فصل: بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ:

(اعْلَمْ) أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لِأَوْقَاتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَلِهَذَا تَكَرَّرَ وُجُوبُهَا بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ وَتُؤَدَّى فِي مَوَاقِيتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا يَغْفِرُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}».
وَلِلْمَوَاقِيتِ إشَارَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ فَقَوْلُهُ حِينَ تُمْسُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَصْرُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْمَغْرِبُ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْفَجْرُ، وَعَشِيًّا الْعِشَاءُ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دُلُوكُ الشَّمْسِ الزَّوَالُ فَالْمُرَادُ بِهِ الظُّهْرُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دُلُوكُهَا غُرُوبُهَا وَالْمُرَادُ الْمَغْرِبُ، إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَهُوَ الْعَصْرُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ} وَقَالَ الْحَسَنُ الْفَجْرُ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ ثُمَّ بَدَأَ بِبَيَانِ وَقْتِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَوَّلِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ.
قَالَ (وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) وَالْفَجْرُ فَجْرَانِ كَاذِبٌ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبَ السِّرْحَانِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْدُو فِي السَّمَاءِ طُولًا وَيَعْقُبُهُ ظَلَامٌ،
وَالْفَجْرُ الصَّادِقُ وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ فَبِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْكَاذِبِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ عَلَى الصَّائِمِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ الصَّادِقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَغُرَّنكُمْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ» يَعْنِي الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ، وَقَالَ الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا لَا هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ طُولًا.
وَالْأَصْلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ فَصَلَّى بِي الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا ثُمَّ قَالَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ لَك وَلِأُمَّتِك وَهُوَ وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَآخِرُهُ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ وَلَكِنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْوَقْتِ الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ» وَفِي حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}»
قَالَ (وَوَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنَّهُ يَدْخُلُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ إلَّا شَيْئًا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ إذَا صَارَ الْفَيْءُ بِقَدْرِ الشِّرَاكِ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ الْفَيْءُ بِقَدْرِ الشِّرَاكِ».
وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أَيْ لِزَوَالِهَا وَالْمُرَادُ مِنْ الْفَيْءِ مِثْلَ الشِّرَاكِ الْفَيْءُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي يَكُونُ لِلْأَشْيَاءِ وَقْتَ الزَّوَالِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَوْقَاتِ فَاتَّفَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَدْ قِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى لِكُلِّ شَيْءٍ فَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَّا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ فَلَا يَبْقَى بِمَكَّةَ ظِلٌّ عَلَى الْأَرْضِ وَبِالْمَدِينَةِ تَأْخُذُ الشَّمْسُ الْحِيطَانَ الْأَرْبَعَةَ وَذَلِكَ الْفَيْءُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّقْدِيرِ بِالظِّلِّ قَامَةً أَوْ قَامَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَغْرِزُ خَشَبَةً فِي مَكَان مُسْتَوٍ وَيَجْعَلُ عَلَى مَبْلَغِ الظِّلِّ مِنْهُ عَلَامَةً فَمَا دَامَ الظِّلُّ يَنْقُصُ مِنْ الْخَطِّ فَهُوَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَإِذَا وَقَفَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ فَهُوَ سَاعَةُ الزَّوَالِ وَإِذَا أَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ زَالَتْ وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَعِنْدَهُمَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا فِي خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَةً يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ النَّاسُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، كَمَا أَنَّ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَقْتًا مُهْمَلًا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «إمَامَةِ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ صَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ أَوْ قَالَ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ بِالْأَمْسِ» وَهَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَلْ نَقَصْت مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَهَذَا فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» بَيَّنَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَقَلُّ عَمَلًا مِنْ النَّصَارَى فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقَلُّ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا امْتَدَّ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَأَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَرِّ فِي دِيَارِهِمْ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَلِأَنَّا عَرَفْنَا دُخُولَ وَقْتِ الظُّهْرِ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي خُرُوجِهِ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَةً لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ وَالْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَالْأَوْقَاتُ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِيهِ «أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ» وَالْوَقْتُ يَبْقَى بَعْدَهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَفِيهِ أَيْضًا «أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ» وَالْوَقْتُ يَبْقَى بَعْدَهُ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ فَإِذَا مَضَى بِقَدْرِ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَكَانَ الْوَقْتُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا، «فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ «صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ» أَيْ قَرُبَ مِنْهُ «وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ» أَيْ تَمَّ وَزَادَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ أَيْ قَرُبَ بُلُوغُ أَجَلِهِنَّ، وَقَالَ تَعَالَى {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أَيْ انْقِضَاءُ تَمَّ عِدَّتُهُنَّ وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ خَالَفْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَقُلْت أَوَّلُهُ إذَا زَادَ الظِّلُّ عَلَى قَامَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَغَيُّرُ الشَّمْسِ إلَى الصُّفْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَادَتْ الشَّمْسُ تَتَغَيَّرُ».
(وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ أَيْ أَدْرَكَ الْوَقْتَ» وَلَكِنْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ الشَّمْسُ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ يَقْعُدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي صَلَاةٌ حِينَ مَا تَحْمَارُّ الشَّمْسُ بِفَلْسَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلضَّوْءِ أَمْ لِلْقُرْصِ فَكَانَ النَّخَعِيُّ يَعْتَبِرُ تَغَيُّرَ الضَّوْءِ وَالشَّعْبِيُّ يَقُولُ الْعِبْرَةُ لِتَغَيُّرِ الْقُرْصِ وَبِهَذَا أَخَذْنَا؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الضَّوْءِ يَحْصُلُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِذَا صَارَ الْقُرْصُ بِحَيْثُ لَا تَحَارُ فِيهِ الْعَيْنُ فَقَدْ تَغَيَّرَتْ قَالَ (وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ تَغْرُبُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ مُقَدَّرٌ بِفِعْلِهِ فَإِذَا مَضَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَإِنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ».
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ وَآخِرَهُ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ وَقْتِ اسْتِحْبَابِ الْأَدَاءِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسْتَبْرِئُ فِيهِ الْغُرُوبَ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ» وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَدَاءَ الْمَغْرِبِ يَوْمًا حَتَّى بَدَا نَجْمٌ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى نَجْمَيْنِ طَالِعَيْنِ قَبْلَ أَدَائِهِ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ فَهَذَا بَيَانُ كَرَاهِيَةِ التَّأْخِيرِ فَأَمَّا وَقْتُ الْإِدْرَاكِ يَمْتَدُّ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَالشَّفَقُ الْبَيَاضُ الَّذِي بَعْدَ الْحُمْرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الْحُمْرَةُ الَّتِي قَبْلَ الْبَيَاضِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَهَكَذَا رَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الطَّوَالِعَ ثَلَاثَةٌ وَالْغَوَارِبَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ لِدُخُولِ الْوَقْتِ الْوَسَطُ مِنْ الطَّوَالِعِ وَهُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي فَكَذَلِكَ فِي الْغَوَارِبِ الْمُعْتَبَرُ لِدُخُولِ الْوَقْتِ الْوَسَطُ وَهُوَ الْحُمْرَةُ فَبِذَهَابِهَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْبَيَاضِ مَعْنَى الْحَرَجِ فَإِنَّهُ لَا يَذْهَبُ إلَّا قَرِيبًا مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ (وَقَالَ) الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ رَاعَيْت الْبَيَاضَ بِمَكَّةَ فَمَا ذَهَبَ إلَّا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: لَا يَذْهَبُ الْبَيَاضُ فِي لَيَالِي الصَّيْفِ أَصْلًا بَلْ يَتَفَرَّقُ فِي الْأُفُقِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ عِنْدَ الصُّبْحِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ جَعَلْنَا الشَّفَقَ الْحُمْرَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْحُمْرَةُ أَثَرُ الشَّمْسِ وَالْبَيَاضُ أَثَرُ النَّهَارِ فَمَا لَمْ يَذْهَبْ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ إلَى اللَّيْلِ مُطْلَقًا وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ صَلَاةُ اللَّيْلِ كَيْفَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «وَقْتُ الْعِشَاءِ إذَا مَلَأَ الظَّلَامُ الظِّرَابَ» وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ» أَيْ اسْتَوَى الْأُفُقُ فِي الظَّلَامِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ذَهَابِ الْبَيَاضِ فَبِذَهَابِهِ يَخْرُجُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَيَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ.
فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ.
وَالْمُرَادُ بَيَانُ وَقْتِ إبَاحَةِ التَّأْخِيرِ فَأَمَّا وَقْتُ الْإِدْرَاكِ فَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ».
(وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَيَبْقَى وَقْتُهَا مَا بَقِيَ اللَّيْلُ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَخْرُجُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» دَلِيلٌ لَنَا أَيْضًا إنْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَالْمَشْهُورُ اللَّفْظُ الَّذِي رَوَيْنَا قَالَ (وَالتَّنْوِيرُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ بِهَا عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ التَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ إنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ «عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنَّ النِّسَاءُ يَنْصَرِفْنَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ» وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْفَجْرَ وَلَا يَعْرِفُ أَحَدُنَا مَنْ إلَى جَنْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ» وَلِأَنَّ فِي هَذَا إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.
(وَلَنَا) حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «نَوِّرُوا بِالْفَجْرِ أَوْ قَالَ أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ يُبَارَكُ لَكُمْ» وَلِأَنَّ فِي الْإِسْفَارِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ وَفِي التَّغْلِيسِ تَقْلِيلَهَا، وَمَا يُؤَدِّي إلَى تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَمَكَثَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» وَإِذَا أَسْفَرَ بِهَا تَمَكَّنَ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ وَعِنْدَ التَّغْلِيسِ قَلَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا.
فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَاتِ إسْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ «قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبِيحَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمئِذٍ بِغَلَسٍ» فَدَلَّ أَنَّ الْمَعْهُودَ إسْفَارُهُ بِهَا، فَإِنْ ثَبَتَ التَّغْلِيسُ فِي وَقْتٍ فَلِعُذْرِ الْخُرُوجِ إلَى سَفَرٍ أَوْ كَانَ ذَلِكَ حِينَ يَحْضُرُ النِّسَاءُ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ حِينَ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ قَالَ (وَالْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا وَيُبَرِّدَ بِهَا فِي الصَّيْفِ وَفِي الشِّتَاءِ يُعَجِّلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ يُعَجِّلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ يُؤَخِّرُ يَسِيرًا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي خِيَامِنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» أَيْ لَمْ يُجِبْنَا إلَى شَكْوَانَا فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُ الظُّهْرَ وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ جَاءَ بِلَالٌ لِيُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ هَكَذَا مِرَارًا فَلَمَّا صَارَ لِلتِّلَالِ فَيْءٌ قَالَ أَذِّنْ».
