الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقال الشيخ ـ رحمه الله : قال ابن فُورَك ـ في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له ـ قال: وجرى في كلام السلطان: أليس تقول إنه يري لا في جهة؟ فقلت: (نعم، يرى لا في جهة، كما أنه لم يزل يرى نفسه لا في جهة، ولا من جهة، ويراه غيره على ما يرى ورأى نفسه. والجهة ليست بشرط في الرؤية). وقلت ـ أيضًا: (المرئيات المعقولة فيما بيننا هكذا نراها في جهة ومحل. والقضاء بمجرد المعهود لا يمكن دون السير والبحث؛ لأنا كما لا نري إلا في جهة ومحل، كذلك لم نر إلا متلونًا ذا قدر وحجم يحتمل المساحة، والثقل، ولا يخلو من / حرارة ورطوبة أو يبوسة، إذا لم يكن عرضًا لا يقبل التثنية والتأليف وغير ذلك، ومع هذا فلا عبرة بشيء من هذا). قال: ثم بلغني أن السلطان ذلك اليوم والليلة وثاني يوم، يكرر على نفسه في مجلسه: كيف يعقل شيء لا في جهة؟ وما شغل القلب في أول الأمر وتربي عليه فإن قلعه صعب، والله المعين. غير أنه فَرِحت الكرامية بما كان منه في ذلك. فلما رجعت إلى البيت فإذا أنا برقعة فيها مكتوب: [الأستاذ ـ أدام الله سلامته ـ على مذهبه أن الباري ليس في جهة، فكيف يري لا في جهة؟]. فكتبت:خبر الرؤية صحيح. وهي واجبة كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على أن الله يري لا في جهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضامون في رؤيته)، ومعناه:لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته،فإنه لا في جهة.وكلامًا طويلا من كل وجه ملأت ظهر الرقعة وبطنها منه. فلما رُدَّت إليه، أنفذها إلى حاكم البلد، وهو أبو محمد الناصحي، واستفتاه فيما قلته، فجمع قومًا من الحنفية، والكرامية، فكتب هو ـ أعزك الله: بأن من قال بأن الله لا يري في جهة مبتدع ضال، وكتب أبو حامد المعتزلي مثله، وكتب إنسان بسطامي مؤدب في دار / صاحب الجيش مثله، فردوا عليه، فأنفذ إلى ما في ذلك المحضر الذي فيه خطوطهم، وكتب إلى رقعة وقال فيها: إنهم كتبوا هكذا. فما تقول في هذه الفتاوى؟ فقلت: إن هؤلاء القوم يجب أن يسألوا عن مسائل الفقه التي يقال فيها بتقليد العامي للعالم؛فأما معرفة الأصول والفتاوى فيها فليس من شأنهم،وهم يقولون:إنا لا نحسن ذلك. قلت: قول هؤلاء: إن اللّه يري من غير معاينة ومواجهة. قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء على أن فساد هذا معلوم بالضرورة. والأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليهم، كقوله في الأحاديث الصحيحة: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمـر لا تضارون في رؤيتـه) ، وقوله ـ لما سأله الناس ـ: هل نري ربنا يوم القيامة؟ قال: (هل ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب؟) قالوا: نعم. (وهل ترون القمر صحوًا ليس دونه سحاب؟) قالوا: نعم. قال: (فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) . فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي؛ فإن الكاف ـ حرف / التشبيه ـ دخل على الرؤية. وفي لفظ للبخاري: (يرونه عيانًا). ومعلوم أنا نري الشمس والقمر عيانًا مواجهة، فيجب أن نراه كذلك، وأما رؤية ما لا نعاين ولا نواجهه فهذه غير متصورة في العقل، فضلا عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر. ولهذا، صار حُذَّاقُهم إلى إنكار الرؤية، وقالوا: قولنا هو قول المعتزلة في الباطن؛ فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك مما لا ننازع فيه المعتزلة. وأما قوله: إن الخبر يدل على أنهم يرونه لا في جهة، وقوله: (لا تضامون)؛ معناه: لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته، فإنه لا في جهة، فهذا تفسير للحديث بما لا يدل عليه، ولا قاله أحد من أئمة العلم، بل هو تفسير منكر عقلا وشرعا ولغة. فإن قوله: (لا تضامون)، يروي