الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الحمد للَّه، تكرير اللفظ بالنية، والتكبير، والجهر بلفظ النية ـ أيضًا ـ منهي عنه عند الشافعي، وسائر أئمة الإسلام، وفاعل ذلك مسيء. وإن اعتقد ذلك دينًا، فقد خرج عن إجماع المسلمين، ويجب نهيه عن ذلك. وإن عزل عن الإمامة إذا لم ينته، كان له وجه. فإن في سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعزل إمام لأجل بزاقه في القبلة. فإن الإمام عليه أن يصلي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، ليس له أن يقتصر على ما يقتصر عليه المنفرد بل ينهي عن التطويل والتقصير، فكيف إذا أصر على ما ينهي عنه الإمام والمأموم والمنفرد. و الله أعلم.
/ فأجاب: هذه العبارة ـ أصلي نصيب الليل ـ لم تنقل عن سلف الأمة، وأئمتها. والمشروع أن ينوي الصلاة للَّه، سواء كانت بالليل أو النهار، وليس عليه أن يتلفظ بالنية. فإن تلفظ بها، وقال: أصلي للَّه صلاة الليل، أو أصلي قيام الليل، ونحو ذلك، جاز. ولم يستحب ذلك، بل الاقتداء بالسنة أولى. و الله أعلم.
فأجاب: أما الأول، ففي صلاته قولان في مذهب أحمد وغيره، لكن الصحيح أن مثل هذا جائز، وهو قول أكثر العلماء، إذا كان الإمام قد نوي الإمامة، والمؤتم قد نوي الائتمام. فإن نوى المأموم /الائتمام ولم ينو الإمام الإمامة، ففيه قولان: أحدهما: تصح كقول الشافعي، ومالك وغيرهما، وهو رواية عن أحمد. والثاني: لا تصح، وهو المشهور عن أحمد. وذلك أن ذلك الرجل كان مؤتمًا في أول الصلاة، وصار منفردًا بعد سلام الإمام. فإذا ائتم به ذلك الرجل، صار المنفرد إمامًا، كما صار النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا بابن عباس، بعد أن كان منفردًا. وهذا يصح في النفل كما جاء في هذا الحديث، كما هو منصوص عن أحمد وغيره من الأئمة. وإن كان قد ذُكِرَ في مذهبه قول بأنه لا يجوز. وأما في الفرض، فنزاع مشهور، والصحيح جواز ذلك في الفرض والنفل. فإن الإمام التزم بالإمامة أكثر مما كان يلزمه في حال الانفراد، فليس بمصير المنفرد إمامًا محذورًا أصلا، بخلاف الأول. و الله أعلم.
سئل ـ رحمه الله ـ عن رجل مشي إلى صلاة الجمعة مستعجلا، فأنكر ذلك عليه بعض الناس، فأجاب: ليس المراد بالسعي المأمور به العَدْو. فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وروي: (فاقضوا). ولكن قال الأئمة: السعي في كتاب الله هو العمل والفعل، كما قال تعالي: ولفظ [السعي] في الأصل اسم جنس، ومن شأن أهل العرف، إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يفردون أحد نوعيه باسم، ويبقي الاسم العام مختصًا بالنوع الآخر، كما في لفظ: [ذوي الأرحام] ، فإنه يعم جميع الأقارب: من يرث بفرض وتعصيب، ومن لا فرض له ولا تعصيب. فلما مُيِّز ذو الفرض والعصبة، صار في عرف الفقهاء ذوو الأرحام مختصًا بمن لا فرض له ولا تعصيب. وكذلك لفظ [الجائز] يعم ما وجب ولزم من الأفعال والعقود، وما لم يلزم. فلما خص بعض الأعمال بالوجوب وبعض العقود باللزوم، بقي اسم الجائز في عرفهم مختصًا بالنوع الآخر. وكذلك اسم [الخمر] هو عام لكل شراب، لكن لما أفرد ما يصنع من غير العنب باسم النبيذ، صار اسم الخمر في العرف مختصًا بعصير العنب، حتى ظن طائفة من العلماء أن اسم الخمر في الكتاب والسنة مختص بذلك. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعمومه، ونظائر هذا كثيرة. /وبسبب هذا الاشتراك الحادث، غلط كثير من الناس في فهم الخطاب بلفظ السعي من هذا الباب. فإنه في الأصل عام في كل ذهاب ومضي، وهو السعي المأمور به في القرآن. وقد يخص أحد النوعين باسم المشي، فيبقي لفظ السعي مختصًا بالنوع الآخر، وهذا هو السعي الذي نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون). وقد روي أن عمر كان يقرأ: (فامضوا) ويقول: لو قرأتها فاسعوا لعدوت حتى يكون كذا وهذا ـ إن صح عنه ـ فيكون قد اعتقد أن لفظ السعي هو الخاص. ومما يشبه هذا: السعي بين الصفا والمروة، فإنه إنما يهرول في بطن الوادي بين الميلين. ثم لفظ السعي يخص بهذا. وقد يجعل لفظ السعي عامًا لجميع الطواف بين الصفا والمروة، لكن هذا كأنه باعتبار أن بعضه سعي خاص. و الله أعلم.
