الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
أن من جملة أقسم (لو) الاعتراض على القدر، ومن اعترض على القدر، فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية. والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: *** قوله: (وفي الصحيح) أي: (صحيح مسلم)، وانظر ما سبق في: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله (146). والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة، وأتى بما هو مناسب للباب، والمحذوف قوله: قوله: (القوي). أي: في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، ففي إيمانه، يعني: ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك، وفيما يقتضيه، يعني: العمل الصالح من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحزم في العبادات وما أشبه ذلك. وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟ الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه أو يزيد ما يقتضيه، لأن (القوي) وصف عائد على موصوف وهو المؤمن، فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر. قوله: (خير وأحب إلى الله). خير في تأثيره وآثاره فهو ينفع ويقتدي به وأحب إلى الله باعتبار الثواب. قوله: (ومن المؤمن الضعيف). وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه لا في قوة البدن. قوله: فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله (خير واحب)، لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف؟ فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل، كما في قوله تعالى: كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة: (خير وأحب) صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل: (وفي كل خير) رفع من شانه، ونظيره قوله تعالى: قوله:(احرص على ما ينفعك). الحرص: بذلك الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا. وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات: 1. 1. نافعة، وهذه مأمور بها. 2. 2. ضارة وهذه محذر منها. 3. 3. فيها نفع وضرر. 4. 4. لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر، إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعا، ولا يمكن أن تجد شيئا من الأمور والحوادث ليس فيه نفع ولا ضرر، إما ذاتي، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم. والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه و لا ضرر، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جدا، لأن من القوة الحرص على ما ينفع. و (ما): اسم موصول بفعل (ينفع)، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم فاعل، كأنه قال: احرص على النافع، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع، لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة، وهذه الزيادة لا بد أن نحرص عليها، لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف، فإذا قلت: أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره، فنقدم الأنفع على النافع لوجهين: 1. 1. أنه مشتمل على النفع وزيادة. 2. 2. أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته. يؤخذ من الحديث وجود الابتعاد عن الضار، لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله: (احرص على ما ينفعك) قوله: (واستعن بالله). الواو تقتضي الجمع فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل، فلابد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله. والاستعانة: طلب العون بلسان المقال، كقولك: (اللهم أعني، أو: لا حول ولا قوة إلا بالله) عند شروعك بالفعل. أو بلسان الحال، وهي ان تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك - عز وجل - أن يعينك على هذا الفعل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة. أو طلب العون بهما جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال، فقد استعان بلسان الحال. لو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا، فهذا جائز، ولكن لا تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض، كما لو عجزت عن حمل شيء بيد واحدة، فإنك تستعين على حمله باليد الأخرى، وعلى هذا، فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك، فلا تنافي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (استعن بالله). قوله: (ولا تعجزن). فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، و(لا) الناهية، والمعنى: لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة، وليس المعنى: لا يصيبك عجز، لأن العجز عن الشيء غير التعاجز، فالعجز بغير اختيار الإنسان، ولا طاقة له به، فلا يتوجه عليه نهي، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل،اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعد التكاسل. لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه، وهذا خلاف ما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما دمت عرفت أن هذا نافع، فلا تدعه، لأنك إذا عجزت نفسك خسرت العمل الذي عملت ثم عودت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل - لا سيما النافع - ثم أتاه الشيطان فثبطه؟ لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار، فيجب الرجوع عنه، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وذكر في ترجمة الكسائي انه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه، فوجد نملة تحمل طعاما تريد أن تصعد به حائطا، كلما صعدت قليلا سقطت، وهكذا حتى صعدت، فأخذت درسا من ذلك، فكابد حتى صار إماما في النحو. قوله: هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود. فالمرتبة الأولى: الحرص على ما ينفع. والمرتبة الثانية: الاستعانة بالله. والمرتبة الثالثة: المضي في الأمر والاستمرار فيه وعدم التعاجز. وهذه المراتب إليك. المرتبة الرابعة: إذا حصل خلاف المقصود، فهذه ليست إليك، وإنما هي بقدر الله، ولهذا قال: (وإن أصابك...)، ففوض الأمر لله. قوله: (وإن أصابك شيء). أي: مما لا تحبه ولا تريده ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع. فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه لا يخلو من حالين: الأول: أن يقول: لو لم أفعل ما حصل كذا. الثاني: أن يقول: لو فعلت كذا لأمر لم يفعله لكان كذا. مثال الأول قول القائل: لو لم أسافر ما فاتني الربح. ومثال الثاني أن يقول: لو سافرت لربحت. وذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثاني دون الأول، لأن الإنسان عامل فاعل، فهو يقول: لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل وكان موقفه سلبيا من الأعمال. قوله: (كذا). كناية عن مبهم، وهي مفعول لفعلت. قوله: (لكان كذا) فاعل كان، والجملة جواب لو. قوله: (قدر الله). خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا قدر الله. وقدر بمعنى مقدور، لأن الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله،ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله، وهو المراد هنا، لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه، فقدر الله أي مقدوره، ولا مقدر إلا بتقدير، لأن المفعول نتيجة الفعل. والمعني إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلىّ، أما الذي إلىّ فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله - عز وجل - وان الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي، فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله. قوله: (وما شاء الله فعل). جملة مصدرة بـ(ما) الشرطية، (وشاء): فعل الشرط، وجوابه: (فعل)، أي: ما شاء الله أن يفعله فعله، لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى: وأما الإرادة ووقوع المراد ففيه تفصيل: فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى: والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد، كما قال الله تعالى: قوله: وعمله: ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن، فإن الشيطان يحب ذلك، وقال تعالى: ]، إذا رضى الإنسان بالله ربا، وقال: هذا قضاء الله وقدره، وانه لا بد أن يقع، اطمأنت نفسه وانشرح صدره. * ويستفاد من الحديث: 1. إثبات محبة الله - عز وجل - لقوله: (خير وأحب) 2. اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه، لقوله: 3. زيادة الإيمان ونقصانه، لأن القوة زيادة والضعف نقص، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة. وقال بعض أهل السنة: يزيد ولا ينقص، لأن النقص لم يرد في القرآن، قال تعالى: والراجح القول الأول، لأنه من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والإيمان يزيد بالكمية والكيفية، فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر، زاد يقينه، ولهذا قال أهل العلم: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا دليل على تفاوت القلوب بالتصديق، وأما الأعمال، فظاهر، فمن صلى أربع ركعات أزيد ممن صلى ركعتين. 4- أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير؛ لقوله: (وفي كل خير). 5 - أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها، لقوله: 6 - أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع، لقوله: 7- أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة، لقوله: (و لا تعجزن) 8- أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر، لقوله: وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى أدم عليهما السلام؛ وقال له: فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون هذا الحديث، لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه فكذبوه، وإلا حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما. وقال شيءخ الإسلام ابن تميمة: إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه. معناه أن فعلك صار سببا لخروجنا، وإلا فإن موسى عليه الصلاة والسلام ابعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه واجتباه ربه وهداه، وهذا ينطبق على الحديث. وذهب ابن القيم رحمه الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله، وليس كحال الذين يحتجون على أن يبقوا في المعصية ويستمروا عليها، فالمشركون لما قالوا: 9 - أن للشيطان تأثيرا على بني آدم، لقوله: لاشك فيه، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق. وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله - عز وجل - كما أن الروح تجري مجرى الدم، وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء. ومن نعمة الله أن للشيءطان ما يضاده، وهي لمة الملك، فإن الشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا. 10 - حسن تعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قرن النهي عن قول (لو) بيان علته، لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا. * * *
|