بالتخفيف، أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته، كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال، فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يري، وهو ـ سبحانه ـ يتجلي تجليًا ظاهرًا، فيرونه كما تري الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة. وقيل: (لا تضامُّون)، بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، / كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال. وكذلك: (تضارون)، و (تضارُّون). فإما أن يروي بالتشديد ويقال: (لا تضامَّون)، أي لا تضمكم جهة واحدة، فهذا باطل؛ لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض، فهو [تفاعل]، كالتماس، والتراد، ونحو ذلك. وقد يروي: (لا تضامُّون) بالضم والتشديد، أي: لا يضام بعضكم بعضًا. وبكل حال، فهو من [التضام] الذي هو مضامة بعضهم بعضًا، ليس هو أن شيئًا آخر لا يضمكم، فإن هذا المعني لا يقال فيه: (لا تضامون)، فإنه لم يقل: لا يضمكم شيء. ثم يقال: الراؤون كلهم في جهة واحدة على الأرض،وإن قدر أن المرئي ليس في جهة، فكيف يجوز أن يقال: لا تضمكم جهة واحدة،وهم كلهم على الأرض ـ أرض القيامة ـ أو في الجنة، وكل ذلك جهة، ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حسا وعقلا. وأما قوله: هو يري لا في جهة فكذلك يراه غيره. فهذا تمثيل باطل، فإن الإنسان يمكن أن يري بدنه، ولا يمكن أن يري غيره، إلا أن يكون بجهة منه، وهو أن يكون أمامه، سواء كان عاليًا أو سافلًا. / وقد تُخْرَق له العادة فيرى من خلفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأراكم من بعدي)، وفي رواية: (من بعد ظهري)، وفي لفظ للبخاري: (إني لأراكم من ورائي)، وفي لفظ في الصحيحين:(إني واللّه لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي)، لكن هم بجهة منه، وهم خلفه، فكيف تقاس رؤية الرائي لغيره على رؤيته لنفسه؟ ثم تشبيه رؤيته هو برؤيتنا نحن تشبيه باطل، فإن بصره يحيط بما رآه بخلاف أبصارنا. وهؤلاء القوم، أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، وأحبوا نصر مذهب أهل السنة والجماعة والحديث، فجمعوا بين أمرين متناقضين، فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يري بالعين لو كان وجوده في الخارج ممكنًا، فكيف وهو ممتنع؟ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان، فهو من باب الوهم والخيال الباطل. ولهذا فسروا [الإدراك] بالرؤية في قوله: والآية تنفي الإدراك مطلقًا دون الرؤية كما قال ابن كلاب، / وهذا أصح.وحينئذ، فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية، وهو أنه يرَي ولا يدْرَك، فيري من غير إحاطة ولا حصر، وبهذا يحصل المدح، فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته، وهو يدرك أبصارهم. قال ابن عباس ـ وعكرمة بحضرته ـ لمن عارض بهذه الآية:(ألست تري السماء؟)، قال: (بلي)، قال: (أفكلها تري؟). وكذلك قال: وقال: فإذا قيل: وأما الإدراك والإحاطة الزائد على مطلق الرؤية، فليس انتفاؤه لعظمة الرب عندهم، بل لأن ذاته لا تقبل ذاك كما قالت المعتزلة: إنها لا تقبل الرؤية. وأيضًا، فهم والمعتزلة لا يريدون أن يجعلوا للإبصار إدراكًا غير الرؤية، سواء أثبتت الرؤية أو نفيت، فإن هذا يبطل قول المعتزلة بنفي الرؤية، ويبطل قول هؤلاء بإثبات رؤية بلا معاينة ومواجهة.