وَسُئِلَ عن أقوام يبتدرون السواري قبل الناس، وقبل تكميل الصفوف ويتخذون لهم مواضع دون الصف، فهل يجوز التأخر عن الصف الأول؟ /فأجاب: قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟) قالوا: يا رسول الله، كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف). وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه). وثبت عنه في الصحيح: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها). وأمثال ذلك من السنن، التي ينبغي فيها للمصلين أن يتموا الصف الأول، ثم الثاني. فمن جاء أول الناس، وصف في غير الأول، فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة، أو فضول الكلام، أو مكروهه، أو محرمه، ونحو ذلك ـ مما يصان المسجد عنه ـ فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله. وإن لم يعتقد نقص ما فعله، ويلتزم اتباع أمر الله، استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به، وترك ما نهي الله عنه. و الله أعلم.
/ فأجاب: ليس لأحد أن يصلي منفردًا خلف الصف، بل على الناس أن يصلوا مصطفين. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا صلاة لفذ خلف الصف). ولا يصح لهم أن يصلوا في السوق حتى تتصل الصفوف، بل عليهم أن يقاربوا الصفوف، ويسدوا الأول فالأول. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد للَّه، هذه المسائل التي يقع فيها النزاع ـ مما يتعلق بصفات العبادات ـ أربعة أقسام: منها: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن كل واحد من الأمرين، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك. لكن قد يتنازعون في الأفضل. وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي اتفق الناس على جواز القراءة بأي قراءة شاء منها، كالقراءة المشهورة بين المسلمين، فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها، وإن اختار بعضها لسبب من الأسباب. ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم/أنه كان يقولها في قيام الليل، وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهد. فهذه الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها سائغة باتفاق المسلمين، لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به. وقد ثبت في الصحيح أنه قال: (إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ باللَّه من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). وهذا ـ أيضًا ـ قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في آخر صلاته، لكن الأول أمر به. وما تنازع العلماء في وجوبه، فهو أوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه. وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرًا كقوله: /القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة، ولا إثم عليه، لكن يتنازعون في الأفضل، وفيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. ومسألة القنوت في الفجر والوتر، والجهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها، من هذا الباب. فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة، صحت صلاته. ومن خافت، صحت صلاته. وعلي أن من قنت في الفجر، صحت صلاته. ومن لم يقنت فيها، صحت صلاته. وكذلك القنوت في الوتر. وإنما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة، وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب. وتنازعوا ـ أيضًا ـ في استحباب قراءتها. وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة. وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها. أو يمس ذكره ولا يتوضأ، والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك. أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة، والمأموم يرى أن الدباغ لا يطهر. أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة. والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه، وإن كان إمامه مخطئا في نفس الأمر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا، فلكم ولهم. وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم) . وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر، قنت معه. سواء/ قنت قبل الركوع، أو بعده. وإن كان لا يقنت معه. ولو كان الإمام يرى استحباب شيء، والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف، كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة، كالمغرب. كقول من قاله من أهل العراق. والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها، كقول من قال ذلك من أهل الحجاز. والثالث: أن الأمرين جائزان، كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو الصحيح. وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله. فلو كان الإمام يرى الفصل، فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب، فوافقهم على ذلك تأليفًا لقلوبهم، كان قد أحسن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه) فترك الأفضل عنده؛ لئلا ينفر الناس. /وكذلك لو كـان رجـل يرى الجهر بالبسملة، فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم، كـان قـد أحـسن، وإنما تنازعـوا في الأفضل، فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة. وطائفة من أهل العراق اعتقدت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا شهرًا، ثم تركه على وجه النسخ له، فاعتقدوا أن القنوت في المكتوبات منسوخ. وطائفة من أهل الحجاز اعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم مـازال يقنـت حتى فـارق الدنيا. ثم منهم من اعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع، ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركــوع. والصـواب هو [القول الثالث] الذي عليه جمهور أهل الحديث. وكثير من أئمة أهل الحجاز، وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما؛ أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هـــذا القنــوت، ثم إنه بعد ذلك بمدة ـ بعد خيبر، وبعد إسلام أبي هريرة ـ قنــت، وكان يقــول في قنوتـه: (اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفــين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتــك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف). فلو كان قد نسخ القنوت، لم يقنت هـذه المــرة الثانية. وقد ثبـت عنـه في الصحيح أنه قنت في المغـرب، وفي العشـاء الآخرة. وفي السنن أنه كان يقنت في الصلوات الخمس.وأكثر قنوته/كان في الفجر، ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها، بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: مازال يقنت حتى فارق الدنيا، إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع. وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه، فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح، فكيف وهو لم يعارضه، وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما، قبل الركوع. وأما أنه كان يدعو في الفجر دائمًا قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع، فهذا باطل قطعًا. وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة، علم هذا بالضرورة، وعلم أن هذا لو كان واقعًا، لنقله الصحابة والتابعون، ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا، مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه، وإنما يشرع نظيره. فإن دعاءه لأولئك المعينين، وعلي أولئك المعينين، ليس بمشروع باتفاق المسلمين، بل إنما يشرع نظيره. فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين، ويدعو على الكفار في الفجر، وفي غيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصاري بدعائه الذي فيه: اللهم العن كفرة أهل الكتاب ... إلى آخره. /وكذلك على ـ رضي الله عنه ـ لما حارب قوما، قنت يدعو عليهم. وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمي من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنًا. وأما قنوت الوتر، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يستحب بحال؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر. وقيل: بل يستحب في جميع السنة، كما ينقل عن ابن مسعود وغيره؛ ولأن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن على ـ رضي الله عنهما ـ دعاء يدعو به في قنوت الوتر. وقيل: بل يقنت في النصف الأخير من رمضان. كما كان أبي ابن كعب يفعل. وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة، من شاء فعله، ومن شاء تركه. كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، وكما يخير إذا أوتر بثلاث، إن شاء فصل، وإن شاء وصل. وكذلك يخير في دعاء القنوت إن شاء فعله، وإن شاء تركه. وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت في جميع الشهر، فقد أحسن. وإن قنت في النصف الأخير، فقد أحسن. وإن لم يقنت بحال فقد أحسن. /كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددًا معينًا، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات. فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب، كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث. وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ. فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن. والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين. فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين. وإن قام بأربعين وغيرها، جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه، فقد أخطأ، فإذا كانت هذه/ السعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه، كل ذلك سائغ حسن. وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها. وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة. إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود. هكذا كان يفعل في المكتوبات، وقيام الليل، وصلاة الكسوف، وغير ذلك. وقد تنازع الناس: هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: أصحها أن كليهما سواء. فإن القيام اختص بالقراءة، وهي أفضل من الذكر والدعاء، والسجود نفسه أفضل من القيام، فينبغي أنه إذا طول القيام، أن يطيل الركوع والسجود، وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: (طول القنوت). فإن القنوت هو إدامة العبادة، سواء كان في حال القيام، أو الركوع، أو السجود، كما قال تعالي: /وأما البسملة: فلا ريب أنه كان في الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها، بل يقرؤها سرًا، أو لا يقرؤها. والذين كانوا يجهرون بها، أكثرهم كان يجهر بها تارة، ويخافت بها أخري؛ وهذا لأن الذكر قد تكون السنة المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين، فإنه قد ثبت في الصحيح أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليعلمهم أنها سنة. وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاث أقوال: قيل: لا تستحب