وَلِأَنَّ فِي التَّعْجِيلِ فِي الصَّيْفِ تَقْلِيلَ الْجَمَاعَاتِ وَإِضْرَارًا بِالنَّاسِ فَإِنَّ الْحَرَّ يُؤْذِيهِمْ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ خَبَّابٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَرْكَ الْجَمَاعَةِ أَصْلًا.
عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ لَمْ يَدَعْنَا فِي الشِّكَايَةِ بَلْ أَزَالَ شَكْوَانَا بِأَنْ أَبْرَدَ بِهَا، فَأَمَّا فِي الشِّتَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي الشِّتَاءِ فَلَا يَدْرِي أَنَّ مَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرُ أَمْ مَا بَقِيَ» «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ إذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَبْرِدْ فَإِنْ تَقَيَّلُوكَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ فَإِنَّ اللَّيَالِيَ طِوَالٌ» فَأَمَّا الْعَصْرُ فَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ يَدْخُلْهَا تَغَيُّرٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي» وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي وَيَنْحَرُ الْجَزُورَ وَيَطْبُخُ وَيَأْكُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ».
(وَلَنَا) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ» وَهَذَا مِنْهُ بَيَانُ تَأْخِيرٍ لِلْعَصْرِ، «وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنْتُمْ أَشَدُّ تَأْخِيرًا لِلظُّهْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ تَأْخِيرًا لِلْعَصْرِ مِنْكُمْ» وَقِيلَ سُمِّيَتْ الْعَصْرَ؛ لِأَنَّهَا تُعْصَرُ أَيْ تُؤَخَّرُ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ تَكْثِيرَ النَّوَافِلِ وَأَدَاءُ النَّافِلَةِ بَعْدَهَا مَكْرُوهٌ وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ فِي الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ لِأَنَّ أَدَاءَ النَّافِلَةِ قَبْلَهَا مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَمَكَثَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا أَخَّرَ الْعَصْرَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَقَدْ كَانَتْ حِيطَانُ حُجْرَتِهَا قَصِيرَةً فَتَبْقَى الشَّمْسُ طَالِعَةً فِيهَا إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَأْخِيرَهَا مَكْرُوهٌ وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِلْآثَارِ وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ تُؤَخَّرُ الْمَغْرِبُ لِيُجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِعْلًا، فَلَوْ كَانَ الْمَذْهَبُ كَرَاهَةَ التَّأْخِيرِ لَمَا أُبِيحَ ذَلِكَ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ كَمَا لَا يُبَاحُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ الشَّمْسُ وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةً» وَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيَانِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ وَإِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ.
فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا تَأْخِيرُهَا إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ لِحَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ حِينَ يَسْقُطُ الْقَمَرُ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ» وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَكُونُ، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِهَا تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ خُصُوصًا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ أَمَا أَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا سَقَمُ السَّقِيمِ وَضَعْفُ الضَّعِيفِ لَأَخَّرْت الْعِشَاءَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْت الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» (وَكَتَبَ) عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ صَلِّ الْعِشَاءَ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَإِنْ أَبَيْت فَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنْ نِمْت فَلَا نَامَتْ عَيْنَاك وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَخْتَارُ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» وَالْعَفْوُ يَكُونُ بَعْدَ التَّقْصِيرِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إحْرَازَ الْفَضِيلَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ عُذْرٌ يُعْجِزُهُ عَنْ إحْرَازِهَا وَأَصْحَابُنَا اخْتَارُوا التَّأْخِيرَ فَفِيهِ انْتِظَارٌ لِلصَّلَاةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا» وَفِي التَّأْخِيرِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا وَفِيهِ تَقْلِيلُ النَّوْمِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَا كَانَ امْتِدَادُ الْوَقْتِ إلَّا لِلتَّيْسِيرِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إظْهَارُ مَعْنَى التَّيْسِيرِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» فَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ الْفَضْلُ قَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَفْوُ هَاهُنَا عَلَى التَّجَاوُزِ عَنْ التَّقْصِيرِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ لِلصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ إلَى شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ تَقْصِيرٌ فَإِنَّ الزَّلَّةَ الَّتِي تَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ قَالَ (وَفِي يَوْمِ الْغَيْمِ الْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّأْخِيرُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ أَفْضَلُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْ بَعْدَ ذَهَابِهِ يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي الْفَجْرِ الْمُسْتَحَبَّ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ بِهَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَقَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي وَلِأَنَّ النَّاسَ يَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ فِي التَّعْجِيلِ عِنْدَ الظُّلْمَةِ بِسَبَبِ الْغَيْمِ فَيُؤَخَّرُ لِيَكُونَ فِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ فِي الظُّهْرِ يُؤَخَّرُ لِكَيْ لَا يَقَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيُعَجَّلُ الْعَصْرُ لِكَيْ لَا يَقَعَ فِي حَالِ تَغْيِيرِ الشَّمْسِ وَيُؤَخَّرَ الْمَغْرِبُ لِكَيْ لَا يَقَعَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِالْمَطَرِ يَأْخُذُهُمْ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى مَنَازِلِهِمْ وَعِنْدَ الْغَيْمِ يُنْتَظَرُ الْمَطَرُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ لِيَنْصَرِفُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُمْطَرُوا قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ إحْدَاهُمَا فِي حَضَرٍ وَلَا فِي سَفَرٍ) مَا خَلَا عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ فَيُؤَدِّيهِمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ فَيُؤَدِّيَهَا فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، عَلَيْهِ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَفِيمَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَقْتًا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِعُذْرِ الْمَرَضِ أَيْضًا.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ السَّفَرِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرِهِ إلَى تَبُوكَ» وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّفَرُ» وَعَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا جَمْعًا وَثَمَانِيًا جَمْعًا» فَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَبِالثَّمَانِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَيْضًا قَالَ «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ».