هذا، مع أن ابن فُورَك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين، وكذلك المجيء والإتيان، موافقةً لأبي الحسن، فإن هذا قوله، وقول متقدمي أصحابه. / فقال ابن فُوَرك ـ فيما صنف في أصول الدين: فإن سألت الجهمية عن الدلالة على أن القديم سميع بصير، قيل لهم: قد اتفقنا على أنه حي تستحيل عليه الآفات، والحي إذا لم يكن مأووفًا بآفات تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات كان سميعًا بصيرًا. وإن سألت فقلت: أين هو؟، فجوابنا: إنه في السماء، كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك، فقال عز من قائل: قال: وإن سألت: [كيف هو؟]، قلنا له: [كيف] سؤال عن صفته ـ وهو ذو الصفات العلى ـ هو العالِم الذي له العلم، والقادر / الذي له القدرة، والحي الذي له الحياة، الذي لم يزل منفردًا بهذه الصفات لا يشْبه شيئًا، ولا يشبهه شيء. قلت: فهذا الكلام هو موافق لما ذكره الأشعري [هو أبو الحسن على بن إسماعيل بن إسحاق، من نسل الصحابي أبو موسي الأشعري توفي عام 423هـ، وكان مولده سنة 072هـ] في كتاب [الإبانة]، ولما ذكره ابن كلاب كما حكاه عنه ابن فورك، لكن ابن كلاب يقول: إن العلو والمباينة من الصفات العقلية، وأما هؤلاء فيقولون: كونه في السماء صفة خبرية كالمجيء والإتيان، ويطلقون القول بأنه بذاته فوق العرش، وذلك صفة ذاتية عندهم. والأشعري يبطل تأويل من تأول الاستواء بمعني الاستيلاء والقهر، بأنه لم يزل مستوليًا على العرش وعلى كل شيء، والاستواء مختص بالعرش، فلو كان بمعني الاستيلاء لجاز أن يقال: هو مستو على كل شيء وعلى الأرض وغيرها. كما يقال: إنه مستولٍ عليها. ولما اتفق المسلمون على أن الاستواء مختص بالعرش، فهذا الاستواء الخاص ليس بمعني الاستيلاء العام، وأين للسلطان جعل الاستواء بمعني القهر والغلبة، وهو الاستيلاء؟ فيشبه ـ واللّه أعلم ـ أن يكون اجتهاده مختلفًا في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل، ثم حرمه، وحكي إجماع السلف على تحريمه، وابن عقيل له أقوال مختلفة، وكذلك / لأبي حامد، والرازي، وغيرهم. ومما يبين اختلاف كلام ابن فورك أنه في مصنف آخر قال: فإن قال قائل: أين هو؟ قيل: ليس بذي كيفية فنخبر عنها إلا أن يقول: [كيف صنعه؟]، فمن صنعه أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو الصانع للأشياء كلها. فهنا أبطل السؤال عن الكيفية، وهناك: جوزه، وقال: الكيفية هي الصفة، وهو ذو الصفات، وكذلك السؤال عن الماهية، قال في ذلك المصنف: وإن سألت الجهمية فقالت: ما هو؟، يقال لهم: [ما] يكون استفهامًا عن جنس أو صفة في ذات المستفهم. فإن أردت بذلك سؤالًا عن صفته فهو العلم، والقدرة، والكلام والعزة، والعظمة. وقال في الآخر: فإن قال قائل: حدثونا عن الواحد الذي تعبدونه ما هو؟ قيل: إن أردت بقولك: ما جنسه؟ فليس بذي جنس، وإن أردت بقولك: ماهو؟ أي: أشيروا إليه حتي أدركه بحواسي، فليس بحاضر للحواس، وإن أردت بقولك: ماهو؟ أي: دلوني عليه بعجائب صنعته وآثار حكمته، فالدلالة عليه قائمة. وإن أردت بقولك: ما اسمه؟ فنقول: هو اللّّه، الرحمن، الرحيم، القادر، السميع، البصير. / وهو في هذا المصنف أثبت أنه على العرش بخلاف ما كان عليه قبل العرش، فقال: فإن قال: فحدثونا عنه أين كان قبل أن يخلق؟ قيل: [أين؟] تقتضي مكانًا، والأمكنة مخلوقات، وهو ـ سبحانه ـ لم يزل قبل الخلق والأماكن، لا في مكان ولا يجرى عليه وقت ولا زمان. فإن قال: فعلى ما هـو اليوم؟ قيـل له: مستوٍ على العـرش كما قال ـ سبحانه: وقال: فإن قال قائل: لم يزل الباري قادرًا عالمًا حيًا سميعًا بصيرًا؟ قيل:نعم، فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا؟ قيل له: إن أردت بقولك:لم يزل خالقا. أي: لم يزل الخلق معه في قدمه، فهذا خطأ، لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان. فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا، وإن أردت بقولك أن الخالق لم يزل وكان قادرًا على أن يخلق الخلق، فكذلك نقول: لأن الخالق لم يزل والخلق لم يكن ثم كان، وقد كان لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، فهذا الجواب. قال: فإن قيل: إذا قلتم إنه الآن خالق فما أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا؟ قيل له: لا يلزم ذلك، وذلك أنـه الآن مستوٍ على / عرشـه، فـلا يجب أن يكون لم يـزل مستويًا على عرشه، فكذلك ما قلناه يناسبه. فإن قيل: الاستواء منه فعل، ويستحيل أن يكون الفعل لم يزل، قال: قيل: والخلق منه فعل، ويستحيل أن يكون الخلق لم يزل. فهذا الكلام ليس إلا ببيان الذين يقولون: إنه استوي على العرش بعد أن لم يكن، ويقولون بقدم صفة التكوين والخلق، وأنه لم يزل خالقًا، فألزمهم: أنا نقول في الخلق ما نقوله نحن وأنتم في الاستواء. وهذا جواب ضعيف من وجوه: أحدها: أنه في الحقيقة ليس عنده أنه استوي بعد أن لم يكن، كما قد بحثه مع السلطان، بل هو الآن كما كان، فلا يصح القياس عليه. الثاني: أنه قد سلم أنه لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، وهذا يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل، فإنه إذا كان المقدور ممتنعًا لم تكن هناك قدرة، فكيف يجعله لم يزل قادرًا مع امتناع أن يكون المقدور لم يزل ممكنًا؟ بل المقدور عنده كان ممتنعًا ثم صار ممكنًا بلا سبب حادث اقتضي ذلك. / الثالث: أن قوله: لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان، فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا؟ فيقال: بل كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه، وما ثم قديم أزلي إلا اللّه وحده.وإذا قيل:لم يزل خالقًا، فإنما يقتضي قدم نوع الخلق، و[دوام خالقيته] لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئًا أزليًا، ومن قال بقدم شيء من العالم ـ كالفلك أو مادته ـ فإنه يجعله مخلوقا بمعني أنه كان بعد أن لم يكن، ولكن إذ أوجده القديم. ولكن لم يزل فعالًا خالقًا، ودوام خالقيته من لوازم وجوده. فهذا ليس قولا بقدم شيء من المخلوقات، بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه. وهذا مقتضي سؤال السائل له. الوجه الرابع: أن يقال: العرش حادث، كائن بعد أن لم يكن، لم يزل مستويًا عليه بعد وجوده، وأما الخلق: فالكلام في نوعه، ودليله على امتناع حوادث لا أول لها، قد عرف ضعفه. واللّه أعلم. وكان ابن فُورَك ـ في مخاطبة السلطان ـ قصد إظهار مخالفة الكَرَّامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كَفَّرَهم عند / السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادي من خالفه فيها أو كَفَّره، فإنه هو ظلم نفسه. وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون. ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع ـ مثل الخوارج ـ يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلاً بباطل. وكذلك ما حكاه من مناظراتهم له عند الوزير، مجلسًا بعد مجلس هو من هذا الباب. فإن المعتزلة والكَرَّامِية يقولون حقًا وباطلا، وسنة وبدعة، كما أنه هو ـ أيضًا كذلك ـ يقول حقًا وباطلا موافقة لأبي الحسن، وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام، والقدر، مسلك الجهم بن صفوان، مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة، فهؤلاء قدرية مجبرة، والمعتزلة قدرية نافية، فوقع بينهم غاية التضاد في مسائل التعديل والتجويز ونحوها. واللّه يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض / في الجنة؛ رجل قضي للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار. ورجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة). وقد حرم ـ سبحانه ـ الكلام بلا علم مطلقًا، وخص القول عليه بلا علم بالنهي، فقال تعالى: وأمر بالعدل على أعداء المسلمين، فقال:
