالى: وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من / الله رحمته، ورحمته قريب من المحسنين، الذين فعلوا ما أُمِروا به من دعائه تضرعًا وخفية، وخوفًا وطمعًا. فقرر مطلوبكم منه، وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} له دلالة بمنطوقه، ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه. فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة،وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة؛لأنها إحسان من الله ـ عز وجل ـ أرحم الراحمين، وإحسانه ـ تبارك وتعالى ـ إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته، وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بَعُدَ عن الإحسان بَعُدَتْ عنه الرحمة، بُعْدٌ ببُعْدٍ، وقُرْبٌ بِقُرْب،فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله ـ سبحانه ـ يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شىء منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد / شىء منه، والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله ـ تعالى ـ والإقبال إليه والتوكل عليه، وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة، وحياء ومحبة وخشية. فهذا هو مقام الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإحسان: فقال: (أن تَعْبُدَ الله كأنك تراه)، فإذا كان هذا هو الإحسان، فرحمته قريب من صاحبه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ يعنى: هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه، قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟ وقد ذكر ابن أبى شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدى عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: آخر الكلام على الآيتين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
|