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} أَيْ فِي مَوَاقِيتِهَا وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ» وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَكَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَلَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَقْتٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ شَرْعًا فَكَذَلِكَ الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ.
وَتَأْوِيلُ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَانَ فِعْلًا لَا وَقْتًا وَبِهِ نَقُولُ، وَبَيَانُ الْجَمْعِ فِعْلًا أَنَّ الْمُسَافِرَ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ يَمْكُثُ سَاعَةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَيُصَلِّيهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّيهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِعْلًا.
الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ «نَافِعٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْ مَكَّةَ فَاسْتَصْرَخَ بِامْرَأَتِهِ فَجَعَلَ يَسِيرُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَنَادَى الرَّكْبُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِمْ حَتَّى إذَا دَنَا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالْعِشَاءَ فِي أَوَّلِهِ وَتَعَشَّى بَيْنَهُمَا، وَفِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَدَاخُلًا حَتَّى إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ الظُّهْرِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ وَعِنْدَنَا لَا تَدَاخُلَ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصٌّ بِوَقْتِهِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَيْنَا لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الْأُخْرَى قَالَ (وَوَقْتُ الْوِتْرِ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إلَى الْفَجْرِ وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ) لِحَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» «وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ يُوتَرُ لَك مَا قَبْلَهُ» «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَخَذْت بِالثِّقَةِ وَلِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَخَذْت بِفَضْلِ الْقُوَّةِ».
(فَإِنْ أَوْتَرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ بِالِاتِّفَاقِ) لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا أَوْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ بِنَاءِ الْوِتْرِ عَلَى الْعِشَاءِ.
فَأَمَّا إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ جَدَّدَ الْوُضُوءَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْعِشَاءِ دُونَ الْوِتْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ كَانَ سَاقِطًا عَنْهُ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا دُخُولَ وَقْتِ الْوِتْرِ بَعْدَ أَدَاءِ الْعِشَاءِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ مُصَلِّيًا قَبْلَ وَقْتِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْخُلُ وَقْتُ الْوِتْرِ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ إنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاجِبٌ أَوْ فَرْضٌ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَانَ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ قَالَ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَرْتَفِعَ) وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْأَوْقَاتَ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ خَمْسَةٌ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لَا يُصَلَّى فِيهَا جِنْسُ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَعِنْدَ زَوَالِهَا حَتَّى تَزُولَ وَحِينَ تَضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ».
وَفِي حَدِيثِ الصُّنَابِحِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُونَهَا حَتَّى يَسْجُدُوا لَهَا فَإِنْ ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا كَانَ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ»، وَفِي حَدِيثِ «عُمَرَ بْنِ عَنْبَسَةَ قَالَ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَاعَةٌ لَا يُصَلَّى فِيهَا فَقَالَ إذَا صَلَّيْت الْمَغْرِبَ فَالصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ إلَى أَنْ تُصَلِّيَ الْفَجْرَ ثُمَّ أَمْسِكْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ الصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ أَمْسِكْ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُسَعَّرُ فِيهَا جَهَنَّمُ ثُمَّ الصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ إلَى أَنْ تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ثُمَّ أَمْسِكْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» وَالْأَمْكِنَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا لِعُمُومِ الْآثَارِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ لِحَدِيثٍ رُوِيَ «إلَّا بِمَكَّةَ» وَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا شَاذَّةٌ فَلَا تُعَارِضُ الْمَشَاهِيرَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَقْتُ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ رُوِيَ شَاذًّا إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ لِلنَّاسِ بَلْوَى فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَالْآثَارُ الَّتِي رَوَيْنَا تُوجِبُ الْكَرَاهَةَ فِي الْكُلِّ، ثُمَّ كُلُّ وَقْتٍ يُنْهَى فِيهِ عَنْ عِبَادَةٍ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لَا تُؤَدَّى الْفَرَائِضُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّهْيُ عَنْ أَدَاءِ النَّوَافِلِ، فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَلَا بَأْسَ بِأَدَائِهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا».