وهو ـ سبحانه ـ وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم؛ لأنه من صفات الكمال،كما مدح نفسه بأنه العظيم،والعليم،والقدير، والعزيز، والحليم، ونحو ذلك. وأنه الحي / القيوم، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسني،فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه. فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة، مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللُّغُوب. ولا بضد العزة وهو الذل، ولا بضد الحكمة وهو السفه. فكذلك، لا يوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير، بل هو ـ سبحانه ـ منزه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له، فثبوت صفات الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها، وهي النقائص. وهو ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء فيما يوصف به من صفات الكمال. فهو منزه عن النقص المضاد لكماله، ومنزه عن أن يكون له مثل في شيء من صفاته، ومعاني التنزيه ترجع إلى هذين الأصلين، وقد دل عليهما سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن بقوله: وقوله: [الأحد] يقتضي أنه لا مثل له ولا نظير وقد ذكرنا في غير موضع أن ما وصف اللّه تعالى به نفسه من الصفات السلبية، فلا بد أن يتضمن معني ثبوتيا، فالكمال هو في الوجود والثبوت،والنفي مقصوده نفي ما يناقض ذلك، فإذا نفي النقيض الذي هو العدم والسلب لزم ثبوت النقيض الآخر الذي هو الوجود والثبوت. وبينا هذا في آية الكرسي وغيرها مما في القرآن، كقوله: والوحدانية: تقتضي الكمال، والشركة: تقتضي النقص. وكذلك قوله: / والمقصود هنا أن علوه من صفات المدح اللازمة له. فلا يجوز اتصافه بضد العلو البتة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، ولم يقل: [تحتك]، وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير هذا الموضع. وإذا كان كذلك، فالمخالفون للكتاب والسنة وما كان عليه السلف لا يجعلونه متصفا بالعلو دون السفول، بل إما أن يصفوه بالعلو والسفول أو بما يستلزم ذلك، وإما أن ينفوا عنه العلو والسفول. وهم نوعان. فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول. فإنه إذا كان في مكان فالأمكنة منها عال وسافل، فهو في العالي عال، وفي السافل سافل. بل إذا قالوا: إنه في كل مكان. فجعلوا الأمكنة كلها محال له، ظروفا وأوعية، جعلوها في الحقيقة أعلى منه. فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه، والحاوي فوق المحوي. والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا: إنه فوق العرش، / وإنه في السماء فوق كل شيء، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره، أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاءً ـ سبحانه وتعالى عن ذلك ـ بل هو فوق كل شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه. وهو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته. وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق. وما في الكتاب والسنة من قوله: والقائلون بأنه في كل مكان هو عندهم في المخلوقات السفلية القذرة الخبيثة، كما هو في المخلوقات العالية. وغلاة هؤلاء الاتحادية الذين يقولون: [الوجود واحد]، كابن عربي الطائي صاحب [فصوص / الحكم]، و[الفتوحات المكية]، يقولون: الموجود الواجب القديم هو الموجود المحدث الممكن. ولهذا قال ابن عربي في [فصوص الحكم]: [ومن أسمائه الحسني [العلي]. على من، وما ثم إلا هو؟ وعن ماذا، وما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمُسَمَّي [محدثات]: هي العلية لذاتها وليست إلا هو]. إلي أن قال: [فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الأوصاف الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا، أو مذمومة عرفا وعقلًا وشرعا. وليس ذلك إلا المسمي اللّه]. فهو عنده الموصوف بكل ذم، كما هو الموصوف بكل مدح. وهؤلاء يفضلون عليه بعض المخلوقات، فإن في المخلوقات ما يوصف بالعلو دون السفول كالسماوات. وما كان موصوفا بالعلو دون السفول كان أفضل مما لا يوصف بالعلو، أو يوصف بالعلو والسفول. وقد قال فرعون: / ولما كان فرعون في منصب التحكم والخليفة