فصل: بَابُ إجَارَةِ حَفْرِ الْآبَارِ وَالْقُبُورِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ إجَارَةِ حَفْرِ الْآبَارِ وَالْقُبُورِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَوْضِعًا وَلَمْ يَصِفْهَا فَهُوَ فَاسِدٌ) لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَمَلُ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ وَالسُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ الْبِئْرُ فِي الْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، وَلَوْ سَمَّى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي الْأَرْضِ وَمِمَّا يُدِيرُ هَكَذَا ذِرَاعًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ مَعْلُومًا بِتَسْمِيَةِ الذَّرِعَانِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالْمَوْضِعُ مَعْلُومٌ بِتَسْمِيَةِ دَارِهِ فَإِنْ حَفَرَ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، ثُمَّ وَجَدَ جَبَلًا أَشَدَّ عَمَلًا وَأَشَدَّ مُؤْنَةً فَأَرَادَ تَرْكَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَى الْحَفْرِ إذَا كَانَ يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ الْعَمَلَ مَعَ عَمَلِهِ عَلَى أَنَّ أَطْبَاقَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فَلَيْسَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفَسْخِ.
وَفِي الْكِتَابِ.
(قَالَ) إذَا كَانَ يُطَاقُ، وَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا وَيُطَاقُ فِيهِ حَفْرًا، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إذَا كَانَ يُطَاقُ حَفْرًا بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ وَلَا يَحْتَاجُ الْأَجِيرُ إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ إقَامَةَ الْعَمَلِ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ.
فَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ فَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ ذِرَاعٍ فِي سَهْلٍ، أَوْ طِينٍ بِدِرْهَمٍ وَكُلَّ ذِرَاعٍ فِي جَبَلٍ أَوْ مَاءٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَسَمَّى طُولَ الْبِئْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مَعْلُومًا وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّسْمِيَةِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي جَبَلِ مَرْوَةَ فَحَفَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ جَبَلًا صَمًّا صَفَا فَإِنْ كَانَ يُطَاقُ حَفْرُهُ فَهُوَ عَلَيْهِ وَالْمَرْوَةُ اللِّينُ مِنْ الْحَجَرِ الَّذِي يَضْرِبُ إلَى الْخُضْرَةِ وَالصَّفَا مَا يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ الْحَفْرَ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ.
فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُطَاقُ الْحُفْرَةُ بِتِلْكَ الْآلَةِ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّرْكِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاقُ فَلَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ وَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالسِّرْدَابُ وَالْبَالُوعَةُ إذَا ظَهَرَ الْمَاءُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ الْحَفْرُ مَعَهُ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ فَحَفَرَهَا، ثُمَّ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَصِيرُ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَفْرُغُ مِنْهُ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِالتَّلَفِ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ بِئْرَ مَاءٍ فَشَرَطَ عَلَيْهِ مَعَ حَفْرِهَا طَيَّهَا بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَفَعَلَ وَفَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ انْهَارَتْ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَطْوِيَهَا بِالْأَجْرِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الْعَمَلِ يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ وَيَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَيُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَهَا فِي الْجَبَّانَةِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ فَحَفَرَهَا فَانْهَارَتْ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ مِنْ الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَصِيرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ قَابِضًا وَلَا بُدَّ لِدُخُولِ الْعَمَلِ فِي ضَمَانِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِنَاءَ حَقُّ الْمَرْءِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ وَالْفِنَاءُ فِي يَدِهِ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْحَفْرُ فِيهِ يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ قَبْرًا، ثُمَّ دُفِنَ فِيهِ إنْسَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجِنَازَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ حَفَرَ الْقَبْرَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ لَا يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ فَحَالَ الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبْرِ فَانْهَارَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ دَفَنُوا فِيهِ إنْسَانًا آخَرَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ دَفَنَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ مَيْتَةً، ثُمَّ قَالَ لِلْأَجِيرِ اُحْثُ التُّرَابَ عَلَيْهِ فَأَبَى الْأَجِيرُ فِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَحَثْيُ التُّرَابِ كَنْسٌ، وَلَيْسَ بِحَفْرٍ وَهُوَ ضِدُّ مَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا يَضَعُ أَهْلُ مَلِكِ الْبِلَادِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَحْثِي التُّرَابَ خَيَّرْته فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَعْمَلُ بِالْكُوفَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ وَهُوَ يَنْصِبُ اللَّبِنَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْبَرْ الْأَجِيرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَلْ الْعُرْفُ إنَّ أَقْرِبَاءَ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَاءَهُمْ الَّذِينَ يَضَعُونَهُ فِي لَحْدِهِ وَتَرْكُ ذَلِكَ إلَى الْأَجِيرِ يُعَدُّ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ فَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَوْضِعٌ يَحْفِرُ فِيهِ فَوَافَقَ فِيهِ جَبَلًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَحَفَرَهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ مَعَ عَمَلِهِ بِاخْتِلَافِ أَطْبَاقِ الْأَرْضِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ يَحْفِرُ قَبْرًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ فِي أَيِّ الْمَقَابِرِ يَحْفِرُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ إذَا حَفَرَ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَجْعَلُ لَهُ الْأَجْرَ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ دَرْبٍ فِيهِمْ مَقْبَرَةً عَلَى حِدَةٍ لِأَهْلِهَا.
فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَلَوْ انْتَقَلَ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَقْبَرَةِ بِنَاءً عَلَى عُرْفِ دِيَارِنَا، وَإِنْ سَمَّى لَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا فَحَفَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرُوهُ بِحَفْرِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُسَمُّوا مَوْضِعًا فَحَفَرَ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، أَوْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِوُجُودِ الرِّضَاءِ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ حِينَ دَفَنُوا الْمَيِّتَةَ فِيهِ.
وَإِنْ أَرَادُوا مِنْهُ تَطْيِينَ الْقَبْرِ، أَوْ تَجْصِيصَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَالتَّجْصِيصُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْعَادَةِ الَّذِي يُطَيِّنُ الْقَبْرَ غَيْرُ الَّذِي يَحْفِرُهُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ لِيَحْفِرَ لَهُمْ الْقَبْرَ وَلَمْ يُسَمُّوا لَهُ طُولَهُ وَلَا عَرْضَهُ وَلَا عُمْقَهُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَالْعَمَلُ بِحَسَبِهِ يَتَفَاوَتُ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأُجْبِرُهُ فَأُقَدِّرُهُ بِوَسَطِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَهُوَ كَالشُّرُوطِ بِالنَّصِّ وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْوَسَطَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَإِنْ وَصَفُوا لَهُ مَوْضِعًا فَوَجَدَ وَجْهَ الْأَرْضِ لِينًا فَلَمَّا حَفَرَ ذِرَاعًا وَجَدَ جَبَلًا أُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يَحْفِرَ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْفِرُ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوا لَهُ لَحْدًا وَلَا شِقًّا فَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ فَعَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى اللَّحْدِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى الشِّقِّ فَهُوَ عَلَى الشِّقِّ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْمُتَعَارَفَ وَالْمُتَعَارَفُ مَا عَلَيْهِ عِظَمُ الْعَمَلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَكْرِيَ لَهُ نَهْرًا، أَوْ قَنَاةً فَأَرَاهُ مِفْتَحَهَا وَمَصَبَّهَا وَعَرْضَهَا وَسَمَّى لَهُ كَمْ يُمْكِنُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ طَيَّهَا بِالْأَجْرِ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْأَجِيرِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَهَذَا بَيْعُ شَرْطٍ فِي الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَ الْآجُرَّ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يُسَمِّ عَدَدَ الْآجُرِّ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْآجُرِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا يَعْمَلُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ عَدَدَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْآجُرِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ، وَإِنْ سَمَّى عَدَدَ الْآجُرِّ وَكَيْلَ الْجِصِّ وَعَرْضَ الطَّيِّ وَطُولَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْمُنَازَعَةِ أَبْعَدُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَحْفِرُونَ لَهُ سِرْدَابًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُسَمِّيَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَقَعْرَهُ فِي الْأَرْضِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذَلِكَ، وَبَعْدَ الْإِعْلَامِ إذَا عَمِلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ يَقْبَلُ الْعَمَلَ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَكُوا مَعَ عَمَلِهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي عَمَلِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهُمْ بِتَرْكِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَهُ الْأَجْرُ مَعَهُمْ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعَمَلَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ حِصَّتِهِ، وَيَكُونُ عَمَلُهُمْ فِي حِصَّتِهِ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عِنْدَ الْعَمَلِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ مَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ زَادَ عَمَلُهُ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ.
