الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: وأما لفظ الحديث: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم)، وإذا لم تذكروا الله فيها كنتم كالميت، وكانت كالقبور؛ فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت)، وفي لفظ: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت).
فأجاب: إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده، أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف، فهو أحسن. وأما الاجتماع في المساجد على صلاة مقدرة. كالاجتماع على مائة ركعة، بقراءة ألف وأما صلاة الرغائب، فلا أصل لها، بل هي محدثة. فلا تستحب لا جماعة، ولا فرادي. فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن تخص ليلة الجمعة بقيام، أو يوم الجمعة بصيام. والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء. ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً. وأما ليلة النصف، فقد روي في فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها، فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا. وأما الصلاة فيها جماعة، فهذا مبني على قاعدة عامة في الاجتماع على الطاعات والعبادات. فإنه نوعان أحدهما سنة راتبة إما واجب وإما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين.وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح، فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة. والثاني: ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن، أو ذكر الله أو دعاء. فهذا لا بأس به إذا لم يُتَّخذ عادة راتبة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم / صلى التطوع في جماعة أحياناً ولم يداوم عليه إلا ما ذكر. وكان أصحابه إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون. وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسي: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أهل الصفة ومنهم واحد يقرأ فجلس معهم. وقد روي: في الملائكة السيارين الذين يتبعون مجالس الذكر الحديث المعروف. فلو أن قوماً اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوع من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره. لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع. ولو ساغ ذلك، لساغ أن يعمل صلاة أخري وقت الضحي أو بين الظهر والعصر أو تراويح في شعبان أو أذان في العيدين، أو حج إلى الصخرة ببيت المقدس، وهذا تغيير لدين الله وتبديل له. وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها. والبدع المكروهة ما لم تكن مستحبة في الشريعة وهي أن يشرع ما لم يأذن به الله فمن جعل شيئاً ديناً وقربة بلا شرع من الله، فهو مبتدع ضال وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كل بدعة ضلالة). فالبدعة ضد الشرعة، والشرعة ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، وإن لم يفعل على عهده كالاجتماع في التراويح على إمام واحد وجمع القرآن في المصحف. وقتل أهل الردة والخوارج ونحو ذلك. وما لم يشرعه الله ورسوله، فهو بدعة وضلالة: مثل تخصيص / مكان أو زمان باجتماع على عبادة فيه كما خص الشارع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد. وكما خص مكة بشرفها والمساجد الثلاثة وسائر المساجد بما شرعه فيها من الصلوات وأنواع العبادات كل بحسبه؛ وبهذا التفسير يظهر الجمع بين أدلة الشرع من النصوص والإجماعات، فإن المراد بالبدعة ضد الشرعة وهو ما لم يشرع في الدين، فمتى ثبت بنص أو إجماع في فعل أنه مما يحبه الله ورسوله، خرج بذلك عن أن يكون بدعة، وقد قررت ذلك مبسوطا في قاعدة كبيرة من القواعد الكبار. وَقَالَ ـ رَحمَه الله : [صلاة الرغائب] بدعة باتفاق أئمة الدين، لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحبها أحد من أئمة الدين ـ كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث ـ وغيرهم. والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث، وكذلك الصلاة التي تذكر أول ليلة جمعة من رجب، وفي ليلة المعراج، وألفية نصف شعبان، والصلاة يوم الأحد، والإثنين وغير هذا من أيام الأسبوع، وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في الرقائق، فلا نزاع بين أهل المعرفة بالحديث أن أحاديثه كلها موضوعة، ولم يستحبها أحد من أئمة الدين. وفي صحيح مسلم / عن أبي هريرة عن النبي? صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام، ولا يوم الجمعة بصيام). والأحاديث التي تذكر في صيام يوم الجمعة، وليلة العيدين، كذب على النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
وسئل عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا؟ فأجاب: هذه الصلاة لم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها. والحديث المروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك؛ ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم.