بالسيف، جاز في العرف الناموسي أن قال: فبهـذا وأمثاله يصححون قـول فرعـون: وهكذا سائر الجهمية يصفون بالعلو ـ على وجه المدح ـ ما هو عال من المخلوقات، كالسماء، والجنة، والكواكب، ونحو ذلك. ويعلمون أن العالي أفضل من السافل، وهم لا يصفون ربهم بأنه الأعلى، ولا العلي، بل يجعلونه في السافلات كما هو في العاليات. والجهمية الذين يقولون: ليس هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه البتة، هم أقرب إلى التعطيل والعدم، كما أن أولئك أقرب إلى الحلول والاتحاد بالمخلوقات. فهؤلاء يثبتون موجودًا لكنه في الحقيقة المخلوق لا الخالق، وأولئك ينفون فلا يثبتون وجودًا البتة، لكنهم / يثبتون وجود المخلوقات، ويقولون: إنهم يثبتون وجود الخالق. وإذا قالوا: نحن نقول: هو عال بالقدرة أو بالقدر، قيل: هذا فرع ثبوت ذاته وأنتم لم تثبتوا موجودًا يعرف وجوده فضلا عن أن يكون قادرًا أو عظيم القدر. وإذا قالوا: كان اللّه قبل خلق الأمكنة والمخلوقات موجودًا، وهو الآن على ما عليه كان لم يتغير، ولم يكن هناك فوق شيء ولا عاليًا على شيء فذلك هو الآن، قيل: هذا غلط، ويظهر فساده بالمعارضة ثم بالحل وبيان فساده. أما الأول: فيلزمهم ألا يكون الآن عاليًا بالقدرة ولا بالقدر كما كان في الأزل. فإنه إذا قدر وجوده وحده فليس هناك موجود يكون قادرًا عليه ولا قاهرًا له ولا مستوليًا عليه، ولا موجودا يكون هو أعظم قدرًا منه. فإن كان مع وجود المخلوقات لم يتجدد له علو عليها كما زعموا، فيجب أن يكون بعدها ليس قاهرًا لشيء ولا مستوليًا عليه، ولا قاهرًا لعباده، ولا قدره أعظم من قدرها. وإذا كانوا يقولون ـ هم وجميع العقلاء ـ إنه مع وجود المخلوق يوصف بأمور إضافية لا يوصف / بها إذا قدر موجودًا وحده علم أن التسوية بين الحالين خطأ منهم. وقد اتفق العقلاء على جواز تجدد النسب والإضافات مثل المعية، وإنما النزاع في تجدد ما يقوم بذاته من الأمور الاختيارية. وقد بين في غير هذا الموضع أن النسب والإضافات مستلزمة لأمور ثبوتية، وأن وجودها بدون الأمور الثبوتية ممتنع. والإنسان إذا كان جالسًا فتحول المتحول عن يمينه ـ بعد أن كان عن شماله قيل: إنه عن شماله. فقد تجدد من هذا فعل به تغيرت النسبة والإضافة،. وكذلك من كان تحت السطح فصار فوقه، فإن النسبة بالتحتية والفوقية تجدد لما تجدد فعل هذا. وإذا قيـل: نفس السقف لم يتغـير قيل: قـد يمنع هـذا، ويقال: ليس حكمـه إذا لم يكن فوقـه شيء كحكمـه إذا كـان فوقـه شيء. وإذا قيل عن الجالس: إنه لم يتغير، قيل: قد يمنع هـذا، ويقال: ليس حكمـه إذا كـان الشخص عـن يساره كحكمه إذا كان عن يمينه، فإنـه يحجب هـذا الجانب ويـوجب مـن التفات الشخص وغـير ذلك مـا لم يكن قبل ذلك. وكذلك من تجدد له أخ أو ابن أخ بإيلاد أبيه أو أخيه، قد وجد هنا أمور ثبوتية. وهذا الشخص يصير فيه من العطف والحنو على هذا الولد المتجدد ما لم يكن قبل ذلك، وهي الرحم والقرابة. / وبهذا يظهر الجواب الثاني، وهو أن يقال: العلو والسفول ـ ونحو ذلك ـ من الصفات المستلزمة للإضافة، وكذلك الاستواء، والربوبية، والخالقية، ونحو ذلك. فإذا كان غيره موجودًا، فإما أن يكون عاليًا عليه وإما ألا يكون، كما يقولون هم: إما أن يكون عاليًا عليه بالقهر أو بالقدر أو لا يكون، خلاف ما إذا قدر وحده، فإنهم لا يقولون: إنه حينئذ قاهر، أو قادر أو مستول عليه، فلا يقال: إنه عال عليه. وإن قالوا: (إنه قادر وقاهر) كان ذلك مشروطًا بالغير، وكذلك علو القدر، قيل: وكذلك علو ذاته مازال عاليًا بذاته لكن ظهور ذلك مشروط بوجود الغير. والإلزامات مفحمة لهم. وحقيقة قولهم: إنه لم يكن قادرًا في الأزل ثم صار قادرًا. يقولون: لم يزل قادرًا مع امتناع المقدور، وإنه لم يكن الفعل ممكنًا فصار ممكنا. فيجمعون بين النقيضين.