رَجُلٌ تَكَارَى رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَرْضٍ مَعْلُومٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَعَمَ الْحَفَّارُ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَحْفِرَهَا خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا بَعْدُ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ وَاحْتِمَالِهِ لِلْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَفَرَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعْطِيهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَيَحْلِفُ الْأَجِيرُ عَلَى دَعْوَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَفْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ أُخْرَى مِمَّا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَشَارَكَانِ فِيمَا بَقِيَ وَلَوْ قَالَ احْفِرْ لِي فِي هَذَا الْمَكَانِ فَحَفَرَ فَانْتَهَى إلَى جَبَلٍ لَا يُطَاقُ أَيْ لَا يُطَاقُ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ فَالْأَجِيرُ بِالْخِيَارِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ إجَارَةِ الْبِنَاءِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَبْنِي لَهُ حَائِطًا بِالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَأَعْلَمَهُ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَعُمْقَهُ وَارْتِفَاعَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ عُرْفًا وَيَقْدِرُ الْأَجِيرُ عَلَى إيفَائِهِ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا أَلْفَ آجُرَّةٍ مِنْ هَذَا الْآجُرِّ وَكَذَا كَذَا مِنْ الْجِصِّ وَلَمْ يُسَمِّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ دُونَ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَالْعَمَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْحَائِطِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَفِي أَسْفَلِ الْحَائِطِ يَكُونُ الْعَمَلُ أَسْهَلَ وَكُلُّ مَا يَرْتَفِعُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَانَ الْعَمَلُ أَشَقَّ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ (فَقَالَ) هَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَبُنْيَانُ مِقْدَارِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ يَصِيرُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَلَوْ سَمَّى مَعَ ذَلِكَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ كَانَ أَجْوَدَ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْجَهَالَةِ أَبْعَدُ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا آجُرًّا وَلَبِنًا وَلَمْ يُسَمِّ الْمُلَبَّنَ وَلَمْ يُرِهِ إيَّاهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ إنْ كَانَ مُلَبَّنُ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْآجُرَّ وَاللَّبِنُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ قِيَاسُ النَّقْدِ فِي ذَلِكَ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَنَّاءً لِيَبْنِيَ لَهُ دَارًا الْأَسَاسُ وَالسَّرَادِيبُ وَالسُّفْلُ وَالْعُلُوُّ بِالطَّاقَاتِ وَالْأَسَاطِينُ وَالْحِيطَانُ عَلَى مِثْلِ مَا يَبْنِي بِالْكُوفَةِ كُلَّ أَلْفِ آجُرَّةٍ وَأَرْبَعَةَ أَكْرَارِ جِصٍّ بِكَذَا فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَسَاسَ وَالسُّفْلَ أَهْوَنُ مِنْ الْعُلُوِّ وَالطَّاقَاتُ أَشَدُّ مِنْ الْحَائِطِ الْمُسْتَطِيلِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَالْبَنَّاءُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِ الْبِنَاءِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ (فَقَالَ) صِفَةُ الْبِنَاءِ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَبْنِي دَارِهِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّفُ التَّفَاوُتُ فَهُوَ يَسِيرٌ لَا تُجْزِئُ الْمُنَازَعَةُ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ.
(قَالَ) وَاجْعَلْ الزَّنَابِيلَ وَالدِّلَاءَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الْبَنَّاءَ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ الْعَمَلَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَ مِنْ الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ فَيَكُونُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ كَالْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَلَا طَعَامَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الْتَزَمَ الْأَجْرَ وَالطَّعَامَ وَرَاءَ الْأَجْرِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَادٌ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَإِنْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ الزِّنْبِيلَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِإِرَادَةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَاسْتِئْجَارِ الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ أَنْ يُسْقِيَهُ إنْ كَانَتْ فِي الدَّارِ بِئْرٌ، أَوْ كَانَتْ الْبِئْرُ قَرِيبَةً مِنْ الدَّارِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ، وَلَكِنْ الْمَرْءُ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَالزِّنْبِيلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ بِالْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِنْ تَكَارَى رَجُلًا يَعْمَلُ لَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ فَيَعْمَلُ لَهُ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْغَدَاةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ تَكَارَاهُ يَوْمًا وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ صَارَ مُسْتَثْنًى، وَلِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ وَآخِرُ الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ امْتِدَادِ الصَّوْمِ إلَيْهِ.