بحال، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة. كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي، وأحمد. وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة، جاز. وهذا هو الصواب. وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك يجهر بذلك مرات كثيرة. واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة، لكن جهر به للتعليم؛ ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان/ يجهر أحيانًا بالتعوذ، فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك، فالجهر بالبسملة أولي أن يكون كذلك وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة. لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بالاستفتاح، ولا بالاستعاذة،بل قد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال له: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال: (أقول: اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغـرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) . وفي السنن عنه أنه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة، والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة؛ لأنها آية من كتاب الله ـ تعالي ـ وقد تنازع العلماء في وجوبها. وإن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح، والاستعاذة. وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره. لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. والقائلون بوجوبها من العلماء، أفضل وأكثر، لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها، وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر، والأحاديث الصريحة بالجهر كلها / ضعيفة بل موضوعة. ولهذا لما صنف الدارقطني مصنفًا في ذلك، قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، وأما عن الصحابة، فمنه صحيح، ومنه ضعيف. ولو كـان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها دائمًا، لكان الصحابة ينقلون ذلك، ولكان الخلفاء يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجـون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشـدون ثم خلفاء بني أميـة وبني العباس كلهم متفقـين على ترك الجهـر، ولما كـان أهـل المدينة ـ وهم أعلم أهل المدائن بسنته ـ ينكرون قراءتها بالكلية سرًا، وجهرًا، والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله، وليست من الفاتحة، ولا غيرها. وقد تنازع العلماء: هل هي آية، أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف، وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال. والقول الثالث: هو أوسط الأقوال، وبه تجتمع الأدلة. فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله. وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزلت على آنفا سورة فقرأ: وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يقول اللّه ـ تعالي ـ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة، ولم يعارضه/ حديث صحيح صريح. وأجود ما يري في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة، لا يدل على أنها منها. ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة، ومنهم من لا يقرأ بها. فدل على أن كلا الأمرين سائغ، لكن من قرأ بها، كان قد أتي بالأفضل. وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها؛ لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف. فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك، لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك، وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته، وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن، حتى أنهم لم يكتبوا التأمين، ولا أسماء السور ولا التخميس، والتعشير، ولا غير ذلك. مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين، فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله، وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن؟ فإذا جمع بين الأدلة الشرعية، دلت على أنها من كتاب اللّه، وليست من السورة. والحديث الصحيح عن أنس ليس فيه نفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرًا، فهو مقابل لقول من قال: مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور، وهذا ـ أيضًا ـ ضعيف. فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه، وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرؤون الفاتحة قبل السورة، ولم ينازع في ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره. ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ومن روي عن أنس أنه شك هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ البسملة أو لا يقرؤها، فروايته توافق الروايات الصحيحة؛ لأن أنسًا لم يكن يعلم هل قرأها سرًا أم لا، وإنما نفى الجهر. ومن هذا الباب الذي اتفق العلماء على أنه يجوز فيه الأمران: فعل الرواتب في السفر، فإنه من شاء فعلها، ومن شاء تركها، باتفاق الأئمة. والصلاة التي يجوز فعلها وتركها، قد يكون فعلها ـ أحيانًا ـ أفضل/ لحاجة الإنسان إليها، وقد يكون تركها أفضل إذا كان مشتغلًا عن النافلة بما هو أفضل منها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم في السفر لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر، ولما نام عن الفجر صلى السنة والفريضة بعدما طلعت الشمس، وكان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وهذا كله ثابت في الصحيح. فأما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عنه