وأما الذين يصفونه بالعلو والسفول، فالذين يقولون: هو فوق العرش وهو ـ أيضًا ـ في كل مكان، والذين يقولون: إذا نزل كل ليلة فإنه / يخلو منه العرش، أو غيره من المخلوقات أكبر منه، ويقولون: لا يمتنع أن يكون الخالق أصغر من المخلوق، كما يقول شيوخهم: إنه لا يمتنع أن يكون الخالق أسفل من المخلوق، فهؤلاء لا يصفونه بأنه أكبر من كل شيء، بل ولا هو ـ على قولهم ـ الكبير المتعال، ولا هو العلى العظيم. وقد بسط الرد على هؤلاء في (مسألة النزول) لما ذكر قول أئمة السنة مثل حماد بن زيد [هو أبو إسماعيل حماد بن درهم الأزدي الجهضمي، شيخ العراق في عصره، من حفاظ الحديث الموجودين، يعرف بالأزرق، أصله من سبي سجستان، مولده ووفاته في البصرة، يحفظ أربعة آلاف حديث. خرج حديثه الأئمة الستة]، وإسحق بن راهويه، وغيرهما: (إنه ينزل ولا يخلو منه العرش) ذكر قول من أنكر ذلك من المتأخرين المنتسبين إلى الحديث والسنة، وبَين فساد قولهم شرعا وعقلًا. وهؤلاء في مقابلة الذين ينفون النزول. وإذا قيـل: حـديث النزول ونحـوه ظاهـره ليس يحتمـل التأويـل، فهـذا صحيـح إذا أريـد بالظاهـر ما يظهر لهؤلاء ونحوهم، من أنه ينزل إلى أسفل فيصير تحت العرش كما يـنزل الإنسـان مــن سطـح داره إلى أسـفـل وعلى قــول هـؤلاء ولا يبقي حينئـذ العلى ولا الأعلى، بل يكـون تـارة أعلى وتـارة أسفل ـ تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وكذلك ما ورد من نزوله يوم القيامة في ظلل من الغمام، ومن نزوله / إلى الأرض لما خلقها، ومن نزوله لتكليم موسي، وغير ذلك، كله من باب واحد، كقوله تعالى: وكذلك قوله: ومن قال: إنه في السماء فمراده أنه في العلو، ليس مراده أنه في جوف الأفلاك، إلا أن بعض الجهال يتوهم ذلك. وقد ظن طائفة أن هذا ظاهر اللفظ. / الظاهر ولا ريب أنه محمول على خلاف هذا الاتفاق؛ لكن هذا هو الذي يظهر لعامة المسلمين الذين يطلقون هذا القول ويـسمعونه، أو هو مدلول اللفظ في اللغة، هو مما لا يسلم لهم، كما قد يبسط في مواضع. وقد قال تعالى: وقد قدمنا أن لفظ (السماء) يتناول كل ما سما، ويدخل فيه السموات، والكرسي، والعرش، وما فوق ذلك؛ لأن هذا في جانب النفي، وهو لم يقل هنا: السموات السبع، بل عم بلفظ: (السموات). وإذا كان لفظ (السماء) قد يراد به السحاب، ويراد به الفلك، ويراد به ما فوق العالم، ويراد به العلو مطلقًا، فـ (السموات): جمع (سماء)، وكل من فيما يسمي (سماء)، وكل من فيما يسمي (أرضًا) لا يعلم الغيب إلا اللّه. / وهو ـ سبحانه ـ قال: وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه: وقوله: والنفاة للعلو ـ ونحوه من الصفات ـ معترفون بأنه ليس مستندهم خبر الأنبياء، لا الكتاب، ولا السنة، ولا أقوال السلف، ولا مستندهم فطرة العقل وضرورته، ولكن يقولون: معنا النظر العقلي. وأما أهل السنة المثبتون للعلو فيقولون: إن ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، مع فطرة اللّه التي فطر العباد عليها وضرورة العقل، ومع نظر العقل واستدلاله. / لكن، الذين يقولون بأنه ينزل ولا يبقي فوق العرش، وأنه يكون في جوف المخلوقات، ونحو هـؤلاء، قـد يقولون: إن مستندهم في ذلك السمع، وهو ما فهموه من القرآن، أو من الأحاديث الصحيحة أو غير الصحيحة، أو من أقوال السلف وهم أخطؤوا من حيث نظروا ـ اقتصروا على فهمه من نص واحد،كفهمهم من حديث النزول ـ ولم يتدبروا مافي الكتاب والسنة مما يصفه بالعلو والعظمة ونحو ذلك مما ينافي أن يكون شيء أعلى منه أو أكبر منه. ويتدبروا ـ أيضًا ـ دلالة النص، مثل نزوله إلى سماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر بأن الليل يختلف، فيكون ليل أهل المشرق ونصفه وثلثه الآخر قبل ذلك في المغرب بقريب من يوم، فيلزم على قولهم أنه لا يزال تحت العرش، وهو قد أخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض. وما ذكروه ينافي استواءه على العرش، وأنه ليس فوق العرش، كما قد بسط في مواضع.
|