/وَقَال شيخ الإِسلام: في [سجود القرآن] ـ وهو نوعان ـ : خبر عن أهل السجود، ومدح لهم، أو أمر به، وذم على تركه. فالأول سجدة الأعراف: وفي الرعد: وكذلك في مريم: وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة، وكقوله: ترى الأُكُم فيها سجداً للحوافر قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا: /ساجــد المنخـــــر مــا يـرفعـــه ** خـاشــع الطــرف أصـم المســمع قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً. وفي سورة [الحج] الأولى خبر: وسجدة الفرقان: وفي [ألم تنزيل السجدة]: وفي [ص]: خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعاً. ، و[حم تنزيل] أمر صريح: وكذلك سورة [الانشقاق]: فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه. فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة، سواء تليت مع سائر القرآن، أو وحدها، ليس هو سجوداً عند تلاوة مطلق القرآن، فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود، فالأمر يتناوله. وهو ـ أيضاً ـ متناول لسجود القرآن ـ أيضاً ـ وهو أبلغ؛فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ /قال: ومعلوم أن قوله: {بِآيَاتِنَا} ليس يعني بها آيات السجود فقط، بل جميع القرآن. فلابد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجداً، وهذا حال المصلي، فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام، والإمام يذكر بقراءة نفسه، فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجداً، وهو سجودهم في الصلاة، وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود، والسجود مثني كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيـــام ـ وهو السجدة الأولى. وخرور من قعود، وهو السجدة الثانية. وهذا مما يســـتدل به على وجــوب قعدة الفصل، والطمأنينة فيها، كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ســاجداً لا يكـــون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف، أو كان إلى القعود أقرب، لم يكن هذا خروراً. ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض، كيف ما كان. وليس كذلك، بل هو مأمور به كما قال: فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، يحبها الله. وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض، كما تلصق الجبهة، والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع، والسجود منتهاه. فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه، لكنه يخر على ذقنه، والذقن آخر حد الوجه، وهو أسفل شيء منه، وأقربه إلى الأرض. فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعاً للَّه. ومن حينئذ، قد شرع في السجود. فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود، فالخرور على الذقن أول السجود، وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود، وقد روي عن ابن عباس: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} أي: للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. /وقال ابن الأنباري: أول ما يلقي الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال: {لِلأَذْقَانِ}، ويجوز أن يكون المعني يخرون للوجوه، فاكتفي بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس. قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن، فليس الذقن من أعضاء السجود، بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف ـ واليدين، والركبتين، والقدمين)، ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته، والجمع بينهما متعذر، أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ، يمنع إلصاقهما معاً بالأرض في حال واحدة، فالساجد يخر على ذقنه، ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: فالأول كقوله: والثاني: كقوله: فذكر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة، إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها، وقد صنف مصنف في نعتهم سماه: [اللمعة في أوصاف السبعة]. فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة، والشاب الناشئ في عبادة الله: كمل ما يجب من عبادة الله، والذي قلبه معلق بالمساجد: كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس؛ لقوله: /وأما قوله عن داود ـ عليه السلام : فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس، وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله. وهو قد خلق رفيعا منتصبا، فإذا خفضه، لاسيما بالسجود، كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا للَّه، فمن سجد لغيره، فهو مشرك، ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته، وكلاهما كافر من أهل النار. قال تعالى: وقوله: وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا تَصُفون كما تَصْف الملائكة عند ربها؟)، قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف).