أنه فعل ذلك في السفر. وقد تنازع العلماء في السنن الرواتب مع الفريضة. فمنهم من لم يوقت في ذلك شيئًا. ومنهم من وقت أشياء بأحاديث ضعيفة، بل أحاديث يعلم أهل العلم بالحديث أنها موضوعة، كمن يوقت ستًا قبل الظهر، وأربعًا بعدها، وأربعا قبل العصر، وأربعًا قبل العشاء، وأربعًا بعدها ونحو ذلك. والصواب في هذا الباب القول بما ثبت في الأحاديث الصحيحة دون ما عارضها، وقد ثبت في الصحيح ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر قال:( حفظت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعـدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، /وركعتين قبل الفجر)، وحديث عائشة كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعًا ـ وهو في الصحيح أيضًا ـ وسائره في صحيح مسلم، كحديث ابن عمر، وهكذا في الصحيح وفي رواية صححها الترمذي صلي قبل الظهر ركعتين. وحديث أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة، بنى اللّه له بيتًا في الجنة) . وقد جاء في السنن تفسيرها: (أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر) فهذا الحديث الصحيح فيه أنه رغب بقوله في: ثنتي عشرة ركعة. وفي الحديثين الصحيحين أنه كان يصلي مع المكتوبة إما عشر ركعات، وإما اثنتي عشرة ركعة. وكان يقوم من الليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة . فكان مجموع صلاة الفريضة والنافلة في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة، كان يوتر صلاة النهار بالمغرب، ويوتر صلاة الليل بوتر الليل. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، وقال: في الثالثة لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة. /وثبت في الصحيح أن أصحابه كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين، وهو يراهم ولا ينهاهم). فإذا كان التطوع بين أذاني المغرب مشروعا، فلأن يكون مشروعا بين أذاني العصر والعشاء بطريق الأولى؛ لأن السنة تعجيل المغرب باتفاق الأئمة. فدل ذلك على أن الصلاة قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء: من التطوع المشروع، وليس هو من السنن الراتبة التي قدرها بقوله، ولا داوم عليها بفعله. ومن ظن أنه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر، فقد غلط، وإنما كانت تلك ركعتي الظهر لما فاتته قضاها بعد العصر، وما يفعل بعد الظهر فهو قبل العصر، ولم يقض بعد العصر إلا الركعتين بعد الظهر. و[التطوع المشروع] كالصلاة بين الأذانين، وكالصلاة وقت الضحى، ونحو ذلك، هو كسائر التطوعات من الذكر والقراءة والدعاء مما قد يكون مستحبًا لمن لا يشتغل عنه بما هو أفضل منه، ولا يكون مستحبًا لمن اشتغل عنه بما هو أفضل منه. والمداومة على القليل أفضل من كثير لا يداوم عليه؛ ولهذا كان عمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ديمة. واستحب الأئمة أن يكون للرجل عـدد مـن الركعات يقوم بها من/ الليل لا يتركها، فإن نشط أطالها، وإن كسل خففها، وإذا نام عنها صلى بدلها من النهار، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة، وقال: (من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل) . ومـن هـذا الباب [صلاة الضحى] فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها باتفاق أهل العلم بسنته. ومـن زعم مـن الفقهاء أن ركعتي الضحى كـانتا واجبتين عليه، فقد غلط. والحديث الذي يذكرونه: (ثلاث هن علي فريضة، ولكم تطوع: الوتر، والفجر، وركعتا الضحى) حديث موضوع بل ثبت في حديث صحيح لا معارض له أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وقت الضحى لسبب عارض لا لأجل الوقت: مثل أن ينام من الليل، فيصلي من النهار. اثنتي عشرة ركعة، ومثل أن يقدم من سفر وقت الضحى، فيدخل المسجد فيصلي فيه. ومثل ما صلى لما فتح مكة ثماني ركعات، وهذه الصلاة كانوا يسمونها [صلاة الفتح]، وكان من الأمراء من يصليها إذا فتح مصرًا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلاها لما فتح مكة. ولو كان سببها مجرد الوقت كقيام الليل، لم يختص بفتح مكة. ولهذا كان/من الصحابة من لا يصلي الضحى، لكن قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) . وفي رواية لمسلم: (وركعتي الضحى كل يوم) . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة. فكل تسبيحة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن المنكر صدقة. ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) . وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى) . وهذه الأحاديث الصحيحة وأمثالها، تبين أن الصلاة وقت الضحى حسنة محبوبة. بقي أن يقال: فهل الأفضل المداومة عليها كما في حديث أبي هريرة أو الأفضل ترك المداومة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ هذا مما تنازعوا فيه. والأشبه أن يقال: من كان مداومًا على قيام الليل، أغناه عن المداومة على صلاة الضحى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ومن كان ينام عن قيام الليل، فصلاة الضحى بدل عن قيام الليل. /وفي حديث أبي هريرة أنه أوصاه أن يوتر قبل أن ينام. وهذا إنما يوصى به من لم يكن عادته قيام الليل، وإلا فمن كانت عادته قيام الليل، وهو يستيقظ غالبًا من الليل، فالوتر آخر الليل أفضل له، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من خشي ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله. ومن طمع أن يستيقظ آخره فليوتر آخره. فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ فقال: (قيام الليل) .
|