الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
هذه الترجمة فيها شيء من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيكون فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن أو هزل بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكون معطوفا على قوله بشيء. والمراد بالرسول هنا: اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـ (أل) للجنس وليس للعهد. قوله: (من هزل). سخر واستهزأ لعبا ليس جدا. ومن هزل بالله أو بآياته الكونية الشرعية أو برسله، فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة. كيف يسخر ويستهزأ بأمر يؤمن به؟ فالمؤمن بالشيء لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به. والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزي كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل الهلاك وهو لا يشعر، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله - عز وجل - لا يلقى لها بالا يهوى بها في النار. فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة - أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج، فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلا: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه، فهذا كفر مخرج عن الملة، لأن الرب - عز وجل - كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها. ثم أعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين: القول الأول: أنه لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ؛ لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيه التوبة. وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى: وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنه تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعا، أما ساب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يتعلق به أمران: الأول:أمر شرعي لكونه رسول الله ـ صلى الله عليه سلم ـ ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب. الثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا يجب قتله لحقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل،غسلناه وكفناه وصلىنا عليه ودفناه مع المسلمين. وهذا اختيار شيءخ الإسلام ابن تميمة، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه(الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول) أو: (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وذلك لأنه استهان بحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذا لو قذفه، فإنه يقتل و لا يجلد. فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقبل منه وأطلقه؟ أجيب: بلى، وهذا صحيح، لكن هذا في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد اسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفوا موجب للتوقف؟ أُجيب: إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه. فإن قيل: أليس الله الغالب أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عفا عمن سبه؟ أُجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أعيان المنافقين،ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، وقال ابن القيم:إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. * * * وقول الله تعالى: قوله تعالى: {ولئن سألتهم}. الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي سالت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة. قوله: (ليقولن). جواب القسم، قال بن مالك: ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم دون الفاء التي تقع في جواب الشرط. قوله: (ليقولن)، أي: المؤولون. قوله: هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول، فإنه يكون الخوض في الكلام واللهب في الجوارح. وقوله قوله: قوله: (أبا لله). أي: بذاته وصفاته. قوله: (وآياته): جمع آية، ويشمل: الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بل يقال: هذا أساطير الأولين- والعياذ بالله - أو يستهزأ بشيء من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج. والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، فكيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية. قوله: (ورسوله). المراد هنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: {لا تعتذروا}. المراد بالنهي التيئيس، أي: أنهم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم. قوله: قوله: (نعف): ضمير الجمع للتعظيم، أي: الله - عز وجل -. قوله: قوله: {نعذب طائفة}. هذا جواب الشرط، أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلا بد أن نعذب الآخرين. قوله: ويستفاد من الآيتين: 1. 1. بيان علم الله - عز وجل - بما سيكون، لقوله: 2. 2. . أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكم بما أنزل الله عليه حيث أمره أن يقول: (أبا لله وآياته...). 3. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ. 4. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا، لقوله: (أبا لله وآياته...)، وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه ما بقي إلا أن تستهزؤا بهؤلاء الثلاثة. 5. أن المستهزي بالله يكفر، لقوله: 6. استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل إن من جاء يعتذر يرحم يرحم، لكنه ليس أهلا للرحمة. 7.. قبول توبة المستهزي بالله، لقوله: {إن تعف عن طائفة...}، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عُفي عنه وهُدي للإسلام تاب وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزي بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بين على صدق توبته، لأنه كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد. وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى: عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزبد ابن اسلم وقتاده دخل حديث بعضهم في بعض:أنه قال رجل في غزوة تبوك. ما راينا مثل قرائنا هؤلاء؛ ارغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا اجبن عند اللقاء: (يعني: *** قوله: (عن ابن عمر). وهو عبد الله. (ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة). والثلاثة تابعيون، فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة. قوله: (دخل حديثهم بعضهم في بعض). أي: إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلون في حديث واحد، ويشيءرون إلى هذا، فيقولون - مثلا - دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول: حدثني بعضهم بكذا وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك. قوله: (في غزوة تبوك). تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حيث طابت الثمار، وكان مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أُبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل له: إنه لا يدري أي الجيشيءن أكثر: الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟ مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن قوما من الروم ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إظهارا للقوة وإيمانا بنصر الله - عز وجل -. قوله: (ما رأينا) تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية. قوله: (مثل قرائنا) المفعول الأول، والمراد بهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه. قوله: (أرغب بطونا). المفعول به الثاني، أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل. قوله: (ولا أكذب ألسنا). الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية، كما في قوله تعالى: قوله: (و لا أجبن عند اللقاء). الجبن: هو خور في النفس يمنع من الإقدام على ما يكره، فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ منه[ البخاري: كتاب الدعوات / باب الاستعاذة من الجبن. ] لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه، فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد: ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا ولا سيما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: قوله: (كذبت). أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز. قوله: (ولكنك منافق). لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كافر، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته. فيكون طعنا في الله، لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه. وطعنا في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين. وطعنا في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة، فلا يوثق بهذه الشريعة. قوله: (فوجد القرآن قد سبقه). أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون، قال تعالى: قوله: (وقد ارتحل وركب ناقته). الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير، لأن ركوب الناقة هو الارتحال. قوله: (كأني أنظر إليه). كأن إذا دخلت على مشتق، فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد، فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به. قوله (بنسعة). هي الحزام الذي يربط به الرحل. قوله: (والحجارة تنكب رجليه). أي: يمشيء والحجارة تضرب وكأنه - والله أعلم - يمشيء بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال، لأنه يريد أن يعتذر. قوله:(وما يزيده عليه).أي:لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالا لأمر الله - عز وجل - وكفي بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا. فيه مسائل: الأولى - وهي العظيمة -: أن من هزل بهذا كافر. أي من الهزل: بالله وآياته ورسوله. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان. أي سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ، فإنه يكفر كائنا من كان. الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله. النميمة: من نمّ الحديث، أي: نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ومن ذلك لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره ويستهزأ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك، فليس من النميمة، بل من النصيحة. الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله. العفو الذي يحبه الله: هو الذي فيه إصلاح، لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال: فمن كان في عفوه إفسادا لا إصلاحا، فإنه آثم بهذا العفو، ووجه ذلك من الآية ظاهر، لأن الله قال: (عفا وأصلح)، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غلظ على هذا الرجل لكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يلتفت إليه، ولا يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يرق له، ولكل مقام مقال، فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله - عز وجل - الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وقال تعالى: الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل. فالأصل في الاعتذار أن يقبل لا سيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أنه اعتذار باطل، فإنه لا يقبل. * * * أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه، ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وإن ما أعطاه الله ليس محض تفضيل، لكن لأنه أهل، ففيه نوع من التعلي والترفع في جانب العبودية. وقد ذكر الشيءخ في آيتين:
|