(قَالَ) وَالْعُمَّالُ بِالْكُوفَةِ يَعْمَلُونَ إلَى الْعَصْرِ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوهُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، وَقَدْ نَصَّ عِنْدَ الْعَقْدِ عَلَى يَوْمٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا عَنْ شَرْطٍ، وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى وَضْعِ الْجُذُوعِ وَالْهَوَادِي وَكَنْسِ السُّطُوحِ وَتَطْيِينِهَا وَسَمَّى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِاللَّبِنِ فَعَلَى الْبَنَّاءِ بَلُّ الطِّينِ وَنَقْلُهُ إلَى الْحَائِطِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا بَعِيدًا فَيَكُونَ بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ أَرَاهُ الْمَكَانَ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِالْتِزَامِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الضَّرَرِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا بِالرَّهْصِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالِارْتِفَاعَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا سَمَّى يَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ إجَارَةِ الرَّقِيقِ فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُتَعَارَفٌ، وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ فَهُوَ عَمَلٌ مُبَاحٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مِنْ السَّحَرِ إلَّا أَنْ تَنَامَ النَّاسُ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَابْتِدَاءُ الِاسْتِخْدَامِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ مُتَعَارَفٌ فَمَنْ يَبْتَكِرُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْرِجَ الْخَادِمُ وَيُهَيَّأَ أَمْرَ طَهُورِهِ وَيَرْفَعَ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَبْسُطَ ثَوْبَ تَعَبُّدِهِ، وَكَذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ قَدْ يَجْلِسُونَ سَاعَةً خُصُوصًا فِي زَمَنِ طُولِ اللَّيَالِي، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ يَبْسُطُ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَطْوِي ثِيَابَهُ وَيُطْفِئُ السِّرَاجَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَخْدُمُهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ فَمَا يَكُونُ أَعْمَالُ الْخِدْمَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمَمَالِيكِ وَالْخَدَمِ وَلَا يُكَلِّفُونَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ الِاسْتِخْدَامُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَيْهَا إذَا خَلَا بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ إذَا عَمِلَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ يُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ شَهْرًا فَشَهْرًا، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ.
وَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ إلَى رَجُلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فِي تَعْلِيمِ النَّسْخِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَوْلَى كُلَّ شَهْرٍ شَيْئًا مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ وَتَعْلِيمُ الْأَعْمَالِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ وَيَقُومُ عَلَى غُلَامِهِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ الْغُلَامَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي حَوَائِجِهِ وَاسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِمَا سَمَّى مِنْ الْبَدَلِ وَتَعْلِيمِ الْعَمَلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ عِوَضًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ.
فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ وَالْحِسَابِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ فَالْحَاذِقَةُ لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ دُونَ الْمُعَلِّمِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ إلَى عَامِلٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى سَنَةً فَأَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ إلَّا دِرْهَمًا وَبَاقِي السَّنَةِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ الْأُسْتَاذُ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَا يَتَضَرَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ الْأُسْتَاذُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ.
(قَالَ) وَإِنْ أَرَادَ الْأُسْتَاذُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ جَعْلَ السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا الشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِدِرْهَمٍ وَالشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِبَقِيَّةِ الْأَجْرِ، وَهَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُخَالِفُ الْأَجْرَيْنِ فَيَجْعَلُ أَحَدَهُمَا دَنَانِيرَ وَالْآخَرَ دَرَاهِمَ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّوَثُّقِ، وَإِنَّمَا قَصَدَا بِهَذَا التَّحَرُّزَ عَنْ جَهْلِ بَعْضِ الْحُكَّامِ كَيْ لَا يَجْعَلُوا عَقْدًا وَاحِدًا لِاتِّصَالِ الْمُدَّةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَاتِّحَادِ جِنْسِ الْأَجْرِ.
وَإِذَا دَفَعَ غُلَامَهُ إلَى عَامِلٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَجْرًا، أَوْ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَلَمَّا عَلَّمَهُ الْعَمَلَ قَالَ الْأُسْتَاذُ لِي الْأَجْرُ.
وَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ لِي الْأَجْرُ فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا تَصْنَعُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِلْأُسْتَاذِ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَى الْأُسْتَاذِ أَجْرَ مِثْلِهِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ مُطْلَقًا بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ يُوَافِقُ الْعُرْفَ قَوْلُهُ وَالْبَنَّاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ.
(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْعَمَلُ الَّذِي يُشْتَرَطُ لِلْأُسْتَاذِ فِيهِ الْأَجْرُ فِي دِيَارِنَا عَمَلُ الْمَغَازِلِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْحَسَبَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُنَقِّبُ الْجَوَاهِرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَعَلِّمُ بَعْضَ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَتَعَلَّمَ.
فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْأَجْرُ لِلْأُسْتَاذِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجْرُ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَيُصَارُ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ.
فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ غُلَامًا فِي عَمَلٍ مُسَمًّى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَالْعَقْدُ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كَلِمَةَ كُلَّ إلَى مَا لَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ وَكُلَّ شَهْرٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ.
فَإِذَا دَخَلَ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمٌ وَاحِدٌ وَاسْتَعْمَلَهُ فِيهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهُمَا دَلَالَةً، وَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ.
وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْهَا حَتَّى رَجَعَ الْعَبْدُ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِيمَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ وَشَهْرًا بِسِتَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا إنْ كَانَ ذَكَرَ الْخَمْسَةَ أَوَّلًا فَفِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَجِبُ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا يَتَعَيَّنُ لَهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ الْمَذْكُورَ آخِرًا إلَى الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ شَهْرَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَالشَّهْرَانِ الْأَوَّلَانِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِتَفْسِيرِهِ بِالشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْ خِدْمَةِ الْحَضَرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ شُقَّةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ (قِيلَ) هُوَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ لِلْخِدْمَةِ (قُلْنَا) إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ بِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ أَجِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ اسْتِخْدَامُهُ فِي الْكُوفَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَجِيرَهُ، وَإِنْ سَافَرَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِالْإِخْرَاجِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْعَبْدِ بِالْكُوفَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْكُوفَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ لِيَسْتَخْدِمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِدْمَةَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِخْدَامَ فَقَطْ وَالسَّفَرُ بِهِ وَرَاءَ الِاسْتِخْدَامِ وَهُوَ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ سَافَرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَعَطِبَ فَهُوَ ضَامِنٌ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدَّابَّةِ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إنَّهُ لَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَفِي الْعَبْدِ أَوْلَى وَهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْعَبْدُ مُخَاطَبٌ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَيَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهِ عِنْدَ الِاسْتِخْدَامِ عَادَةً فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَفْهَمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا تَتَفَاوَتُ فِي السَّيْرِ إلَّا بِالضَّرْبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُتَعَارَفًا.
وَإِنْ دَفَعَ الْأَجْرَ عِنْدَ غُرَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَجَّرَهُ لَمْ يَبْرَأُ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا مَالِكَ لِلْأَجْرِ فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ نَفْسَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ وَإِلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَبِأَمْرِهِ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ، وَأَنْ يَخِيطَ وَيَخْبِزَ وَيَعْجِنَ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ وَيُعَلِّقَ عَلَى دَابَّتِهِ وَيَنْزِلَ بِمَتَاعِهِ مِنْ ظَهْرِ بَيْتٍ، أَوْ يَرْقَى بِهِ إلَيْهِ وَيَحْلُبَ شَاتَه وَيَسْتَقِيَ لَهُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْخِدْمَةِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَفِي اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ كُلِّ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْعِدَهُ خَيَّاطًا وَلَا فِي صِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ التِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ الْخِدْمَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إطْعَامُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِ عُرْفًا ظَاهِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِخِدْمَةِ أَضْيَافِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خِدْمَتِهِ فَالْإِنْسَانُ يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَخِدْمَةُ أَضْيَافِهِ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً كَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاقِلٌ لَا يَنْقَادُ إذَا كُلِّفَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَبَعْدَ الطَّاقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي.
وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْتَأْجِرُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا اخْدِمِينِي وَعِيَالِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعِيَالِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ فِي الْعَادَةِ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَأْجِرَةُ فَتَزَوَّجَتْ فَقَالَتْ اخْدِمْنِي وَزَوْجِي فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهَا وَهُوَ أَظْهَرُ فَخِدْمَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَتْهُ لِيَنُوبَ عَنْهَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهَا وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ0 لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهَا دِينًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ عُرْفًا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَوَّجَ فَاطِمَةُ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَعَلَ أُمُورَ دَاخِلِ الْبَيْتِ عَلَيْهَا وَأُمُورَ خَارِجِ الْبَيْتِ عَلَيْهِ»، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ نَفَقَتَهَا لِتَقُومَ بِخِدْمَةِ بَيْتِهِ فَلَا تَسْتَحِقُّ مَعَ ذَلِكَ أَجْرًا آخَرَ، وَإِنْ سَمَّى.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِتُرْضِعَ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ لِتَرْعَى دَوَابَّهُ، أَوْ تَعْمَلَ عَمَلًا سِوَى خِدْمَةِ الْبَيْتِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا وَلَا مَطْلُوبٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهَا.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْآثَارِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَذَلَّةٌ بِأَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ كَالْحُرَّةِ إذَا أَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلظُّئُورَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ، وَلَوْ خَدَمَهَا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ يَرْعَى غَنَمَهَا، أَوْ يَقُومُ عَلَى عَمَلٍ لَهَا فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ لِيَخْدُمَهُ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الِابْنِ دِينًا وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ عُرْفًا فَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا وَيُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدُ الْأَجْرَ عَلَى خِدْمَةِ أَبِيهِ وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَتْهُ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا أَوْجَبُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا أَحْوَجُ إلَى ذَلِكَ وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُرْعِيَهُ غَنَمًا، أَوْ يَعْمَلَ غَيْرَ الْخِدْمَةِ جَازَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْعُرْفِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ أَوْ جَدَّهُ، أَوْ جَدَّتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ اسْتِخْدَامِ هَؤُلَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِذْلَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ قَبْلَهُمْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هُوَ وَلَا يَتْرُكُ هُوَ لِيَسْتَخْدِمَ وَالِدَهُ وَلَا الْوَالِدَةَ تَخْدُمُهُ، وَلَكِنْ إنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِخْدَامِ لَوْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرَ كَانَ مَعْنَى الْإِذْلَالِ فِيهِ أَكْبَرَ، وَلِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنْ لَا تَصِيرُ خِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى أَقَامَ الْعَمَلَ.
وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا فَاسْتَأْجَرَهُ أَبُوهُ لِخِدْمَتِهِ وَأَبُوهُ حُرٌّ غَنِيٌّ عَنْ خِدْمَتِهِ، أَوْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ سِوَى مَوْلَاهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَلِأَنَّ خِدْمَتَهُ لِمَوْلَاهُ وَلَا سَبَبَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ حَتَّى لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَبِيهِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا.
فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ خِدْمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَالِابْنُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَمْنُوعٌ مِنْ إذْلَالِ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؛ وَلِهَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَفِي اسْتِخْدَامِهِ إذْلَالُهُ وَلَا يَلْحَقُهُ الذُّلُّ فِي أَنْ يَخْدُمَ ابْنَهُ، وَلَيْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ فَإِنْ عَمِلَ جَعَلْت لَهُ الْأَجْرَ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا وَالِابْنُ مُسْلِمًا أَوْ الِابْنُ كَافِرًا وَالْأَبُ مُسْلِمًا فَاسْتَأْجَرَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الِابْنِ دِينًا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ ابْنِهِ لِلْخِدْمَةِ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الدِّينِ وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْخِدْمَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ كَمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْضَى بِهِ الْخَادِمُ وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ.
فَأَمَّا هَذَا عَقْدٌ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ وَالِاسْتِخْدَامُ عَنْ تَرَاضٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْلِمًا لِخِدْمَتِهِ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى وَرَاءَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا لِخِدْمَتِهِ كَانَ جَائِزًا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِ مِنْ أَمْرِ الطَّهُورِ وَنَحْوِهِ فَرُبَّمَا لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي الْإِفْسَادِ مِنْ دِينِكُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.