فآياته ـ سبحانه ـ توجب شيئين: أحدهما: فهمها وتدبرها، ليعلم ما تضمنته. والثاني: عبادته، والخضوع له إذا سمعت، فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا، فلو سمعها السامع ولم يفهمها، كان مذموما. ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموماً، بل لابد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها. كما أنه لابد لكل أحد من استماعها، فالمعرض عن استماعها كافر، والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر. والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر. وهو ـ سبحانه ـ يذم الكفار بهذا، وهذا كقوله: وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها: قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها، فكأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها. وقال غيره من أهل اللغة: لم يبقوا على حالهم الأولى، كأنهم لم يسمعوا، ولم يروا، وإن لم يكونوا خروا حقيقة. تقول العرب: شتمت فلانا فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يتعذر، وظل يفتخر، وإن لم يكن قام، ولا قعد. قلت: في ذكره ـ سبحانه ـ لفظ الخرور دون غيره، حكمة. فإنهم لو خروا وكانوا صما وعمياناً، لم يكن ذلك ممدوحا، بل معيبا. فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور. فلابد من شيئين: من الخرور، والسجود. ولابد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدي / والبيان، وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة، في القيام، ثم الركوع، والسجود. فأول ما أنزل الله من القرآن: وقوله: {ذُكِّرُوا بِهَا}، يتناول جميع الآيات، فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود، وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود. وعلى هذا، تدل عامـة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة ـ تدل على وجوب جنس التسبيح ـ فمن لم يسبح في السجـود، فقد عصي الله ورسوله، وإذا أتي بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه. وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال. قيل: لا يجب ذكر بحال، / وقيل: يجب ويتعين قوله: {سبحان ربي الأعلى}، لا يجزئ غيره. وقيل: يجب جنس التسبيح، وإن كان هذا النوع أفضل من غيره؛ لأنه أمر به أن يجعل في السجود. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنواع أخـر. وقوله: (اجعلوها في سـجودكم)، فيـه كـلام ليس هـذا موضعـه، إذ قـد يقال المسبح لربه: بأي اسم سبحه، فقد سبح اسم ربه الأعلى. كما أنه بأي اسم دعـاه فقـد دعـا ربه الذي له الأسماء الحسني. كما قال: فإذا كان يدعي بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم دعاه، فقد دعا الذي له الأسماء الحسني، وهو يسبح بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم سبح فقد سبح الذي له الأسماء الحسني، ولكن قد يكون بعض الأسماء أفضل من بعض. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن الأمر بالسجود تابع لقراءة القرآن كله، كما في الآية. وفي قوله تعالى: أحدهما: لا يصلون، قاله عطاء، وابن السائب. والثاني: لا يخضعون له، ولا يستكينون له، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى. قال: واحتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك. وإنما المعني لا يخشعون، ألا تري أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه. قلت: القول الأول هو الذي يذكره كثير من المفسرين، لا يذكرون غيره ـ كالثعلبي، والبغوي ـ وحكوه عن مقاتل، والكلبي وهو المنقول عن مفسري السلف، وعليه عامة العلماء. وأما القول الثاني: فما علمت أحداً نقله عن أحد من السلف. والذين قالوه إنما قالوه لما رأوا أنه لا يجب على كل من سمع شيئاً من القرآن أن يسجد، فأرادوا أن يفسروا الآية بمعني يجب في كل حال. فقالوا: يخضعون، ويستكينون. فإن هذا يؤمر / به كل من قرئ عليه القرآن. ولفظ السجود يراد به مطلق الخضوع، والاستكانة. كما قد بسط هذا في مواضع، لكن يقال لهم: الخضوع مأمور به، وخضوع الإنسان وخشوعه، لا يتم إلا بالسجود المعروف، وهو فرض في الجملة على كل أحد، وهو المراد من السجود