الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
* · تنبيه: الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان، فلا يوثق بها، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب. قوله: (ورسله). هم الذين أوحى الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق ليبلغوا شريعة الله. 1 - أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون. 2- أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وبما ثبت عنهم من الأحكام، ما لم تنسخ. 1 1 - أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم، وما لم نعلمه، فنؤمن بهم على سبيل الإجمال، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله - سبحانه وتعالى - أرسل لكل أمة رسولا تقوم به الحجة عليهم، كما قال تعالى: والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذرون، لأنهم يقولون: يا ربنا! ما أرسلت إلينا رسولا، كما قال تعالى: فإن قيل: قوله تعالى: الجواب: إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة و السلام طويلة، وقد قامت عليه الحجة، لأن فيها بقايا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في (صحيحه): (إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب [مسلم: كتاب الجنة / باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة] ، وكما قال تعالى: قوله:(واليوم الآخر). أي: اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده، وهو يوم القيامة الكبرى. قال شيءخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون بعد الموت، ذكر هذا في (العقيدة الواسطية)، وهو كتاب مختصر، لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه. وعلى هذا، فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر. والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيه من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر. ومنه ما هو معلوم بالقرآن، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر اليوم الآخر، فإنه يجب علينا أن نؤمن به قوله: (تؤمن بالقدر خيره وشره). هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف، لأن الإيمان بالقدر مهم، فكأنه مستقل برأسه. والإيمان بالقدر: هو أن تؤمن بتقدير الله - عز وجل - للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله - عز وجل - قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم، فالعلم سابق على الكتابة، ثم أنه ليس كل معلوم الله - سبحانه وتعالى - مكتوبا، لأن الذي كتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله - عز وجل - لكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه مكتوبة. وهذا القدر، قال بعض العلماء: إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يطلع عليه أحدا، ولا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، إلا ما أوحاه الله - عز وجل - إلى رسله أو وقع فعلم به الناس، وإلا، فإنه سر مكتوم، قال تعالى: قال تعالى: وقوله: (خيره وشره). الخير: ما يلائم العبد، والشر: ما لا يلائمه. ومعلوم أن المقدورات خير وشر، فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا. وإذا كان القدر من الله، فكيف يقال: الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله؟ فالجواب: أن الشر لا ينسب إلى الله، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (والشر ليس إليك) [مسلم كتاب صلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل.] فلا ينسب إليه الشر لا فعلا ولا تقديرا ولا حكما بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى: وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله. وكم من إنسان أذنب ذنبا ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيرا منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم، وقال: والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالتهم بعد المعصية التى أصابتهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم - صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبدا، وصارت حالهم أيضا بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذكروا بأعيانهم، قال تعالى: وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية، ولكن ها هنا أمر يجب معرفته، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله - سبحانه وتعالى- فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه،فهو خير، والدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(الخير بيديك، والشر ليس إليك [تقدم (ص 1002).]، ولم يقل الشر بيديك، فلا ينسب الشر إلى الله أبدا، فضلا على أن يكون بيديه، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء، فالله لا يريد بقضاء الشر شرا، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك، فهو وإن كان شرا في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شرا محضا، حتى المقضي وإن كان شرا ليس محضا، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر من في محل خير في محل آخر. ولنضرب لذلك مثلا: الجدب والفقر شر، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما، قال تعالى: كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما بالنسبة له، فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضا خير في غير السارق، فإن فيه ردعا لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضا حفظ للأموال، لأن السارق إذا عرف أنه سرق ستقطع يده، امتنع من السرقة، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس، ولهذا قال بعض الزنادقة: يد بخمس مئين عسجدا وديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له ** ونستجير بمولانا من النـــار لكنه أجيب في الرد عليه ردا مفحما، فقيل فيه: قل للمعري عار أيما عاري ** جهل الفتى وهو من ثوب التقى عاري يد بخمس مئين عسجدا وديت ** لكـنها قطعــت في ربـع دينــار حماية النفس أغلاها وأرخصها ** حماية المال فافهم حكمة الباري * * * * وعن عبادة بن الصامت، أنه قال لأبنه: يابني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك،، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: * قوله في حديث عبادة: (أنه قال لابنه: يا بني!...) إلخ. أفاد حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله، وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب، حيث قال: (يا بني) وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر. قوله: (لن تجد طعم الإيمان). هذا يفيد أن للإيمان طعما كما جاءت به السنة، وطعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة، فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتى بعده طعام آخر أزالها، لكن طعم الإيمان يبقى مدة طويلة،حتى إن الإنسان يبقى مدة طويلة، حتى إن الإنسان أحيانا يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله - عز وجل - فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة، فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم. قوله: (حتى نعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك). قد تقول: ما أصابني لم يكن ليخطئني، هذا تحصيل حاصل، لأن الذي أصاب الإنسان أصابه، فلا بد أن نعرف معنى هذه العبارة، فتحمل هذه العبارة على أحد المعنيين أو عليهما جميعا: الأول: أن المعنى (ما أصابك)، أي: ما قدر الله أن يصيبك، فعبر عن التقدير بالإصابة، لأن ما قدر الله سوف يقع، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب. الثاني: ما أصابك، فلا تفكر أن يكون مخطئا لك،فلا تقل: لو أني فعلت كذا ما حصل كذا، لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك، فكل التقديرات التي تقدرها وتقول: لو أني فعلت ما حصل كذا هي تقديرات يائسة، لا تؤثر شيئا، وأيا كان، فالمعنى صحيح على الوجهين، فما قدره الله أن يصيب العبد فلا بد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه، وما وقع مصيبا للإنسان، فإنه لن يمنعه شيء، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت حلاوة الأيمان، لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لابد أن يقع على ما وقع عليه، ولا يمكن أن يتغير أبدا. مثال ذلك: رجل خرج بأولاده للنزهة، فدبّ بعض الأولاد إلى بركة عميقة، فسقط،فغرق، فمات، فلا يقول: لو أنني ما خرجت لما مات الولد، بل لابد أن تجري الأمور على ما جرت عليه، ولا يمكن أن تتغير، فما أصابك لم يكن ليخطئك، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضى، ويعرف أنه لا مفر، وأن كل التقديرات والتخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وحينئذ يرضى ويسلم، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك، ذقت حلاوة الإيمان، واطمأننت، واستقر قلبك، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير، ولهذا كثيرا ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة، فتجده يعمل أعمالا لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله - عز وجل - مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره. قوله: (وما أخطأك ما كان ليصيبك). نقول فيه مثل الأول، يعني: ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك، فلو أن أحدا سمع بموسم تجارة في بلد ما وسافر بأمواله لهذا الموسم، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات، نقول له: ما أخطأك من هذا الربح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك، لأن مهما كان ومهما عملت، أو تقول: لم يكن ليصيبك، لأن الأمر لابد أن يجري على ما قضاه الله وقدره، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان. ثم استدل لما يقول بقوله:(سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (إن أول ما خلق الله القلم). القلم بالرفع، وروي بالنصب. وأما على رواية النصب، فيكون المعنى: أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه، يعني،: خلقه ثم أمره أن يكتب، وعلى هذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول الذي هو الرفع: هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم؟ الجواب: لا، لأننا لو قلنا: إن القلم أول المخلوقات، وإنه أُمر بالكتابة عندما خلق، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء، وأن أول بدء الخلق الله كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ونحن نعلم أن الله - عز وجل - خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله - عز وجل - لم يزل ولا يزال خالقا، وعلى هذا يكون: إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن. قال أهل العلم: وتأويله: أن أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من مخلوقات، كالسموات والأرض... فهي أولية نسبية، وقد قال ابن القيم في نونيته: هل كان قبل العرش أو هو بعده ** قولان عند أبي العلا الهمذانـي قوله: (فقال له: اكتب). القائل هو الله - عز وجل - يخاطب القلم، والقلم جماد، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد، والدليل على هذا قوله تعالى: قوله: (قال: ربي وماذا أكتب؟). (ماذا): اسم استفهام مفعول مقدم، و(اكتب): فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، هذا إذا ألغيت (ذا)، أما إذا لم تلغ، فنقول: (ما) اسم استفهام مبتدأ، و(ذا) خبره، أي: ما الذي أكتب؟ والعائد على الموصول محذوف تقديره: ما الذي أكتبه؟ وفي هذا دليل على أن الأمر الجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته، وعلى هذا، فإننا نقول: إذا كان الأمر مجملا، فإن طلب استبانته لا يكون معصية، فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله - سبحانه وتعالى -ومع ذلك قال: (رب وماذا أكتب؟) قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فكتب المقادير. فإن قيل: هل القلم يعلم الغيب؟ فالجواب: لا، لكن الله أمره، ولا بد أن يمتثل لأمر الله، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جمادا بالنسبة إلى مفهومنا، كتب كل شيء أمره الله أن يكتبه، لأن الله إذا أراد شيئا قال له: كن، فيكون على حسب مراد الله. و(كل): من صيغ العموم، فتعم كل شيء مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين. قوله: (حتى تقوم الساعة). الساعة هي القيامة، وأطلق عليه لفظ الساعة، لأن كل شيء عظيم من الدواهي له ساعة، يعني: الساعة لمعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم، وذلك عند النفخ في الصور. قوله: (فليس مني). تبرأ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه كافر، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بري من كل كافر. ويستفاد من هذا الحديث: 1 - ملاطفة الأبناء بالموعظة، وتؤخذ من قوله (يا بني). 2- أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها،وذلك أنه لم يقل: إن الله كتب... وسكت، ولكنه اسند إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمثلا: إذا أردت أن تقول لأبنك: سم الله على الأكل، واحمد الله إذا فرغت،فإنك إذا قلت ذلك يحصل به لمقصود، ولكن إذا قلت سم الله على الأكل واحمد الله إذا فرغت لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالتسمية عند الأكل، وقال: الأولى: أن تعود ابنك على اتباع الأدلة. الثانية: أن تربيه على محبة الله والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته، وهذه في الحقيقة كثيرا ما يغفل عنها، فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة. وفي رواية لأحمد: إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة [الإمام أحمد في (المسند) (5/317). ]. * * * قوله: هذه الرواية تفيد أمرا زائدا على ما سبق، وهو قوله: (فجرى في تلك الساعة)، فإنه صريح في أن القلم امتثل، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالا لأمر الله تعالى، فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله - سبحانه وتعالى - كل شيء إلى قيام الساعة، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى: قوله: الأول: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: الثاني: قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم، لقوله تعالى: الثالث: قيام العدل، لقوله تعالى: {ونضع الموازيين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47]. * * * وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: (وفي رواية لابن وهب). ظاهره أن هذا في حديث عبادة، وابن وهب أحد حفاظ الحديث. قوله: وقوله: (أحرقه الله بالنار) بعد قوله (فمن لم يؤمن) يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار، لأن لدينا ثلاث مقامات: الأول: الإيمان والجزم بمراتبه الأربع. الثاني: إنكار ذلك. وهذان واضحان، لأن الأول إيمان والثاني كفر. الثالث: الشك والتردد. وهذا يلحق بالكفر، ولهذا قال: (فمن لم يؤمن)، ودخل هذا النفي من أنكر وشك. وفي قوله: (أحرقه الله بالنار) دليل على أن عذاب النار محرق، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون بألم، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم، وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما (2)، يعني: فحما أسود، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: قوله: (فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي). أي: يذهب هذا الشيء، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض، وأطباء مرض القلوب هم العلماء، ولا سيما مثل الصحابة رضى الله عنهم، كأُبيّ بن كعب، فلكل داء طبيب. قوله: (لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر). هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الذي لا تقبل منهم النفقات هم الكفار، وسبق نحوه عن ابن عمر رضى الله عنهما. قوله: (حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك). قد سبق الكلام على هذه الجملة. قوله: (لو مت). (مُت) بالضم، لأنها من مات يموت، وفيه لغة أخرى بالكسر (مِت)، كما في قوله تعالى: قوله: (على غير هذا، لكنت من أهل النار). جزم أُ بَيّ بن كعب رضى الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار، لأن من أنكر القدر فهو كافر، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها. وهل هذا الدواء يفيد؟ الجواب: نعم يفيد، وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا، فلا بد أن يرتدع، ولابد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقوله: فأُبَيّ بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن، حتى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة: (لم يكن...) البينة، وقال: ]. وأما عبد الله بن مسعود، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ]. وأما زيد بن ثابت، فهو أحد كتاب القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه [البخاري: كتاب الأدب/ باب ما يكره من التمادح، ومسلم: كتاب الزهد/ باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط. ]. وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم. بأسماء المنافقين(4). والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقدر والقدر بمراتبه الأربع. مسألة: الإيمان بالقدر هل هو بتوحيد الربوبية، أو الألوهية، أو بالأسماء والصفات؟ الجواب: تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالأسماء والصفات، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية، وتعلقه بالألوهية أيضا ظاهر، لأن الألوهية بالنسبة لله يسمى توحيد الألوهية، وبالنسبة للعبد يسمى توحيد العبادة، والعبادة فعل العبد، فلها تعلق بالقدر،فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة. مسالة: هل أختلف الناس في القدر؟ الجواب: نعم، اختلفوا فيه على ثلاث فرق، وقد سبق [تقدم (ص 985) ]. * * * فيه مسائل: * الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر. دليله قوله: * الثانية: بيان كيفية الإيمان. أي: بالقدر، وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك،وما أخطأك لم يكن ليصيبك. ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر، لأنه لم يذكرها، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصارا في بيت واحد،وهو قوله: والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر. * الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به. تؤخذ من قول ابن عمر: (لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله منه حتى يؤمن بالقدر)، ويتفرع منه ما ذكرناه سابقا بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل. *الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. أي: بالقدر، وهو كذلك، لقول عبادة بن الصامت لابنه: يابني ! إنك لن تجد طعم الإيمان... إلخ وقد سبق الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة بما قضاه الله - عز وجل - ويستريح، لأنه علم أن هذا الأمر لابد أن يقع على حسب المقدور، لا يتخلف أبدا، ]، ولا ترفع شيئا وقع مهما قلت. * الخامسة: ذكر أول ما خلق الله. ظاهر كلام المؤلف: الميل إلى أن القلم أول مخلوقات الله، ولكن الصحيح خلافه، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله، لأنه ثبت في (صحيح البخاري): ]، وهذا واضح في الترتيب، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش، وسبق لنا تخريج الروايتين، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق بالنسبة لم يتعلق بهذا العلم المشاهد، فهو قبل السموات والأرض، فتكون أوليته نسبية. * السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة. لقوله في الحديث: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) وفيه أيضا من الفوائد توجيه خطاب الله إلى الجماد، وأن يعقل أمر الله، لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب، لكنه سأل في الأول وقال: (ماذا أكتب؟). * السابعة: براءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن لم يؤمن به. لقوله: (من مات على غير هذا، فليس مني)، والعلة وهذه البراءة مطلقة، لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة. * الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء. لأن ابن الديلمي: يقول: (فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، بعد أن أتى أُبيّ بن كعب، فدل هذا على أن من عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم. وفيه أيضا مسالة ثانية، وهي جواز سؤال أكثر من عالم لتتبع الرخص، فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا من شأن اليهود، فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصنا وكثر الزنى في أشرافهم، غيروا هذا الحد، ولما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وزنى رجل بامرأة قالوا: اذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئا آخر، لأجل أن يتتبعوا الرخص. * التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط. لقول بن الديلمي: لم تذهب تعلل، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يؤمن، لهذا يذكر الله - عز وجل - إحياء الموتى ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك، فقال في أدلة العقل: وفيه دليل رابع، وهو دليل الفطرة، فلا مانع أيضا أن تأتي به للاستدلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني، حيث أن أبا المعالي الجويني - غفر الله لنا وله - كان يقرر نفي استواء الله على عرشه، فقال الهمداني: _ دعنا من ذكر العرش، فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو). فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه، وقال: حيرني الهمداني. فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية. وأشدها إقناعا للمؤمن هو الدليل السمعي، لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل، وإن ظنه صاحبه حقا. ***
|