(وَلَنَا) حَدِيثُ «لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ فَقَالَ بِلَالٌ أَنَا فَنَامُوا فَمَا أَيْقَظَهُمْ إلَّا حَرُّ الشَّمْسِ وَفِي رِوَايَةٍ انْتَبَهُوا وَقَدْ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبِلَالٍ أَيْنَ مَا وَعَدْتنَا قَالَ ذَهَبَ بِنَفْسِي الَّذِي ذَهَبَ بِنُفُوسِكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْوَاحُنَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَرَهُمْ فَانْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ الْوَادِي ثُمَّ نَزَلُوا فَأَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِهِمْ قَضَاءً» وَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي؛ لِأَنَّهُ تَشَاءَمَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَلَوْ جَازَ الْفَجْرُ الْمَكْتُوبَةُ فِي حَالِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمَا أَخَّرَ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي النَّهْيِ عَامَّةٌ فِي جِنْسِ الصَّلَوَاتِ وَبِهَا يَثْبُتُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْخَصْمُ.
قَالَ (وَلَا يُصَلَّى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَيْضًا) لِقَوْلِهِ «وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّفْنَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَيْضًا.
قَالَ (وَلَا يُسْجَدُ فِيهِنَّ لِلتِّلَاوَةِ أَيْضًا)؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِمَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالتَّشَبُّهُ يَحْصُلُ بِالسُّجُودِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَعَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَلَوْ أَدَّى سَقَطَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالنَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ السُّجُودِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يُمْنَعُ الْجَوَازُ (إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ الْأَدَاءِ وَعَلَى هَذَا لَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الْعَصْرِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الْفَجْرِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْغُرُوبِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ».
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا أَنَّ بِالْغُرُوبِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلْفَرْضِ وَبِالطُّلُوعِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْفَرْضِ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْفَرْضِ كَخُرُوجِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ فِي خِلَالِهَا مُفْسِدٌ لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ مِثْلِهَا، قَالَ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِي الْفَرْقِ أَنَّ الطُّلُوعَ بِظُهُورِ حَاجِبِ الشَّمْسِ وَبِهِ لَا تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بَلْ تَتَحَقَّقُ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْفَرْضِ، وَالْغُرُوبُ بِآخِرِهِ وَبِهِ تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا لِلْعَصْرِ لِهَذَا، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْوُجُوبِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا يَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ هَذَا لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ أَفْسَدْنَاهَا كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ خَارِجَ الْوَقْتِ وَأَدَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ الْكُلِّ خَارِجَ الْوَقْتِ.
وَوَقْتَانِ آخَرَانِ مَا بَعْدَ الْعَصْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ النَّوَافِلِ لِحَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَجَمَاعَةٌ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرِيضَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، إنَّمَا النَّهْيُ عَنْ التَّطَوُّعَاتِ خَاصَّةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدَّى فَرْضُ الْوَقْتِ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفَرَائِضِ فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مِنْ الْعِبَادِ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لَا تُؤَدَّى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ» «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ مَا بَالُكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا إنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ» فَقَدْ جَوَّزَ لَهُمَا الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ بَعْدَ الْفَجْرِ تَطَوُّعًا.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كَانَ بِذِي طُوًى فَطَلَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ أَخَّرَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافَ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
فَكَذَلِكَ الْمَنْذُورَةُ لَا تُؤَدَّى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ فَهِيَ كَالتَّطَوُّعِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ،
وَكَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ لَا يُصَلِّي تَطَوُّعًا إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ.
(فَإِنْ قِيلَ) لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَقْتًا آخَرَ وَهُوَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالتَّطَوُّعُ فِيهِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا (قُلْنَا) نَعَمْ وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ لَيْسَ لِمَعْنًى بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا قَالَ (وَإِذَا نَسِيَ الْفَجْرَ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَدَأَ بِهَا وَلَوْ بَدَأَ بِالظُّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَنَا) لِأَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَفَرْضِ الْوَقْتِ مُسْتَحَقٌّ عِنْدَنَا وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا بَدَأَ بِالظُّهْرِ جَازَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَقْتٌ لِلظُّهْرِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا يَكُونُ صَحِيحًا كَمَا إذَا كَانَ نَاسِيًا لِلْفَائِتَةِ ثُمَّ التَّرْتِيبُ فِي أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا لِضَرُورَةِ التَّرْتِيبِ فِي أَوْقَاتِهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُرْسَلَةً عَنْ الْوَقْتِ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ قِيَاسُ قَضَاءِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَدَاءِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» فَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ فَمِنْ ضَرُورَتِهَا أَنْ لَا يَكُونَ وَقْتًا لِغَيْرِهَا، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ حَالَةِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَائِتَةِ فَكَانَ وَقْتًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ.
ثُمَّ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَكَمَا يُرَاعَى التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ أَدَاءً فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ قَضَاءً بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ مَعَهُ وَلْيَجْعَلْهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ لِيَقْضِ مَا ذَكَرَهُ ثُمَّ لِيُعِدْ مَا كَانَ فِيهِ» وَبِعَيْنِ هَذَا نَقُولُ.
وَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ ثُمَّ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: النِّسْيَانُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ هَلْ رَآنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ فَقَالُوا لَا فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَغْرِبَ».
وَالثَّانِي: ضِيقُ الْوَقْتِ حَتَّى إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَدَارُكُ الْفَائِتَةِ بِتَفْوِيتِ مِثْلِهَا وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ فَإِنَّهُ فَرْضُ الْوَقْتِ وَلَكِنْ هُنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ لَوْ بَدَأَ بِالْفَائِتَةِ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَدَاءَةِ بِالْفَائِتَةِ وَلَوْ بَدَأَ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبُدَاءَةِ بِفَرْضِ الْوَقْتِ هُنَاكَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ أَيْضًا وَالنَّهْيُ مَتَى لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ.