المضاف إلى بني آدم: حيث ذكر في القرآن: إذ هو خضوع الآدمي للرب،والرب لا يرضي من الناس بدون هذا الخضوع؛ إذ هو غاية خضوع العبد، ولكل مخلوق خضوع بحسبه، هو سجوده. وأما إن يكون سجود الإنسان لا يراد به إلا خضوع ليس فيه سجود الوجه، فهذا لا يعرف، بل يقال: هم مأمورون: إذا قرئ عليهم القرآن بالسجود، وإن لم يكن السجود التام عقب استماع القرآن، فإنه لابد أن يكون بين صلاتين، فإذا قاموا إلى الصلاة، فقد أتوا بالسجود الواجب عليهم، وهم لما قرئ عليهم حصل لهم نوع من الخضوع والخشوع باعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال. فإذا اعتقدوا وجوب الصلاة وعزموا على الامتثال، فهذا مبدأ السجود المأمور به، ثم إذا صلوا، فهذا تمامه. كما قال في المشركين: ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سجد بها في الصلاة. ففي الصحيحين عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة. فقرأ: وأما سجوده فيها، فرواه مسلم دون البخاري. والسجود فيها قول جمهور العلماء كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وهو قول ابن وهب، وغيره من أصحاب مالك، فكيف يقال: إن لفظ السجود فيها لم يرد به إلا مطلق الخضوع والاستكانة، وأما السجود المعروف فلم يدل عليه اللفظ؟ ولو كان هذا صحيحاً، لم يكن السجود الخاص مشروعا إذا تليت، لاسيما في الصلاة، وبهذا يظهر جواب من أجاب من احتج بها على وجوب سجود التلاوة، بأن المراد الخضوع. فإن قيل: فإذا فسر السجود بالصلاة، كما قاله الأكثرون، لم يجب سجود التلاوة. قيل: الصلاة مرادة من جنس قراءة القرآن. كما تقدم. وهذه الآية توجب على من قرئ عليه القرآن أن يسجد،/ فإن قرئ عليه خارج الصلاة، فعليه أن يسجد قريباً، إذا حضر وقت الصلاة،فإنه ما من ساعة يقرأ عليه فيها القرآن،إلا هو وقت صلاة مفروضة،فعليه أن يصليها؛ إذ بينه وبين وقت الصلاة المفروضة أقل من نصف يوم، فإذا لم يصل، فهو ممن إذا قرئ عليه القرآن لا يسجد فإن قرئ عليه القرآن في الصلاة فعليه أن يسجد سجدة يخر فيها من قيام، وسجدة يخر فيها من قعود، وكل منهما بعد ركوع، كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما السجود عند تلاوة هذه الآية، فهو السجود الخاص، وهو سجود التلاوة ، وهذا سجود مبادر إليه عند سماع هذه الآية، فإنها أمرته أن يسجد إذا قرئ عليه القرآن، فمن تمام المبادرة أن يسجد عند سماعها سجود التلاوة. ثم يسجد عند تلاوة غيرها كما تقدم، فإن هـذه الآية تأمر بالسجود إذا قرئ عليه هي أو غيرها، فهي الآمرة بالسجود عند قراءة القرآن، دون سائر الآيات التي لا يسجد عندها، فكان لها حض من الأمر بالسجود مع عموم كونها من القرآن، فتخص بالسجود لها، ويسجد في الصلاة إذا قرئت كما يسجد إذا قرئ غيرها. وبهذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه سجد بها في الصلاة وفعله إذا خرج امتثالا لأمر، أو تفسيراً لمجمل كان حكمـه حكمه، فـدل / ذلك على وجـوب السجود الذي سـجده عنـد قراءة هذه السورة، لا سيما وهو في الصلاة. والصلاة مفروضة، وإتمامها مفروض، فلا تقطع إلا بعمـل هو أفضل من إتمامها، فعلم أن سجود التلاوة فيها أفضل من إتمامها بلا سجود، ولو زاد في الصلاة فعلا من جنسها عمداً بطلت صلاته. وهنا سجود التلاوة مشروع فيها. وعن أحمد في وجوب هذا السجود في الصلاة روايتان، والأظهر الوجوب، كما قدمناه لوجوه متعددة: منها: أن نفس الأئمة يؤمرون أن يصلوا كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو هكذا صلى. والله أعلم. وقوله: وأما الأمر المطلق بالسجود، فلا ريب أنه يتناول الصلوات الخمس. فإنها فرض بالاتفاق، ويتناول سجود القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن السجود في هذه المواضع. فلابد أن يكون ما تلي سبباً له، وإلا كان أجنبيا. والمذكور إنما هو الأمر، فدل على أن هذا السجود من السجود المأمور به، وإلا فكيف يخرج السجود المقرون بالأمر عن الأمر، وهذا كسجود الملائكة لآدم لما أمروا. وهكذا جاء في الحديث الصحيح: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي. يقول: يا ويله. أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار!). رواه مسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا ترغيباً في هذا السجود، فدل على أن هذا السجود مأمور به، كما كان السجود لآدم؛ لأن كلاهما أمر، وقد سن السجود عقبه، فمن سجد كان متشبهاً بالملائكة، ومن أبي، تشبه بابليس، بل هذا سجود للَّه، فهو أعظم من السجود لآدم. وهذا الحديث كاف في الدلالة على الوجوب، وكذلك الآيات التي فيها الأمر المقيد، والأمر المطلق ـ أيضاً. /وأيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: [والنجم]، سجد وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس. كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس. وفي الصحيح عن ابن مسعود: أنهم سجدوا إلا رجلا من المشركين أخذ كفا من حصا، وقال: يكفيني هذا. قال: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بهذا السجود، وأن تاركه كان مذموماً، وليس هو سجود الصلاة، بل كان خضوعا للَّه، وفيهم كفار، وفيهم من لم يكن متوضيا، لكن سجود الخضوع إذا تلي كلامه. كما أثنى على من إذا سمعه سجد، فقال: وقوله: {لِلأَذْقَانِ} أي: على الأذقان. كما قال: وأما احتجاج من لم يوجبه بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد لما قرأ عليه زيد [النجم]، وبقول عمر: لما قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى جاء السجدة. قال: يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وفي لفظ: فلما كان في الجمعة الثانية تشرفوا ـ فقال: إنا نمر بالسجدة ولم تكتب علينا، ولكن قد تشوفتم، ثم نزل فسجد. فيقال: تلك قضية معينة، ولعله لما لم يسجد زيد لم يسجد هو، كما قال ابن مسعود: أنت إمامنا، فإن سجدت سجدنا. وقال عثمان: إنما السجدة على من جلس إليها، واستمع. وهذا يدل على أنها تجب على المستمع، ولا تجب على السامع، وكذلك حديث ابن مسعود يدل على أنها لا تجب إذا لم يسجد القارئ. وقد يقال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم عذر عند من يقول: إن السجود فيها مشروع. فمــن الناس من يقول:يمكن أنه لم يكن على / طهارة، ولكن قد يرجح جواز السجود على غير طهارة. وقد قيل: إن السجود في [النجم] وحدها منسوخ، بخلاف [اقرأ] و[الانشقاق]، فقد ثبت في الصحيح عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سـجد فيهما، وسجد معه أبو هريرة، وهو أسلم بعد خيبر. وهذا يبطل قول من يقول لم يسجد في الم فصل بعد الهجرة، وأما سورة النجم. بل حديث زيد صريح في أنه لم يسجد فيها، قال هؤلاء: فيكون النسخ فيها خاصة، لا في غيرها، لما كان الشيطان قد ألقاه حين ظن من ظن أنه وافقهم، ترك السجود فيها بالكلية سداً لهذه الذريعة. وهي في الصلاة تأتي في آخر القيام، وسجدة الصلاة تغني عنها، فهذا القول أقرب من غيره. والله أعلم . وأما حديث عمر: فلو كان صريحاً لكان قوله وإقرار من حضر، وليسوا كل المسلمين. وقول عثمان وغيره يدل على الوجوب. ثم يقال: قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب علينا السجود في هذه الحال، وهو إذا قرأها الإمام على المنبر. يبين ذلك أن السجود في هذه الحال / ليس كالسجود المطلق؛ لأنه يقطع فيه الإمام الخطبة، ويعمل عملا كثيراً. والسنة في الخطبة الموالاة، فلما تعارض هذا وهذا صار السجود غير واجب؛ لأن القارئ يشتغل بعبادة أفضل منه، وهو خطبة الناس وإن سجد جاز. ولهذا يقول مالك وغيره: إن هذا السجود لا يستحب، قال: وليس العمل عندنا على أن يسجد الإمام إذا قرأ على المنبر، كما أنه لم يستحب السجود في الصلاة لا السر ولا الجهر. وأحمد في إحدي الروايتين، وأبو حنيفة وغيرهما يقولون: لا يستحب في صلاة السر، مع أن أبا حنيفة يوجب السجود، وأحمد في إحدي الروايتين يوجبه في الصلاة، ثم لم يستحبوه في هذه الحال، بل اتصال الصلاة عندهم أفضل، فكذلك قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب في مثل هذه الحال، كما يقول من يقول، لا يستحب -أيضاً- في هذه الحال. وهذا كما أن الدعاء بعرفة لما كانت سنته الاتصال لم يقطع بصلاة العصر، بل صليت قبله، فكذلك الخاطب يوم الجمعة مقصوده خطابهم وأمرهم ونهيهم، ثم الصلاة عقب ذلك، فلا يجب أن يشتغلوا عن هذا المقصود، مع أن عقبه يحصل السجود. وهذا يدل على أن سجود التلاوة يسقط لما هو أفضل منه. ألا / تري أن الإنسان لو قرأ لنفسه يوم الجمعة، قد يقال: إنه لم يستحب له أن يسجد دون الناس، كما لا يشرع للمأموم أن يسجد لسهوه؟ لأن متابعة الإمام أولى من السجود، وهو مع البعد. وإن قلنا يستحب له أن يقرأ، فهو كما يستحب للمأموم أن يقرأ خلف إمامه. ولو قرأ بالسجدة، لم يسجد بها دون الإمام. وما أعلم في هذا نزاعا. فهنا محافظته على متابعة الإمام في الفعل الظاهر أفضل من سجود التلاوة، ومن سجود السهو، بل هو منهي عن ذلك، ويوم الجمعة إنما سجد الناس لما سجد عمر، ولو لم يسجد لم يسجدوا حينئذ. فإذا كان حديث عمر قد يراد به أنه لم يكتب علينا في هذه الحال، لم يبق فيه حجة، ولو كان مرفوعاً. وأيضاً، فسجود القرآن هو من شعائر الإسلام الظاهرة، إذا قرئ القرآن في الجامع سجد الناس كلهم للَّه رب العالمين، وفي ترك ذلك إخلال بذلك؛ ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، كقول أبي حنيفة وغيره، وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد. وقول من قال: لا تجب، في غاية البعد، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير، وقول من قال: هي فرض على الكفاية، لا ينضبط، فإنه لو حضرها في / المصر العظيم أربعون رجلاً لم يحصل المقصود، وإنما يحصل بحضور المسلمين كلهم، كما في الجمعة. وأما الأضحية، فالأظهر وجوبها -أيضاً- فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة. في قوله: وقد قالوا: إن الحج كل عام فرض على الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام، والضحايا في عيد النحر كذلك، بل هذه تفعل في كل بلد / هي والصلاة، فيظهر بها عبادة الله وذكره، والذبح له، والنسك له، ما لا يظهر بالحج، كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد. وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها. وقد خرج وجوبها قولاً في مذهب أحمد، وهو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب مالك. ونفاة الوجوب ليس معهم نص، فإن عمدتهم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يضحي ودخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره). قالوا: والواجب لا يعلق بالإرادة. وهذا كـلام مجمل، فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد. فيقال: إن شئت فافعله، بل قد يعلق الواجب بالـشرط لبيان حكم مـن الأحكام. كقوله: وأيضاً، فليس كل أحد يجب عليه أن يضحي، وإنما تجب على القادر، فهو الذي يريد أن يضحي. كما قال: (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد تضل الضالة، وتعرض الحاجة). والحج فرض على المستطيع. فقوله: (من أراد أن يضحي)، كقوله: (من أراد الحج /فليتعجل) ووجوبها ـ حينئذ ـ مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية. كصدقة الفطر. ويجوز أن يضحي بالشاة عن أهل البيت ـ صاحب المنزل ونسائه وأولاده، ومن معهم ـ كما كان الصحابة يفعلون. وما نقل عن بعض الصحابة من أنه لم يضح، بل اشتري لحماً، فقد تكون مسألة نزاع. كما تنازعوا في وجوب العمرة، وقد يكون من لم يضح لم يكن له سعة في ذلك العام، وأراد بذلك توبيخ أهل المباهاة الذين يفعلونها لغير الله، أو أن يكون قصد بتركها ذلك العام توبيخهم، فقد ترك الواجب لمصلحة راجحة. كما قال صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال، معهم حزم حطب إلى قوم لايشهدون الصلاة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار، لولا ما في البيوت من النساء والذرية). فكان يدع الجمعة والجماعة الواجبة؛ لأجل عقوبة المتخلفين، فإن هذا من باب الجهاد الذي قد يضيق وقته، فهو مقدم على الجمعة والجماعة. ولو أن ولي الأمر ـ كالمحتسب وغيره ـ تخلف بعض الأيام عن الجمعة لينظر من لا يصليها فيعاقبه، جاز ذلك. وكان هذا من الأعذار المبيحة لترك الجمعة. فإن عقوبة أولئك واجب متعين لا يمكن إلا بهذا الطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه لولا النساء والصبيان،/ لحرق البيوت على من فيها، لكن فيها من لا تجب عليهم جمعة ولا جماعة من النساء والصبيان، فلا تجوز عقوبته. كما لا ترجم الحامل حتى تضع حملها؛ لأن قتل الجنين لا يجوز. كما في حديث الغامدية.
|