وَالثَّالِثُ: كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا وَحَدُّ الْكَثْرَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهَا تَصِيرُ مُكَرَّرَةً وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى ضِيقِ الْوَقْتِ أَيْضًا فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ مَعَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ لَفَاتَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ عَنْ وَقْتِهِ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ شَهْرٍ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى شَهْرٍ وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً لَمْ يُجْزِهِ صَلَاةٌ فِي عُمْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْضِهَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لَهَا؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تَكُونُ عَنْ كَثْرَةِ تَفْرِيطِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ، ثُمَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ كَمَا لَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ.
وَعِنْدَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ يَجِبُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ مُرَتِّبًا ثُمَّ قَالَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ لَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَجَعَلَ أَوَّلَ وَقْتِ السَّادِسَةِ كَآخِرِهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَبِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ لَا تَدْخُلُ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ قَالَ (وَإِنْ ذَكَرَ الْوِتْرَ فِي الْفَجْرِ فَسَدَ فَرْضُهُ إذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا لَا يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْوِتْرَ أَضْعَفُ مِنْ الْفَجْرِ وَالضَّعِيفُ لَا يُفْسِدُ الْقَوِيَّ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَامَ عَنْ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ» فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْوِتْرِ مَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْوِتْرِ وَالْمَكْتُوبَةِ، وَلَا يَبْعُدُ إفْسَادُ الْقَوِيِّ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ لِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ كَالْمُصَلِّي إذَا قَعَدَ قَدْرَ قَعْدَةَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ فَسَجَدَ لَهَا تَبْطُلُ الْقَعْدَةُ، وَالسَّجْدَةُ أَضْعَفُ مِنْ الْقَعْدَةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ صِفَةِ الْوِتْرِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَنَا أَنَّ الْوِتْرَ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ حَتَّى أَنَّهَا تُقْضَى إذَا انْفَرَدَتْ بِالْفَوَاتِ أَلَا تَرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بَدَأَ بِقَضَاءِ الْوِتْرِ وَاَلَّذِي رُوِيَ» لَا وِتْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ تَأْخِيرِهَا لَا نَفْيَ قَضَائِهَا وَكَذَلِكَ تُقْضَى بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَدَلَّ أَنَّهَا أَقْوَى مِنْ السُّنَنِ وَهِيَ دُونَ الْفَرَائِضِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهَا وَلَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَلَا تُصَلَّى بِالْجَمَاعَةِ إلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفُوا وَرَاءَ هَذَا فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوِتْرَ فَرِيضَةٌ وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ عَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَحُجَّتُهُمَا حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ فَقَالَ لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»، وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ الْوِتْرُ فَرِيضَةٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَالَ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ».
وَقَالَ عَلِيٌّ الْوِتْرُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ وَفِي الْقُرْآنِ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَلَنْ تَتَحَقَّقَ الْوُسْطَى إلَّا إذَا كَانَ عَدَدُ الْوَاجِبَاتُ خَمْسًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي بُسْرَةَ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ وُجُوبَ الْوِتْرِ كَانَ بَعْدَ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ زَادَكُمْ وَأَضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَى نَفْسِهِ وَالسُّنَنُ تُضَافُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ بِعَدَدِ النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ كَالْمَغْرِبِ وَفِي رِوَايَةٍ وِتْرُ اللَّيْلِ كَوِتْرِ النَّهَارِ ثُمَّ وِتْرُ النَّهَارِ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ وِتْرُ اللَّيْلِ.
وَفِي اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرَاوِيحِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرُونَ رَكْعَةً وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا، غَيْرَ أَنَّ وُجُوبَ الْوِتْرِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعَمَلِ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ فَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَتُحَطُّ رُتْبَتُهُ بِسَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ فَلَا يُسَمَّى فَرْضًا مُطْلَقًا أَمَّا الْفَرْضُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْآثَارِ فِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبَاتِ ظَاهِرٌ عِنْدَنَا قَالَ (فَإِنْ افْتَتَحَ تَطَوُّعًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ) لِأَنَّ وُجُوبَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ مُخْتَصٌّ بِالْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فِي خِلَالِ الْفَرْضِ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ تَطَوُّعًا فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا كَانَ أَوْلَى قَالَ (وَالتَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا فَصْلَ بَيْنَهُنَّ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَانِ) وَمُرَادُهُ السُّنَّةُ وَلَكِنَّهُ فِي الْكِتَابِ يُسَمِّي السُّنَنَ تَطَوُّعَاتٍ وَالْأَصْلُ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَكَرَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَكِنْ ذَكَرَ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَقُلْنَا الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِحَدِيثِ «أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ سَاعَةٌ تُفَتَّحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ، فَقُلْت: أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقُلْت: أَبِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ؟ فَقَالَ: بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ»
(فَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَهُوَ حَسَنٌ) لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَانَتْ لَهُ جُنَّةٌ مِنْ النَّارِ» وَلَا تَطَوُّعَ بَعْدَهَا وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا رَكْعَتَيْنِ فَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَقَالَ: رَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ شَغَلَنِي الْوَفْدُ عَنْهُمَا فَقَضَيْتُهُمَا، فَقَالَتْ أَنَقْضِيهِمَا نَحْنُ؟ فَقَالَ: لَا»
(وَكَذَلِكَ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَهُ رَكْعَتَانِ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ (وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَهُوَ أَفْضَلُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}» وَلَمْ يَذْكُرْ التَّطَوُّعَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا (فَأَمَّا التَّطَوُّعُ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَرَكْعَتَانِ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَهُوَ أَفْضَلُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ لَهُ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (فَأَمَّا قَبْلَ الْفَجْرِ فَرَكْعَتَانِ) اتَّفَقَتْ الْآثَارُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ أَقْوَى السُّنَنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} أَنَّهُ الرَّكَعَاتُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَالَ (وَيُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ الْأَخِيرَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ أَصْحَابِهِ وَالْحَادِي يَحْدُو فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ أَمْسِكْ فَإِنَّهَا سَاعَةُ ذِكْرٍ» وَكَانَ الْكَلَامُ عَزِيزًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَيْ شَدِيدًا وَلِأَنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ جَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} أَنَّهُ يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدُوهُمْ إلَّا عَلَى خَيْرٍ قَالَ (وَالتَّطَوُّعُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعٌ لَا فَصْلَ بَيْنَهُنَّ إلَّا بِتَشَهُّدٍ وَقَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعٌ) أَمَّا قَبْلَ الْجُمُعَةِ فَلِأَنَّهَا نَظِيرُ الظُّهْرِ وَالتَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» وَاخْتَلَفُوا بَعْدَهَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعًا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا أَرْبَعًا ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ عُمَرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَرْبَعًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ بِالْقِيَاسِ عَلَى التَّطَوُّعِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَبْدَأُ بِالْأَرْبَعِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ الْفَرْضِ مِثْلَهَا وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَطْرُ الصَّلَاةِ قَالَ (وَلَا صَلَاةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) «فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فَرَأَى بَعْضَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَا لَهُمْ أَيُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَنَا؟ قِيلَ: لَا وَلَكِنَّهُمْ يَتَطَوَّعُونَ فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ يَنْهَاهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: انْهَهُمْ أَنْتَ فَقَالَ: إنِّي أَحْتَشِمُ قَوْله تَعَالَى {أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى} فَنَهَاهُمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ» وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُقَاتِلِ الرَّازِيّ يَقُولُ: إنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى لِكَيْ لَا يُشَبِّهَ عَلَى النَّاسِ فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ قَالَ (وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَهَا بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ فَحَسَنٌ) لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً»
قَالَ (وَطُولُ الْقِيَامِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ طُولُ الْقُنُوتِ وَسُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ وَطُولُ الْقِيَامِ أَشَقُّ وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ فَرْضَيْنِ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْضٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِ وِرْدَهُ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَطُولُ الْقِيَامِ أَحَبُّ.
قَالَ: (وَالتَّطَوُّعُ بِاللَّيْلِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ أَوْ أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ ثَمَانٍ أَيَّ ذَلِكَ شِئْت) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً».
الَّذِي قَالَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وِتْرُ اللَّيْلِ، وَاَلَّذِي قَالَ تِسْعَ سِتٌّ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وِتْرٌ، وَاَلَّذِي قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَمَانٍ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وِتْرٌ وَرَكْعَتَانِ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَكَانَ يُصَلِّي هَذَا كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ فَضَّلَ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ هَكَذَا ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَرَاهَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَصْلًا بِالْعِبَادَةِ وَذَلِكَ أَفْضَلُ.
ثُمَّ قَالَ (وَالْأَرْبَعُ أَحَبُّ إلَيَّ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ فَالْأَفْضَلُ رَكْعَتَانِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» وَاسْتِدْلَالًا بِالتَّرَاوِيحِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» وَلِأَنَّ فِي الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ مَعْنَى الْوَصْلِ وَالتَّتَابُعِ فِي الْعِبَادَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَالتَّطَوُّعُ نَظِيرُ الْفَرَائِضِ وَالْفَرْضُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ الْعِشَاءُ وَهِيَ أَرْبَعٌ بِتَسْلِيمَةٍ فَكَذَلِكَ النَّفَلُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «فَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَسَلِّمْ» مَعْنَاهُ فَتَشَهَّدْ وَالتَّشَهُّدُ يُسَمَّى سَلَامًا لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلَامِ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ إنَّمَا جَعَلُوهَا رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَى الْبَدَنِ وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَامَّةُ يُبْنَى عَلَى الْيُسْرِ فَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَهُوَ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ (وَأَمَّا تَطَوُّعُ النَّهَارِ فَالْأَفْضَلُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ) عِنْدَنَا عَلَى قِيَاسِ الْفَرَائِضِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَاظِبُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَفْضَلُ رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ وَلِحَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَإِنَّمَا بَدَأَ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ.
وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلِهَا فِي تَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا الْأَثَرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُصَلِّيًا بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِشَاءِ يَتَطَوَّعُ بِرَكْعَتَيْنِ لِهَذَا، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُرَادُ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ لَا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّ فِي الْفَرْضِ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَفِي النَّفْلِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطَوُّعَ قَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَانِ وَالْمُخَالَفَةُ فِي صِفَةِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّطْوِيلِ فِي الْفَرْضِ دُونَ السُّنَّةِ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ قَالَ (رَجُلٌ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ تَكَلَّمَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْأَوَّلِ وَبِدُونِ الشُّرُوعِ أَوْ النَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَرْبَعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَإِنْ نَوَاهَا وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ أَبِي الْأَزْهَرِ يَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَإِنْ نَوَى مِائَةَ رَكْعَةٍ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ فَنِيَّتُهُ عِنْدَ الشُّرُوعِ كَتَسْمِيَتِهِ عِنْدَ النَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ التَّطَوُّعَ نَظِيرُ الْفَرَائِضِ وَأَرْبَعٌ بِالتَّسْلِيمَةِ مَشْرُوعٌ فِي الْفَرَائِضِ فَيَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ فِي التَّطَوُّعِ بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَيْهِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا اخْتَارُوا قَوْلَهُ فِيمَا يُؤَدَّى مِنْ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ كَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَنَحْوِهَا قَالَ (فَإِنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ قَالَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ لَا يُفْسِدُ التَّحْرِيمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّحْرِيمَةِ صَحِيحٌ قَبْلَ مَجِيءِ أَوَانِ الْقِرَاءَةِ فَصَحَّ قِيَامُهُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ أَفْسَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَرْكِ مَا هُوَ رُكْنٌ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْكُلِّ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالتَّحْرِيمَةُ تَنْحَلُّ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعَ صِفَةِ الْفَسَادِ لَا بَقَاءَ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَصِحُّ قِيَامُهُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَا تَنْحَلُّ التَّحْرِيمَةُ وَلَكِنَّهَا تَضْعُفُ فَقِيَامُهُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي حَصَلَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ فَلَا يَكُونُ مُلْزَمًا إيَّاهُ مَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ كَمَا قَالَ فِي الشُّرُوعِ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذِهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا وَالثَّانِي إذَا قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ إتْمَامِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَقَدْ أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ وَالثَّالِثُ إذَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ دُونَ الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَالتَّحْرِيمَةُ لَمْ تَنْحَلَّ فَصَارَ شَارِعًا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ أَتَمَّهَا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا أَفْسَدَ وَهُوَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّحْرِيمَةُ انْحَلَّتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَقَطْ وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُمَا عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ، وَالرَّابِعُ إذَا قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْحَلَّتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ فَصَحَّ شُرُوعُهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ أَفْسَدَهُ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ جَرَتْ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي مَذْهَبِهِ حَتَّى عَرَضَ عَلَيْهِ الْجَامِعَ الصَّغِيرَ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَوَيْت لَك عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ رَوَيْت لِي أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَقِيلَ مَا حَفِظَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ ضَعُفَتْ بِالْفَسَادِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الشَّفْعُ الثَّانِي بِالشُّرُوعِ فِيهِ بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ وَالِاسْتِحْسَانُ مَا حَفِظَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ وَإِنْ حَصَلَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَقَدْ أَكَّدَهُ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ فَصَارَ ذَلِكَ مُلْزِمًا إيَّاهُ لِتَأَكُّدِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّأَكُّدَ يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ قَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَبِالْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَكُونُ صَلَاتُهُ بِقِرَاءَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إلَّا فِي رَكْعَةٍ، وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَالسَّادِسُ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالسَّابِعُ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَكِّدْ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ مِنْهَا، وَالثَّامِنُ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَقَطْ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَكِّدْ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَا يَصِحُّ شُرُوعُهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، فَإِنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَصَلَّاهُمَا مَعَهُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ كَمَا يَقْضِي الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ الْإِمَامَ فِي التَّحْرِيمَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ الْإِمَامُ بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ قَدْ انْحَلَّتْ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ، وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ رَجُلٌ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ وَمَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَعَلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ خَلْفَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا الْأُولَيَانِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ كُلُّهَا صَحِيحَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ قِيَامِ الْإِمَامِ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الشَّفْعُ الثَّانِي بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، فَإِذَا خَرَجَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ قِيَامِ الْإِمَامِ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الشَّفْعِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، وَإِنْ حَصَلَ أَدَاؤُهُمَا بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ قَالَ (وَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ الْفَجْرَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ يَقْضِهِمَا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهُمَا إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ.
أَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ إذَا فَاتَتْ عَنْ مَوْضِعهَا لَمْ تُقْضَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (وَدَلِيلُنَا) حَدِيثُ «أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا حِينَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَقْضِيهَا نَحْنُ؟ فَقَالَ لَا» وَلِأَنَّ السُّنَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا تَطَوَّعَ بِهِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ فَأَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَلَوْ فَاتَتْ مَعَ الْفَجْرِ قَضَاهَا مَعَهُ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ «لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ» وَلِأَنَّ لِهَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلُّوهَا فَإِنَّ فِيهَا الرَّغَائِبَ» وَإِنْ انْفَرَدَتْ بِالْفَوَاتِ لَمْ تُقْضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْفَرْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقْضِيهَا إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الزَّوَالِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي حُكْمِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقْضِيهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.